من نِعَمِ الله علينا أن جعل لنا لسانًا
وميّزنا به عن غيرنا من الكائنات، نعبّر به عن ذاتنا وننقل علومنا وفنوننا لتعمر البسيطة
بنا، فنكون خليفة الله على الأرض مثلما وُعد جدّنا آدم عليه السلام عندما علّم الأسماء
كلّها. ولعلّ اللغة العربيّة خير ما يميّزنا نحن العرب دون سائر أبناء المعمورة، وقد
جاوز عدد الناطقين بها سبع مئة مليون نسمة. أولسنا أمّة لسان، والشعر ديواننا؟ ولكن
يبدو وقد أصبح العرب يتمنطقون بغيرها من لغات لحضارات مهيمنة، وكأنّ لعنةً قد حلّت
بأهل هذه اللغة على قداستها، فهل هي لحظات لا حضاريّة عكرة وطائشة تمرّ بها لغة الضاد؟
ليأتي ناقد لغويٌّ في كتابه " لعنة بابل" الصادر عن دار الإنشاء في طرابلس
عام ٢٠١٣، ويكشف عن هذه المشكلة ويسجّل دويّ لعنةٍ أصابت أمّتنا وجعلتنا نستحي بلغتنا؟
ستون مقالًا منشورًا في كتاب، جمعت لتظهر
مدى حرص الكاتب على هذه اللغة العبقريّة وخوفه من أن نصحو يومًا على وقع اندثار لغة
الضاد بعدما استبدّ بها الطغيان حتّى كادت تفرّ إلى غير رجعة، ولعلّه يجد نفسه وهو
الأستاذ اللغويّ في الجامعة اللبنانيّة في كلّيّة الآداب الفرع الثالث في طرابلس مسؤولًا
في هذه المعمعة اللغويّة الحاصلة. لذا ركّز في تجواله اللغويّ في لعنة بابل على أربع
نقاط، وهي:
أوّلًا: جمال اللغة العربيّة: أضاء الكاتب
على جمال اللغة العربيّة كإرثٍ وطنيٍّ علينا أن تعتزّ به، فكان بحثه الحصيف عن الجذر
اللغويّ لها وربطه بالماء وهو أصل كلّ شيءٍ حيٍّ، فهي المورد والمنهل والبحر والمحيط
الذي ينهل منه الإنسان لتنطق بلسان حاله. وهو يثمّن اللغة لكي نتمسّك بها ويضرب مثل
الكلمة: فقد تحمل برمزيّتها الموت أو الحياة، وقد تحيي الموتى رمزيًّا (١٦٢) وهي غيمة
تتشكّل في السماء باستمرار ولا تهدأ على شكل (١٣٥) وقد ينتقل المهمل منها إلى حيّز
الاستعمال بطرفة عينٍ، لذلك فهي تفرّ من أي قوانين قد توضع لها وترفض بمعانيها الزئبقيّة
أن تكون أسيرة في القواميس البكماء (٥٩) ولا تتحمّل صرامة القوانين الوضعيّة
(١٨٤). إنّها مرآة للناطقين بها، لذلك أتى الكاتب بأمثلة مستحدثة طريفة مثل" أرني
لغتك أقل لك من أنت" على شاكلة قل لي من تعاشر أقل لك من أنت.
والكاتب إذ يحترم مسيرة الكلمة على مرّ
التاريخ ويرى في تقلّبات معانيها مع تغيّر ترتيب الحروف فيها لعبةً آسرة، حتّى إنّه
يجد في قراءة سيرة الكلمات إمتاعًا لا يختلف عن قراءة سير الناس (٥٩) وكأنّنا في حضرة
الكلمة وسيرتها نكون في حضرة روائيّة للتاريخ البشريّ وطريقة تفكير الأقدمين وتطوّر
نظرتهم في الأمور، إذ تنطلق الكلمة من مهد معناها الحقيقيّ نحو معانيها المجازيّة
(٢٠٢) لذلك علينا تتبّع مسيرتها، مسجّلًا الكاتب لشهرزاد سابقة فتح شبابيك اللغة على
هواء الحياة اليوميّة (٧٩).
ومع إيمان الدكتور بلال الظاهر باللغة العربيّة
إلّا أنّه لا يجد غضاضة من الاعتراف بجمال غيرها من اللغات عبر استعراض بعض كشوفاته
اللغويّة فيما يتعلّق باللغة الصينيّة المعجب بها كما يبدو، ومنها التفريق بين اسم
الأخ الأكبر والأصغر، مثلما هو العم في اللغة العربيّة يختلف عن الخال، في حين هو ذاته
في اللغة الفرنسيّة مثلًا. فلم يكن متعصّبًا للعربيّة قطّ بل ثمّن لغات العالم داحضًا
مقولات كثيرة ومنها أنّ العربيّة هي اللغة الأفضل، رافضًا أن تتّهم أيضًا بالصعوبة،
مفرّقًا بين المحبّة والتطرّف غير المبرّر، مطبّقَا مقولة: "من مدحك بما ليس فيك
فقد ذمّك". فالمديح الزائد ذمٌّ لا ضرورة له. محذّرًا من مغبّة أن تقتلنا الكلمات
مثلما قتلت ابن المقفّع بأفكاره الثوريّة، نظرًا لما قد تحمله العبارات من بيانات إنقلابيّة
خطيرة (١٨٣). ولقد كان رؤوفًا باللغة ومجازاتها، فاعتبر البلاغة صديقًا نلجأ إليه وقت
الضيق، مركّزًا على حاجتنا إلى لغاتٍ أخرى شبّهها بالسيّارات، رافضًا الدونيّة اللغويّة
المنسحبة من العربيّ إلى لغته ومحذّرًا من التخلّي عن اللغة الأصيلة التي اعتبرها بمنزلة
البيت الآمن.
ثانيًا: العربيّ ولغته: اهتم الكاتب بتحليل شخصيّة
العربيّ ولم يخفِ إعجابه بالحذق الذي أخرج لغةً مميّزة بالضمائر التي حرمت منها لغاتٌ
أخرى، إلا أنّه مع إيمانه بقيمة اللغة العربيّة يجدها غير محظوظة بأبنائها، معترفًا
بمعادلة أنّ الإنسان مزيج رهيبٌ من العوالم المكانية والزمانيّة والجغرافيّة (١٨١)
التي تترك أثرًا كبيرًا على القيم التي تشرّبها عبر الأجيال (١٢٥) حتّى إنّها قد تصبح
صورة عن مستقبله (١٤٠).
وهنا يبرز السؤال: هل بانفتاح المرء على
غير لغته يعتبر خائنًا للغته؟ أو أن نطقه بلغةٍ جديدةٍ، يتقمّص روح شعبها ويعيش ماضيه
ويلبس حضارته، ويشرئبّ لمستقبلٍ يطمح إليه؟ وقد يتخلّص من لعنةٍ واقعٍ وجد فيه ويريد
التحرّر منه؟، لا ينفي الكاتب الحاجة الشديدة إلى ترجماتٍ تعرض أفكار الآخرين وتعتصر
تجاربهم الفلسفيّة والنفسيّة والاجتماعيّة، ليستفيد منها الشرقيّ الذي شغل ربّما عنها
بحاجاتٍ معيشيّةٍ أكثر إلحاحًا.
والدكتور بلال في بحثه عن العربيّ أدخلنا
عالم الأذكياء والأغبياء مع ابن قيّم الجوزيّ، كما أدخلنا مقامات الحريريّ فكانت بالنسبة
له سجّادة فاخرة حريريّة متقنة الصنع (١٢٠) وجذبنا إلى خرسان وانصت للأقدمين برهافةٍ
ومتعة، واستطاع بمهارةٍ أن يربط القديم بالجديد، فكان عالم نفسٍ يتوغّل في الأحلام
ويقف عند رموزها الدلاليّة المرتبطة بأصول الكلمة، ويسوق في ذلك أمثلةً كثيرةً محاولًا
ولوج هذا العالم الساحر، عبر التأويل اللغويّ ( من١٨٩ حتى ١٩٢). كما بحث في لغة الجسد:
اليدين والشفتين والعينين والرأس، وبحث في لغة الصمت: فكان مع الخرسان في إيمائهم وإنصاتهم،
كما نفى عنهم صفة حوار الطرشان السائدة في عالم الناطقين، عكس الأخرس الذي ينصت بكلّ
جوارحه كيلا تفوته إشارة. ولقد سجّل الدكتور موقفًا واضحًا من السرقات العلنيّة التي
يلجأ إليها بعض المتطفّلين أو اللصوص كما سمّاهم، لذلك كان موقفه واضحًا ضدّ للسطو
على نصوص الآخرين، كما فرّق بين العلم والمعرفة رافضًا اللهاث وراء السعي المادّيّ
الرخيص والتشرّد اللغويّ في غياهب الآخر الأكثر تقدّمًا (١٧٧).
ثالثًا: الخطر المهدّد: يجد الكاتب أنّ
حال اللغة العربيّة يعكس حال الناطقين بها، حتّى إنّ العربيّ قد يتحاشى التحدّث باللغة
الأمّ مخافة أن تحمل ما وضع على وزره من أعباء التراجع الحضاريّ، وفي هذه النقطة توغّلٌ
في علم النفس، فالكاتب يذكّر أنّه من لا يحترم
لغة أجداده "لا يمكن أن يُحترم"(ص٣٣) ولا نهضة لشعبٍ باستعارة ألسنة الآخرين،
فاللغة تحمل روح الشعب الناطق بها وتعكس رمزيّة كياناته الناطقة. ولقد ربط بين تخلّفنا
وتعاملنا مع لغتنا، إذ يفسّر سبب رغبتنا عن لغتنا ويردّها إلى التخلّف الذي يحتّم انهزاميّة
الموقف وقلّة الثقّة بالموروث اللغويّ، فهو يجد أنّ الآخر المهيمن حضاريًّا يستحوذ
علينا ويدفع بنا إلى ركوب موجه من غير غضاضة. وبناءً عليه فهو يرى بأنّ العربيّ مأزوم
حتّى النخاع الشوكيّ (٢٧) وما هربه من لغته سوى صورة تململه من التخلّف اللصيق به.
ويجد الخطر كامنًا في أذهان بعض المتشدّدين
لذلك لا يخفي الكاتب خوفه من أن يتحوّل اللغويّ إلى حارس مقابر من غير اهتمامٍ بالمستجدّات
وتصبح اللغة العربيّة الفصحى قريبة من اللغة اللاتينية المندثرة والمتحلّلة في اللغات
الأوروبيّة الحديثة.
رابعًا: الحلول: قد يكون من السهل أن نرثي
اللغة العربيّة في وضعها الراهن الذي لا تحسد عليه، من أن نخطو خطوةً واحدة باتّجاه
تحريرها من انحدار نحو الهاويةٍ، ولم يقتصر عمل الدكتور عبد الهادي على عرض الأزمة
اللغويّة وإطلاق صرخة التحذير، بل حاول إرساء هيولى حلولٍ مناسبة لنجدتها، وأولى الخطوات
كانت بدفعنا نحو حافّة القرار: هل نعلن خبر نعي لغتنا؟ أو نسعى للعبّ من جمالها واستدراك
هذا الإرث العظيم؟ كما أوضح أنّنا لن نستعيد ثقتنا بأبجديّتنا إلّا عندما نستعيد ثقتنا
بذاتنا المشروخة والمسحوقة في ذوات الأخرين الأكثر تحضّرًا. لذلك لا بدّ من أن نتخلّص
من فتنة الغرب وسلطانه على أذهاننا. مع العلم إلى أنّه لا يرى خطورةً في غوغل بل يجده
عاملًا مساعدًا للعربيّة، إذ لا يتعارض مع عشقنا للغتنا، فالقارئ بانفتاحه على الانترنيت
مستعدٌّ لأن يُشبع أيّ نهمٍ لغويٍّ من غير تقليبه بين صفحات القواميس فليس فيه كبير
عناءٍ. وهذه نظرة منفتحة للعالم الحديث الذي لا يجده معاديًا للغة العربيّة بل على
العكس يجده عاملًا مساعدًا وداعمًا لما قد يوفّر عليه الوقت والمال ويركّز اهتمامه
على ما قد يجهله من لغتنا. ويحذر الدكتور بلال أيضًا من الوقوع في شرك البداهة التي
لا تكترث بطرح الأسئلة الضروريّة للكشف عن الحقيقة والتوغّل في جذر المعاني المتقلّبة
مع تقلّب الزمن وتطوّر الحضارات، لا التركيز فقط على المعاجم البكماء (٥٩) وذلك من
أجل أن نعي قيمة لغتنا الجميلة، التي تميّز حضورنا الكونيّ.
مع هذه النقاط الأساسيّة التي ترافقنا في
لعنة بابل لن تطلّ علينا اللغة العربيّة وكأنّها كابوسٌ رابضٌ على الصدور، بل يدخل
المرء في حضرتها مزهوًّا بها وبجمالها غير عابئٍ بما قد ينثره هنا هناك لغويٌّ من سمومٍ
تودي بالأصيل وتترك الحديقة الغنّاء وقد أكلها الهشيم وأصبح جمالها أثرًا بعد عين.
لقد صحبنا بلال في لعنة بابل ليكشف بحنكة الرائي عن غور الأزمة التي تمر بها اللغة
العربيّة ويدوّن رؤيا ثوريّة للكائن العربيّ ولغته التي خصّه بها الله لتكون لغة الجنّة
ويدقّ ناقوس الخطر، رفضًا وبالفم الملآن أن تكون لغتنا العربيّة لعنةً يفرّ منها أبناؤها:
نطقًا وعلمًا فيلجأون إلى لغاتٍ أخرى أكثر سهولةً وديناميكيّة، وقد اكتظّت الحياة بمفردات
الحضارة الغربيّة حتّى كادت تغرّبنهم عن لغتهم الأم، ويضع مخطّطًا مبدئيًّا لكي نسترجع
قامتنا الحضاريّة وحضورنا اللغويّ.
وما علينا سوى أن نصعد برج بابل اليوم مع
بلال عبد الهادي لنهدأ نفسًا ونقرّ عينًا بلقاء لغويّ يكشف عن جمال اللغة العربيّة
من غير تعصّبٍ، ونرى كم هي لغةٌ أصيلة، وإلّا فالويل من أن نصحو يومًا فنجدنا وقد وضعنا
لغتنا جانبًا وتخلينا عن هذا الإرث العظيم.
في لعنة بابل تطلّ علينا اللغة الربيّة
حبيبة صديقة وحيّة بشخوص ناطقيها وحاجتهم المستجدّة، ومع هذه الإطلالة المريحة يمكننا
قراءة اللغة من شرفة الحياة الواسعة المعطاء والمتجدّدة من غير تنكّرٍ للقديم ، ولكنّها تأبى أن تُحفظ في قوارير وتوضع
أسيرةً في خزانات الكتب العتيقة لتكون شاهدًا حيًّا متغيّرًا ومتجدّدًا لا تزمّت يحكمها
ويسدّ عليها المنافذ ولا من يحزنون، فهل تطلع لغتنا بكتابات الدكتور بلال عبد الهادي
من هذه المعمعة وبلبلة اللغات الأخرى المهيمنة، وتثب إلى برّ الأمان؟
طرابلس الخميس ٣ أيلول ٢٠١٩
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق