الأحد، 23 أغسطس 2015

حصان أصيل


تذكّرت، وأنا أقرأ إحدى الحكايات، بيتَيْ شعر لعنترة بن شدّاد من معلّقته الشهيرة وهو يرى تحوّلات مصائر المعركة الحامية التي يخوضها ترتسم بالقاني من الألوان على بدن وملامح وجه فرسه الذي كاد أن يكلّم فارسه:
وَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ القَنا فَزَجَرْتُهُ فَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ

لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا المُحَاوَرَةُ اشْتَكَى وَلَكَانَ لَو عَلِِِم َالكَلامَ مُكَلِّمِي
الجامع بين بيتَيْ عنترةَ والحكاية هو الفرس. طبعا ليس في بيتَيْ عنترة ما يشي بأصالة "الأَبْجَر" وهو اسم فرس عنترة، ولكن من يعرف قصّة الفارس الأسود الناصع السيرة والسواد يدرك الفضائل الأسطوريّة التي كان يتمتّع بها أَبْجَرُ عنترة.(على من يعترض أحيله إلى الشمس السوداء التي وردت في شعر المتنبي في مديح كافور!)

تقول الحكاية التي يرويها سائس خيل يعرف بالنظر الثاقب الجواد الجيّد من الفرس العاديّ إنّ أحد الملوك أراد، ذات مرّة، الاستفادة من خبرة السائس لاقتناء فرس أصيل كامل الأوصاف ينطبق عليه ربّما ما ورد على لسان الملك الضِّلِّيل امرئ القيس في وصف فرسه المطواع:
مِكَرٍّ، مِفَرٍّ، مُقْبِلٍ، مُدْبِرٍ مَعَاً


كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ.

إلاّ أنّ السائس الخبير كان قد كبر وعجز عن التنقّل في الأقطار لنيْل الأوطار التي ترضي رغبات الملك فاعتذر من الملك عن عدم قدرة جسده على تحمل عناء التنقيب، ولكنه كان يعرف صديقاً لا يشكّ في قدرته على حسن الاختيار فنصح الملك أنْ يستعين بخبرات صديقه لتلبية رغباته الفروسيّة. استدعى الملك ذلك الرجل ووضع أمام ناظريه الأوصاف المطلوبة. راح الرجل يسعى ويفتّش عن الفرس المرغوب، ثلاثة أشهر كانت كافية للعثور على ما يروي رغبة الملك، ذهب الرجل بصحبة السائس العجوز إلى الملك ليزفّ إليه البشارة. استقبل الملك الرجلين بالترحاب الذي يليق بالبشارة، ودار حديث فروسيّ بين الملك والرجل. سأل الملك الرجل عن جنس الفرس، فأجاب الرجل بأنّ الفرس أنثى، وحين استفسر الملك عن لونه: قال الرجل بأنّ لونها أصْهب.
أرسل الملك خادمه الخاص لإحضار الفرس على جناح السرعة بعد أن بلغ به الشوق لرؤية الفرس مبلغه. صعقت عينا الملك حين وصل الفرس لأنّه لم يجد أمامه أنثى وإنما ذكراً، كما أنّ اللون كان أسود فاحماً وليس أصهب بخلاف ما وصف الرجل. لا بدّ من أن الخادم أخطأ في إحضار الفرس المقصود إذ لا شيء مما قاله الرجل يتطابق وأوصاف ما يراه! كاد الملك أن يثور في وجه الخادم لو لم ترتسم على ملامح السائس أسارير الحبور وهو يتأمل، بعينين مفتونتين، الفرس الذي اختاره. لم يستوعب الملك ما يرى! هل السائس مصاب بعمى الألوان ولنفترض جدلاً أنّ السائس مصاب بعمى الألوان هل من الممكن أن يقول شخص عن نفسه إنّه سائس خبير في أجناس الأحصنة وهو لا يميز ذكراً من أنثى؟ استشاط الملك غيظاً ولم يحتمل أنْ يتحوّل إلى ألعوبة بين يدي سائس مكّار، كما لم يرضَ عن هذه المداعبة الخبيثة التي داعبه بها السائس العجوز. قال الملك للعجوز أيّ نوع من النصيحة أسديتها إليّ بالاتكال على رجل لا يميّز بين الألوان ولا بين الأجناس؟ كيف تقول إنّه خبير ويفهم بعالم الأحصنة؟ قال السائس العجوز: لم أكن أعرف يا مولاي أنّ لزميلي خبرة بالأحصنة بلغت هذا الحدّ المذهل! لا تتصوّر، يا مولاي، إعجابي الكبير بمهارة صديقي! لا تتخيّل كم أنا مسرور ومسحور بخبرته النافذة التي كانت مخبوءة عن ناظريّ! ما كان يخطر لي ببال أنّه يفوقني قدرة وخبرة في معرفة الأصيل من الهزيل. كنت أظنّ أنّ خبرته تضاهي خبرتي ولكن أن تتجاوزها بأشواط فهذا ما لم أتوقّعْه لو لم أره بعينيّ.
ذهل الملك من كلام السائس العجوز الذي يُسمعه خلاف ما تراه عيناه، وكاد أنْ يجنّ جنونه وهو يستمع إلى هذا الهذيان الذي لا يختلف كثيراً عن هذيان شاعر سورياليّ محموم. ولكنّ السائس العجوز دافع بكلّ ما أوتيه من حجّة في الإقناع عن صديقه الذي أحضر الفرس قائلاً للملك: يا مولاي، ليس عند صديقي عمى ألوان ولا ضعف تمييز، ولكنه ذهب إلى الجوهر، إلى المطلوب وهو مهارة الفرس وكماله. والألوان ليست من صلب المهارة، والجنس أيضاً ليس عنواناً مفصحاً عن الجودة، فكلا الأمرين قشور، لا ريب، خلاّبة. والخلاّب، يا مولاي، لا يخلب كلّ ذوي البصائر والألباب. ما أتاك به صديقي، بغضّ النظر عن الكلام الذي تفوّه به عن القشور، هو ما تريده أنت، وعند امتحان الفرس يهان صديقي أو يكسب الرهان. استغراق صديقي، يا مولاي، في التحرّي عن الجودة، وإخلاصه في البحث عن المهارة الفائقة هما اللذان أعمياه عن رؤية كلّ ما ليس له علاقة بميزان الجودة الفعلية. من هنا لم ينتبه ولم يأبهْ للون الفرس أو جنسه، ومن هنا خطأه أيضاً في التوصيف الأمين للبهْرجة اللونية والطبيعة الجنسية.
امتطى الملك صهوة الفرس المشكوك في قدرته بناء على الكلام الصادر من الرجل والمغاير للواقع المرئيّ ولكن ما هي إلا لحظات حتى بدت على وجه الملك ملامح تدلّ على غبطة فاتنة لم يُشْعرْه بها أيّ فرس امتطاه من قبل، إذْ تبين له أنّ هذا الفرس هو أنبل ما عرفته إسطبلات مملكته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق