في
مهبّ مواقع التواصل
مواقع التواصل الاجتماعيّ زعزعت حياة الناس،
أربكتهم، غيّرت عوائدهم، وفي مكان ما فضحتهم، وفضحت قدراتهم اللغويّة والفكريّة.
وهنا سلأتكلم عن نقطة واحدة، هي الكتابة والنشر.
كان للنشر،
قبل زمن الأنترنت، شروط بخلاف الكتابة.
فبإمكان كلّ من يريد أن يكتب أن يكتب. الورقة البيضاء لا تمارس الإرهاب. لا أحد
يتدخّل بدفاتر الناس ولا بيومياتهم المكتوبة. فبال الورق طويل، وصبره على عيوب
الناس اللغويّة لا حدود له. ولا يتمرّد الدفتر على أي كلمة، يرحّب بالخطأ والصواب
على السواء.
ولكن النشر أمر آخر. فيما مضى، كانت شروط النشر
قاسية فلا تصل الكلمات المكتوبة إلى أماكنها على الصفحات المطبوعة إلاّ بشقّ النفس
والتعب على النفس. فالمطبوع لا يرحّب بكل مكتوب. أمّا اليوم اختلط الحابل بالنابل.
والهيبة أمام الكلمة المطبوعة سقطت تماماً كما سقطت هيبة الأب في العصر الحديث،
وتوقير الكبار. فكرة " التوقير" كمفهوم تستحقّ التدبر والمتابعة، متابعة
تحوّلاتها وتحوّلات دلالاتها. لم تعد الكلمة المكتوبة ذات وقار. سقطت هيبتها،
وسقطت الرهبة منها.
مواقع التواصل الاجتماعيّ أسقطت أشياء كثيرة، هدمت
أسواراً ولكنّها بنت، في الوقت نفسه، جسوراً، جسوراً هشّة، لا تأمن الأقدام دائماً
السير فوقها أو عبورها. فلا تخضعك وسائل التواصل الحديثة إلى امتحان دخول أو
امتحان أهليّة لتعرف مستواك اللغويّ أو الفكريّ.
غيّرت هذه المواقع من أشياء كثيرة، غيّرت من المشاعر
على سبيل المثال: مشاعر الشوق والحنين، وبدّلت أحاسيس كثيرة: إحساسك بالغربة لم
يعد هو نفسه. فالـ" فايس تايم" ومترادفاته يبقىى وجهك وصوتك في متناول
العين والأذن. أتخيّل في هذه اللحظة أبا حيّان التوحيديّ وهو يكتب نصّه الفريد عن
" الغربة". ما هي التعديلات التي كان سيدخلها لو أنّه عاد إلينا وفتح
لنفسه حساباً في الفايسبوك؟
يعيش المكتوب بفضل مواقع التواصل الاجتماعيّة حياة
جديدة، واللغة نفسها تعيش تجربة جديدة، فريدة لم تألفها من قبل لا في زمن المخطوط،
ولا في زمن المطبعة.
ولكن المعروف أنّ للغة قدرة تفوق قدرة الناس على
التأقلم مع الجديد. فاللغة طيّعة كجسد
تنين صينيّ، أو جسد قنديل بحريّ!
وما نراه اليوم من " تعكير" لغويّ إنما هو
تعكير مياه الأنهار حين هطول الامطار! وهو " تعكير" لغويّ عام، تعكير
تجده في اللغة الفرنسية ، وتجده في اللغة الانكليزية، والألمانية، والصينيّة، وسيكون
لمواقع التواصل الاجتماعي عبء توليد لغة جديدة بأساليب جديدة على غرار ما فعلت
الجريدة. فالجريدة غيّرت من أساليب الكتابة، ومن يقرأ كتاب ابراهيم اليازجي
المُعنون بـ"لغة الجرائد" يعرف كيف حرّكت الجريدة مياه اللغة الراكدة،
وأنقذتها من جمودها وبرودها، رغم الموقف السلبيّ الذي اتخذه اليازجيّ وغيره من لغة
الجرائد، وهو موقف نجده أيضاً في ذلك التعبير السلبيّ الآخر الذي ألحق بالجريدة،
وسحب مفعول "الكلام" من حبر الجرائد، وترك لها " الحكي".
والكلام ليس كالحكي! الكلام من طبقة عالية
بخلاف الحكي، ومن هنا، يمكن أن نستشفّ موقع المجتمع الذكوريّ أيضاً من خلال اختيار
تعبيرين لا يحملان الدلالة نفسها، وهما " كلام رجال" إزاء " حكي
نسوان"!
ولكن ثمّة نقطة إيجابية كبيرة أنجبتها مواقع
التواصل الاجتماعيّ، فهذه المواقع ستكون
قادرة على إنجاز ما عجزت عنه أذكى المناهج التي اعتمدت إلى الآن لمحو الأمّية،
وأغلب هذه المناهج أصيب بخيبة أمل. وسيكون فضل الهاتف الذكيّ على محو الأمّيّة غير
منكور بفعل شاشته الساحرة! رغم كلّ ما نراه ، راهناً، من " عَوْكَرَةٍ "
لغويّة.
صحيح أنّنا في زمن الصورة، زمن الصورة المكثّف، ومن
الدالّ جدّا ما نراه عند شركة أبل من اعتراف صريح بقوّة الصورة حين أنزلت، مؤخرا،
إلى سوق الهواتف الذكيّة هاتفاً لا يكتفي بكاميرا واحدة! ولكننا أيضاً في زمن
الكتابة والقراءة. فالصورة لا تحبّ أن تكون بكماء.
لقد ازداد بشكل مذهل عدد من يكتب، صارت الكتابة
عدوى! صارت الكتابة تغري حتّى من لا يعرف أن يكتب.
صارت الكتابة، وهذا ليس سيئا!، في متناول كلّ من هبّ
ودبّ. جرّ الهاتف الذكيّ جمهور الناس من رؤوس أصابعهم إلى لوحة المفاتيح، واكتسبت
الأصابع جرأة لم تكن تملكها قبل " فانوس علاء الدين" بملامسه السحرية. هذه
الجرأة هي منعطف في تاريخ الكتابة وأساليبها.
فلكلّ زمان
بيان!
بلال
عبد الهادي