منذ ايام الفينيقيين ولبنان مسكون بالناس. الوطن طرس، والأطراس هي الجلود التي كان يكتب عليها ثم تغسل من الحبر وتعاود احتضان كلمات جديدة ونصوص جديدة. هذه الطريقة من الكتابة على الطرس اوحت للناقد الفرنسي الكبير جيرار جينيت Gérard Genette بنظرية ادبية جميلة فصّلها في كتابه البديع #Palimpsestes التي تعني أطراس جمع طرس. الفكرة على صلة، الى حدّ ما، بفكرة التناصّ #Intertextualité التي وضعت اركانها زميلته #جوليا_كريستيفا. ما قرأته عن الطروس ، وجدته ، ذات يوم، في متحف #فكتور\هيجو، في حيّ فوج في باريس. لا زال المتحف يحتفظ بمكتب فكتور هيجو الخشبي الذي كان يكتب عليه قسما من ابداعاته. حين تدنو من المكتب، ترى آثار حروف على المكتب، تماما كما تترك الورقة التي نكتب عليها اثرا على الورقة التي تحتها في الدفتر، وخصوصا اذا كان الذي يكتب يشدّ على القلم. مددت يدي لملامسة صفحة المكتب فشعرت اني الامس كلمات فيكتور هيجو الطازجة وبشرتها قبل ان تتكون ، هل للكلمات بشرة كبشرة الوجه؟ ففوق الكلمة كلمة ، وفوق الكلمة كلمة اخرى، وعلى طول الكتابة حتى صار على ظهر كلّ حرف كل الالفباء الفرنسية. هذه الطبقات هي التي حوّلها جينيت الى نظرية الأطراس في النقد الأدبي اي السعي الى كل النصوص التي ذابت في النص المنقود، والنصّ المنقود ليس نصا مقطوعا من شجرة انه ذوب نصوص مقروءة من قبل من يكتب النصّ. ان نظرية الأطراس اشبه بالتنقيب في اعماق النص لانتشال القابع في باطن النصّ من نصوص أخرى. بين نصوص كثيرة قنوات جوفية قد لا ينتبه لوجودها القارئ، بل قد ينكر وجودها القارئ العجول والكسول.
أعرف ان التعامل مع النصّ اي نصّ لا يشبه تعامل الشفتين الظامئتين مع #البيبسي او الخرنوب وانما تشبه تعامل شفتين يابانيتين مع الشاي بطقوسه الهادئة والخاشعة التي تعرف ان العجلة في قراءة نص من الشيطان. خطرت ببالي هذه الأفكار وأنا أتأمل وأمضغ بعض حبّات ( القضامة بالسكر). الفكرة التي خطرت ببالي من وراء حبة القضامة بالسكر هي التالية: #السياق يلعب بالنصّ ويلعب بالذاكرة ويجعل علاقتي بالنصّ غريبة رغم الفتي الشديدة له، ولكن الفكرة لن تكون واضحة الا حين احكي قصّة حبّة القضامة بالسكّر. والفكرة ليست بنت خيال وانما بنت قراءة ميدانية وأسئلة طرحتها على اناس في مكانين فاختلفت اجابة الناس بحسب المكانين، مكان يجعل الإجابة صعبة وخاطئة ومكان يزيح الصعوبة من امام شفتيّ المسؤول. غيّر مكان المعنى يتغيّر ليس المعنى وانما ذهن من يسمع المعنى. حين افصل حكاية حبة القضامة بالسكر سوف تبدو الأمور شديدة البساطة. حبّة القضامة بالسكر ملبّسة. واللباس يولّد الالتباس، ويولّد سرّاً لا يكشفه الاّ القاضم للحبّة. بعض النصوص تحتاج لقضم، وهل " التذوّق الأدبي" غير مجاز خفيّ لحاسة الذوق التي مقرّها اللسان؟ المشترك بين النص وحبة القضامة بالسكّر أنتجه تذوق القضامة باللسان وتذوق الأدب باللسان المجازيّ.
ولكن ماذا عن حكاية القضامة بالسكر؟ وما علاقتها بالتناص والأطراس؟
لوالدي مطعم للحمّص والفول، ومنذ طفولتي وأنا على علاقة طيبة مع حبتي الحمص والفول، فأغلب أوقات الفراغ، في الصيف وفي الفرص المدرسية كنت أقضيها في المطعم، وأعمل كأي عامل من العمّال الموجودين في المطعم. ومنذ بداية العقد الثاني من عمري بدأت علاقتي الحميمة مع الكتاب، وصارت أوقات فراغي يتوزّعها المطعم والكتاب.
ومن الدمج بين العملين ولدت هذه الخاطرة. وأنا لا أستهين بالأشياء الصغيرة، ربّما يعود ذلك الى مهنة أبي المتعلقة بحبتين صغيرتين من انواع الحبوب، ومن خير هاتين الحبتين أكلت وشربت وتعلمت، وسافرت الى فرنسا لإكمال دراستي في حقلل اللغة والأدب.
وأنا على يقين بأن العلاقة بين المجالين شديدة الحميمية. مؤمن بالعلاقة الحميمة بين الكلام والطعام، ولا أجد كبير فرق بين العالمين، وجزء من اهتمامي هو لملمة خيوط هذه العلاقة.
البعض يستغرب حين أقول له: الأكل مثل الحكي.
يظنّ اني أتفلسف، أو أحكي لمجرّد الحكي، وتعجبني كثيرا ردود فعل عيون الناس، حيث الاستغراب يلعب بحجم الحدقة.
ولكن أبدأ بتعليل هذه العلاقة من الفم.
فلولا الفم لمات الناس من الجوع، ولولا الفم لما نبس الانسان ببنت شفة.
فالفم معبر للطعام الداخل، والكلام الخارج.
ثمّ أقفز إلى مسألة أخرى، وهي السفرة ( السفرة، السفر بمعنى الرحلة والسِّفْر بمعنى الكتاب) العامرة باطايب الطعام تسمّى مأدبة، والكلام بعد ان يطيّب ويبهّر يسمى أدبا.
والأدب والمأدبة من رحم واحد. فكلاهما من جذر " أ.د.ب".
ومن حسن حظّ الإنسان انهما أي الطعام والكلام ليسا على غرار الإخوة الأعداء، فهما ليسا من عشّاق قطع الأرحام.
ولن أزيد أكثر عن العلاقة بينهما، ولكن اللغة العربية واللغات الأخرى لا يبخلون عليّ بالشواهد لترسيخ هذه العلاقة.
وعن وجه الشبه بين الاثنين ، وهو وجه شبه اغلب الاحيان ، محذوف، أو متوارٍ، أبحث، وأنا أقرأ في كتب #الطبخ أو كتب النقد على السواء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق