الفكرة الأولى التي خطرت في ذهني، وأنا أقرأ خبر شراء إمبراطور الإنترنت جيف بيزوس جريدة «واشنطن بوست» العريقة، هي أن «الفكر الافتراضي»، بدأ يهزم «الذهنية الورقية» بالضربات القاضية. هذا لا يعني أن الورق بالضرورة، سيندثر فجأة، لكن تسويقه ما عاد متاحا بالأساليب الصدئة الغابرة.ليست «واشنطن بوست» هي الصحيفة العريقة الوحيدة التي يستسلم أصحابها، بعد خسائر مالية هائلة، في زمن تغيرت فيه سبل الربح، وتبدلت الأمزجة، غير أن الشاري الجديد، بيزوس، هو رمز من رموز الاقتصاد الحديث، بعد أن تمكن عبر موقعه الشهير «أمازون» من تأسيس أكبر «سوبر ماركت» كونية للبيع بالتجزئة.نعرف أن «أمازون» بدأ بتحدٍ هائل لم يكن ليقنع المستثمرين بسهولة، وهو بيع الكتب على الإنترنت. أمر احتاج وقتا وجهدا كبيرين، ليتمكن بيزوس الذي كان لا يزال موظفا حينها، من إقناع أصحاب الأموال بجدواه. إذ لم يفهم أحد ما الذي سيدفع أي إنسان لقبول شراء كتاب عن بعد ودفع تكلفة شحنه، وانتظار وصوله، بدل أن يحصل عليه بدقائق من مكتبة تحت بيته. لكن الرجل وجد حيلا ثعلبية كثيرة، ليجعل «أمازون» أكبر مكتبة عالمية افتراضية، ويوسع أعماله، لتشمل بعد ذلك كل ما يحلو له من المنتوجات.بهذا المعنى، فإن بيزوس انطلق كرجل أعمال من فكرة تسويق الورقي إنترنتيا، وشراؤه لـ«واشنطن بوست» يحمل في طياته نوايا لا تختلف كثيرا عن تلك التي طبقها أول مرة. فقد قال في رسالته إلى الصحافيين الذين ما يزالون تحت وقع الصدمة، وتراودهم أسئلة كثيرة، إنه سيحافظ «على قيم الجريدة»، ولن يتدخل في عملهم «بشكل يومي» لكنه قال بوضوح «إن السنوات المقبلة ستحمل تغييرا يتناسب والزمن المعلوماتي الذي نعيشه».يمكن وضع بيزوس مع أولئك الرواد، الذين ساهموا منذ أن أصبحت الإنترنت في متناول البشرية، في تسعينات القرن الماضي، بابتكارات غيرت وجه العالم. هو من فصيلة جيمي ويلز، مؤسس «ويكيبيديا» الذي سعى للوصول إلى برنامج غير مسبوق، يتيح لكل مستخدم الدخول إليه، ووضع معلوماته ومساهماته، منشئا بذلك أكبر موسوعة، تشارك فيها البشرية طوعا وبالمجان. والضربة هنا لمن سبق، فكل الموسوعات التي جاءت بعد ذلك لم تحظ بما حالف «ويكيبيديا» من نجاح، كما أن كل ما تبع «فيس بوك» و«تويتر» من مواقع تواصل اجتماعي بقي محدود الانتشار إلى أن جاء «الواتس أب» بفكرة مختلفة تماما.رجال الأعمال الجدد الذين حصدوا المليارات من اقتصاد له منطق مختلف، هم القادرون اليوم، على تجديد مفهوم الصحافة الرابحة، بعد أن ظن أهل المكتوب أن وضع مقالاتهم على الشاشات سيبقى مجديا ماليا، كما كان ورقيا، بمجرد أن يضيفوا الإعلانات إلى مواقع صحفهم. وما يزال النقاش العقيم ذاته دائرا؛ ما الذي يمكن أن يقدم مجانا؟ وكيف تجلب الشراة لمقال محجوب؟ وما الوسيلة الفضلى لبيع مادة تكلف كاتبها تجوالا وسفرا وإقامة، ليجمع زبدة لم يصل إليها أحد قبله؟لم يخرج أهل الصحافة بحلول تنقذ مهنتهم، وهو يرون بعض صفحات «فيس بوك» الإخبارية لها من المهارة والمصداقية والسرعة، ما يتجاوز إمكاناتهم، رغم أن من يديرونها هم مجرد هواة.في بلاد مليئة بالأحداث مثل لبنان، تأتي صحف لها تاريخها مثل «النهار» و«السفير» متأخرة ساعات طويلة بخبرها، بينما يوجد على «فيس بوك» صفحات مذهلة متخصصة في أخبار المناطق، تنقل لقرائها، دقيقة بدقيقة، وبدقة منقطعة النظير، وموضوعية مدهشة، ما يدور في كل شارع وزقاق، بالاعتماد على مراسلين متطوعين، يبدو أنهم صاروا متمرسين جدا، يقدمون خدماتهم بالمجان. عمل دؤوب يستحق من ديناصورات الصحافة الورقيين أمثالنا، أن يتأملوا ويتعلموا، من دون مكابرة، علما بأن غالبيتهم باتوا من المتابعين النهمين، لهذه الصفحات، عدا أنهم يعتمدونها، لصياغة أخبارهم الخاصة، ويأنفون من الاعتراف بذلك.بيزوس الذي نجح في جعل القارئ صديقا لـ«أمازون»، واكتسب ثقته، وحوله هو والقراء أمثاله إلى نقاد يكتبون آراءهم على موقعه ويتناقشون حولها، ويصلون في نهاية المطاف إلى خلاصات واستنتاجات حول الكتب التي يفضلونها، جعل «التفاعلية الإنترنتية» منتجة ومربحة، وخلص القراء البسطاء من لغة النقاد المحترفين المترفعة. وباكتساب الزوار لموقعه اجتذب المزيد من الإعلانات التي سمحت له بتخفيض أسعار الكتب، وتقديم التخفيضات، وإغراء الشراة، وجني الأرباح من كلا الطرفين.لن يتمكن المالك الجديد لـ«واشنطن بوست» أن يمارس الاستراتيجية نفسها، في عالم الصحافة، لكن من المفترض أنه، وهو رجل الأعمال الشهير بسياسته التي تعتبر «الزبون ملكا»، سيرسم خططه الإنترنتية ليبيع سلعته الصحافية، ويجعل منها مادة مشتهاة. هل سيدفع صحافيو «واشنطن بوست» الحاليون الثمن، أم سيحتاجهم لتنفيذ مشروعه؟ هذا هو السؤال الكبير الذي سنعرف جوابه في الشهور، وربما السنوات المقبلة.بيزوس مقبل على مغامرة، ينظر إليها عالم الصحافة بترقب كبير. الزمن الذي نعيشه تجريبي ويستحق المجازفة. وإن لم يجد صاحب «أمازون» الجرأة لخوض المحاولة، سيأتي آخرون. الصحافة على مفترق، والربح من بيع المعلومات والتحليلات، باتت له فنون تلامس الجنون. «سبايدر مان» أمازون الذي عرف كيف يحيك خيوطه وشباكه العنكبوتية الإنترنتية قد يفتتح المحاولة، يخطئ أو يصيب، لكن الصحافة، حتما، بانتظار المخلص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق