الجمعة، 30 يونيو 2017

حربة المسيح في معركة أنطاكية بحسب ابن الأثير


للمؤرّخ العربيّ ابن الأثير( ت 630هـ) كتاب بعنوان " الكامل في التاريخ"،  وابن الأثير اسم علم لثلاث أخوة مهروا في ميادين ثقافية مختلفة. ومن يعمل في مجال الأدب يعرف ان هناك كتاباً مهمّا في ميدان النقد وهو" المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر" لشقيق المؤرّخ.
كنت اتصفحّ كتاب "الكامل في التاريخ" فاستوقفتني عدّة امور، فالمؤرخ كان شاهد عيان على لحظات تاريخية ومفصلية دامية في حياة العرب والمسلمين، لحظات فيها الكثير من الانكسارات والانهيارات تشبه تلك التي يعايشها الانسان العربيّ اليوم.  من هنا وجدت ان بعض كلماته هي لسان حال مجموعة كبيرة من ناس هذا الزمان، فلقد عاصر الموجة المغولية التي عصفت بمنطقة بلاد الشام ، والعراق، فقال وهو يرى الممالك تنهار، ما يلي:
" ثم دَخَلت سنة سبع عشرة وستمائة: لقد بقيتُ عدة سنين مُعرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذِكرها ، فأنا أقدّم إليه رِجلا  وأُؤخّر أخرى، فمَن الذي يَسهل عليه أن يَكتُب نَعي الإسلام والمسلمين؟ ومَن الذي يَهون عليه ذِكر ذلك ؟ فيا ليتَ أمّي لم تلِدني، ويا ليتني متّ قبل حُدوثها وكنتُ نسيًا منسيًّا، إلا أنّي حثّني جماعة من الأصدقاء علي تسطيرها وأنا مُتوقِّف، ثُم رأيتُ أن تَرْك ذلك لا يُجدي نفْعًا، فنقول: هذا الفعل يتضمّن ذِكر الحادثة العُظمى، والمُصيبة الكُبرى التي عَقَمت الأيامُ والليالي عن مِثلِها، عمّت الخلائقَ، وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إنّ العالم منذ خَلَق الله سبحانه وتعالى آدمَ، وإلى الآن، لم يُبْتَلَوا بمِثلِها، لكان صادقًا، فإنّ التواريخ لم تتضمّن ما يُقارِبها ولا ما يُدانيها
وما قاله ابن الأثير  في هذا النصّ الحزين من تعابير مزلزلة " نعي الإسلام والمسلمين" ، " عقمت الأيام والليالي عن مثلها"،  تعبّر عن فداحة  " المصيبة الكبرى"، وكلامه هنا هو قبل سقوط بغداد المدوّي  يوم الأحد 4 صفر 656 هجرية الموافق 10 فبراير 1258 ميلادية علي يد هولاكو وقتل الخليفة العبّاسي المستعصم. ولا أدري ماذا كان سيقول ابن الأثير لو سمح له العمر أن يرى انهيار الخلافة العباسية مع توابعها من مجازر
وقتل الخطباء والأئمة وحَمَلةُ القرآن، حيث تعطّلت المساجد والجماعات والجُمُعات مدة شهور ببغداد بحسب ما نقلته كتب التاريخ عن فظائع الأحداث يوم سقوط بغداد!
ولقد عاش  ابن الأثير ايضا في الفترة التي بدأت فيها الحملات الصليبية تغرز انيابها ومخالبها في العالم العربيّ، وكان شاهد عيان على بعض الاحداث الجسام شأنه في ذلك شأن الأمير اسامة بن منقذ الذي عرض في سيرته الذاتية  الشيّقة الكثير مما عاينه ورآه بأمّ العين.
 ومن جملة ما قرأت حادثة تتعلّق باحتلال أنطاكية، وفيها نقطة لا تخلو من دلالة، وهي صلة الإنسان بالخرافات، وإيمانه بالأساطير، وولعه باختراع الكرامات، وهو ولع لم يحسم أمره التقدّم العلميّ، ولا التطوّر التكنولوجيّ. فالأسطورة ضرورة إنسانية وحياتية على ما يبدة تعين الإنسان على إيجاد أجوبة لا يسمح له عقله القاصر أن يجدها أو يصوغها، ويمكن أن نعرف حضور الأسطورة في حياة الإنسان المعاصر من شبابيك تذاكر صالات السينما في العالم المتطوّر والنامي على السواء . وأنقل هنا ما ورد على لسان ابن الأثير حول دور الخرافة في تغيير مسار الحروب، والخرافة خدعة، والحرب كالخرافة خدعة، ومن الطريف أن يعمل المرء على جمع وتوثيق الخرافات التي تنبت في أرض المعارك، وتترعرع وتجول في الأذهان كالحقائق التي لا يأتيها الباطل من خلفها او قدّمها. يقول ابن الأثير، عن  معركة أنطاكية ما يليّ:
"لما سمع "قوام الدولة كربوقا" -  وكان أميرًا للموصل، وتولّى تربية عماد الدين زنكي وتعليمه فنون الفروسية والقيادة والقتال - بحال الفرنج، وملكهم أنطاكية، جمع العساكر وسار إلى الشام، وأقام بمرج دابق، واجتمعت معه عساكر الشام، تركها وعربها سوى من كان بحلب، فاجتمع معه دقاق بن تتش وطغتكين أتابك، وجناح الدولة، صاحب حمص، وأرسلان تاش، صاحب سنجار، وسليمان بن أرتق، وغيرهم من الأمراء ممن ليس مثلهم. فلما سمعت الفرنج عظمت المصيبة عليهم، وخافوا لما هم فيه من الوهن، وقلة الأقوات عندهم، وسار المسلمون، فنازلوهم على أنطاكية، وأساء كربوقا السيرة، فيمن معه من المسلمين، وأغضب الأمراء وتكبر عليهم ظناً منه أنهم يقيمون معه على هذه الحال، فأغضبهم ذلك، وأضمروا له في أنفسهم الغدر، إذا كان قتال، وعزموا على إسلامه عند المصدوقة.
وأقام الفرنج بأنطاكية، بعد أن ملكوها، اثني عشر يوماً لي لهم ما يأكلونه، وتقوت الأقوياء بدوابّهم، والضعفاء بالميتة وورق الشجر، فلما رأوا ذلك أرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد، فلم يعطهم ما طلبوا، وقال: لا تخرجون إلاّ بالسيف.
وكان معهم من الملوك بردويل، وصنجيل، وكندفري، والقمص، صاحب الرها، وبيمنت، صاحب أنطاكية، وهو المقدم عليهم. وكان معهم راهب مطاع فيهم، وكان داهية من الرجال، فقال لهم: إن المسيح، عليه السلام، كان له حربة مدفونة بالقسيان الذي بأنطاكية، وهو بناء عظيم، فإن وجدتموها فإنكم تظفرون، وإن لم تجدوها فالهلاك متحقق.
وكان قد دفن قبل ذلك حربة في مكان فيه، وعفى أثرها، وأمرهم بالصوم والتوبة، ففعلوا ذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم، ومعهم عامتهم، والصناع منهم، وحفروا في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر، فقال لهم: أبشروا بالظفر، فخرجوا في اليوم الخامس من الباب متفرقين من خمسة، وستة، ونحو ذلك، فقال المسلمون لكربوقا: ينبغي أن تقف على الباب، فتقتل كل من يخرج، فإن أمرهم الآن، وهم متفرقون، سهل. فقال: لا تفعلوا! أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم. ولم يمكن من معاجلتهم، فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين، فجاء إليهم هو بنفسه، ومنعهم، ونهاهم.
فلما تكامل خروج الفرنج، ولم يبق بأنطاكية أحد منهم، ضربوا مصافاً عظيماً، فولى المسلمون منهزمين، لما عاملهم به كربوقا أولاً من الاستهانة بهم، والإعراض عنهم، وثانياً من منعهم عن قتل الفرنج، وتمت الهزيمة عليهم، ولم يضرب أحد منهم بسيف، ولا طعن برمح، ولا رمى بسهم، وآخر من انهزم سقمان بن أرتق، وجناح الدولة، لأنهما كانا في الكمين، وانهزم كربوقا معهم. فلما رأى الفرنج ذلك ظنوه مكيدة، إذ لم يجر قتال ينهزم من مثله، وخافوا أن يتبعوهم، وثبت جماعة من المجاهدين، وقاتلوا حسبة، وطلباً للشهادة، فقتل الفرنج منهم ألوفاً، وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة، فصلحت حالهم، وعادت إليهم قوّتهم" وكان ذلك في الثامن والعشرين من شهر حزيران 1098/ الموافق للسادس والعشرين من شهر رجب  491.
كان يكفي وجود راهب " داهية من الرجال" على ما يقول ابن الأثير، في جيش الإفرنج وحربة عاديّة صقلتها الخرافة لتغيير مجرى المشاعر وتوليد قوّة من ضعف، وانتصار من تضاعيف هزيمة متوقعة.
بلال عبد الهادي






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق