الخميس، 12 أكتوبر 2017

ابو تمّام والقبح الجميل



ما ربع مية معموراً يطيف بهغيلان أبهى رباً من ربعها الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من خجلأشهى إلى ناظري من خدها الترب
هذان بيتان مشهوران لأبي تمّام من قصيدته الشهيرة التي مطلعها " السيف أصدق إنباء من الكتب". ما لفت نظري في هذين البيتين هو الصورة التي تنفر منها العيب. فهناك "البهاء"، بهاء الخراب، والخدّ التراب. كيف يكون الجمال والبهاء في ما يستدعي الرثاء. ثمّة ابيات شعر لا تعني ما تعني الا لأنّها مرتبطة بسياق معيّن. كنت قد تناولت هذه المسألة في مقال لي سابق بعنوان" شجرة الميلاد وعروس المتنبي".
فحوى البيتين ان الربع الخرب بهي ليس لأنّه بهيّ وانّما لانه مشهد مأخوذ من عالم الخصم. الخصم المحروق والمهزوم تفرح به النفس وتتقبله وتعتبره جميلا ليس لانه جميل وانما لانه يعني الانتصار، انتصاري أنا، والانسان يضفي الوانا زاهية على الانتصار. والفتاة ذات الخد المورد فتاة يضفي عليها خجلها جمالا أحمر! ولكن هنا الخد الترب اي المليء بالتراب هو خد جميل ليس لانه جميل الا من حيث انه صورة عن ربع عمورية الخرب أي ديار الأعداء المهزومين.
احب الاشارة اخيرا الى نقطة مهمة، في نظري، وهو دور اسماء الاعلام في تلوين معنى النصّ. ميّة من اسماء النساء العربيات اللواتي كنّ مدار غزل كليلى وهند ودعد واسماء… إلخ. الا ان اختيار ميّة لمن يقرأ القصيدة لم يكن اعتباطا، اي ان قيمة كل شاعر كبير هو في الاختيار والانتقاء. لماذا انتقى ابو تمّام اسم "ميّة" لا ليلى مثلا؟ القصيدة لا تقول لنا لماذا. ليس من وظيفة القصيدة ان تقدّم لنا المعنى على طبق من فضّة. وابو تمام ، تحديدا، كان ممن يتعب قراءه. تعب يحصد في نهايته القارىء لذّة فريدة النكهة. ان "ميّة" ذات صلة بالماء. وخراب ديار الأعداء كما يبدو من القصيدة هو وليد اللهب والحريق .اي ثمّة تناقض دال بين ماء المنتصر ونار المهزوم…إلخ.
الاسماء في النصوص الادبية ليست مجرد اسماء، بمجرد دخولها في نصّ ادبي من طراز رفيع تتخلى عن حرفيتها"سيف" الدولة مثلا في شعر المتنبي ليس مجرّد اسم وبامكان من يرغب ان ينظر الى طريقة المتنبي في اللعب بالسيف في "السيفيّات" ثم ينظر الى المتنبي وهو يلعب بلفظ السيف في غير السيفيّات. السيف سيوف، والاسم الواحد اسماء كثيرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق