الثلاثاء، 27 أغسطس 2013

قال جبران خليل جبران لكم لبنانكم و لي لبناني

 
لكم لبنانكم و لي لبناني
لكم لبنانكم و معضلاته , و لي لبناني وجماله .
لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض و المنازع , ولي لبناني بما فيه من الأحلام و الأماني .
لكم لبنانكم فاقنعوا به , ولي لبناني و أنا لا أقنع بغير المجرد المطلق .
لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلها الأيام , أما لبناني فتلول تتعالى بهيبة و جلال نحو ازرقاق السماء .
لبنانكم مشكلة دولية تتقاذفها الليالي , أما لبناني فأودية هادئة سحرية تتموج في جنباتها رنات الأجراس و أغاني السواقي .
لبنانكم صراع بين رجل جاء من المغرب و رجل جاء من الجنوب , أما لبناتي فصلاة مجنحة ترفرف صباحاً عندما يقود الرعاة قطعانهم إلى المروج ووتصاعد مساء عندما يعود الفلاحون من الحقول و الكروم .
لبنانكم حكومات ذات رؤوس لا عداد لها , أما لبناني فجبل رهيب وديع جالس بين البحر و السهول جلوس شاعر بين الأبدية و الأبدية .
لبنانكم حيلة يستخدمها الثعلب عندما يلتقي الضبع و الضبع حينما يجتمع بالذئب , أما لبناني فتذكارات تعيد على مسمعي أهازيج الفتيات في الليالي المقمرة و أغاني الصبايا بين البيادر و المعاصر .
لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس دين و قائد جيش . أما لبناني فمعبد أدخله بالروح عندما أمل النظر إلى وجه هذه المدينة السائرة على الدواليب .
لبنانكم رجلان : رجل يؤدي المكوس و رجل يقبضها , أما لبناني فرجل فرد متكئ على ساعده في ظلال الأرز و هو منصرف عن كل شئ سوى الله و نور الشمس .
لبنانكم مرافئ و بريد و تجارة , أما لبناني ففكرة بعيدة و عاطفة مشتعلة و كلمة علوية تهمسها الأرض في أذن الفضاء .
لبنانكم موظفون و عمال و مديرون , أما لبناني فتأهب الشباب و عزم و حكمة الشيخوخة .
لبنانكم وفود و لجان , أما لبناني فمجالس حول المواقد في ليال تغمرها هيبة العواصف و يجللها طهر الثلوج .
لبنانكم طوائف و أحزاب , أما لبناني فصبية يتسلقون الصخور و يركضون مع الجداول و يقذفون الأكر في الساحات .
لبنانكم خطب و محاضرات و مناقشات , أما لبناني فتغريد الشحارير , و حفيف أغصان الحور و السنديان , ورجع صدى النايات في المغاور و الكهوف .
لبنانكم كذب يحتجب وراء نقاب من الذكاء المستعار , و رياء يختبئ في رداء من التقليد و التصنع , أما لبناني فحقيقة بسيطة عارية إذا نظرت في حوض ماء ما رأت غير وجهها الهادئ و ملامحها المنبسطة .
لبنانكم شرائع و بنود و أوراق , و عقود و عهود في دفاتر , أما لبناني ففطرة في أسرار الحياة و هي لا تعلم أنها تعلم , و شوق يلامس في اليقظة أذيال الغيب و يظن نفسه في منام .
لبنانكم شيخ قابض على لحيته , قاطب ما بين عينيه و لا يفكر إلا بذاته , أما لبناني ففتى ينتصب كالبرج , و يبتسم كالصباح , و يشعر بسواه شعوره بنفسه .
لبنانكم ينفصل آناً عن سوريا و يتصل بها آونة ثم يحتال على طرفيه ليكون بين معقود و محلول , أما لبناني فلا يتصل و لا ينفصل و لا يتفوق و لا يتصاغر .


لكم لبنانكم و لي لبناني
لكم لبنانكم و أبناؤه و لي لبناني و أبناؤه .
و من يا ترى أبناء لبنانكم ؟
ألا فانظروا هنيهة لأريكم حقيقتكم .
هم الذين ولدت أرواحهم في مستشفيات الغربيين .
هم الذين استيقظت عقولهم في حضن طامع يمثل دورا أريحي .
هم تلك القضبان اللينة التي تميل إلى اليمين و اليسار و لكن بدون إرادة , و ترتعش في الصباح و في المساء و لكنها لا تدري ترتعش .
هم تلك السفينة التي تصارع الأمواج و هي بدون دفة و لا شراع , أما ربانها فالتردد و أما مينائها فكهف تسكنه الغيلان – أوليست كل عاصمة في أوروبا كهف للغيلان ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
هم الأشداء الفصحاء البلغاء و لكن بعضهم لدى البعض , و الضعفاء الخرسان أمام الإفرنج .
هم الأحرار المصلحون المتحمسون و لكن في صحفهم و فوق منابرهم , و المنقادون الرجعيون أمام الغربيين .
هم اللذين يضجون كالضفادع قائلين : لقد تملصنا من عدونا الطاغية القديم , و عدوهم القديم الطاغية ما برح يختبئ في أجسادهم .
هم الذين يسيرون أمام الجنازة مزمرين راقصين , حتى إذا ما التقوا موكب العرس تحول تزميرهم إلى نواح و رقصهم إلى قرع الصدور و شق الأثواب .
هم اللذين لا يعرفون المجاعة إلا إذا كانت في جيوبهم , فإذا ما التقوا من كانت مجاعته في روحه ضحكوا منه و تحولوا عنه قائلين : ما هذا سوى خيال يسير في عالم الأخيلة .
هم أولئك العبيد الذين تبدل الأيام قيودهم المصدأة بقيود لامعة فيظنون أنهم أصبحوا أحرارا مطلقين .
هؤلاء هم أبناء لبنانكم , فهل بينهم من يمثل العزم في صخور لبنان أم النبل في ارتفاعه أم العذوبة في مائه أم العطر في هوائه ؟؟؟ هل بينهم من يتجرأ أن يقول : إذا ما مت تركت وطني أفضل قليلا مما وجدته عندما ولدت ؟؟؟ هل بينهم من يتجرأ أن يقول : لقد كانت حياتي قطرة من الدم في عروق لبنان أو دمعة بين أجفانه أو ابتسامة على ثغره ؟؟؟؟؟؟؟؟
هؤلاء هم أبناء لبنانكم , فما أكبرهم في عيونكم و ما أصغرهم في عيوني !!!!!!!!!!!!!
و لكن قفوا قليلاً و أنظروا لأريكم أبناء لبناني :
هم الفلاحون الذين يحولون الوعر إلى حدائق و بساتين .
هم الرعاة الذين يقودون قطعانهم من واد إلى واد فتنموا و تتكاثر و تعطيكم لحومها غذاء و صوفها رداء .
هم الكرامون الذين يعصرون العنب خمراً و يعقدون الخمر دبساً .
هم الآباء الذين يربون أنصاب التوت و الأمهات اللواتي يغزلن الحرير .
هم الرجال الذين يحصدون الزرع و الزوجات اللواتي يجمعن الأغمار .
هم البناؤون و الفخارون و الحائكون و صانعوا الأجراس و النواقيس .
هم الشعراء الذين يكسبون أرواحهم في كؤوس جديدة , و هم شعراء الفطرة الذين ينشدون العتابا و المعنى و الزجل .
هم اللذين يغادرون لبنان و ليس لهم سوى حماسة في قلوبهم و عزم في سواعدهم و يعودون إليه و خيرات الأرض في أكفهم و أكاليل الغار في رؤوسهم .
هم اللذين يتغلبون على محيطهم أينما حلوا و يجتذبون القلوب إليهم أينما وجدوا .
هم اللذين يولدون في الأكواخ و يموتون في قصور العلم . هؤلاء هم أبناء لبنان . هؤلاء هو السراج التي لا تطفئها الرياح و الملح الذي لا تفسده الدهور .
هؤلاء هم السائرون بأقدام ثابتة نحو الحقيقة و الجمال و الكمال .
ماذا عسى أن يبقى من لبنانكم و أبناء لبنانكم بعد مئة عام ؟؟؟ أخبروني – ماذا تتركون للغد سوى الدعوى و التلفيق و البلادة ؟ هل تحسبون أن الزمن يحفظ في ذاكرته مظاهر الخداع و المداهنة و التدليس ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أتظنون أن الأثير يخزن في جيوبه أشباح الموت و أنفاس القبور ؟ أتتوهمون أن الحياة تستر جسدها العاري بالخرق البالية؟ أقول لكم و الحق شاهد علي إن نصبة الزيتون التي يغرسها القروي في سفح لبنان لأبقى من جميع أعمالكم و مآتيكم , و المحراث الخشبي الذي تجره العجول في منعطفات لبنان لأشرف و أنبل من كل أمانيكم و مطامعكم . أقول لكم و ضمير الوجود صاغ إلي إن أغنية جامعة البقول بين هضبات لبنان لأطول و أعمر من كل ما يقوله أوجه و أضخم ثرثار بينكم . أقول لكم إنكم لستم على شيء .و لو كنتم تعلمون أنكم لستم على شيء لتحول اشمئزازي منكم إلى شكل من العطف و الحنان , و لكنكم لا تعلمون .
لكم لبنانكم و لي لبناني
لكم لبنانكم وأبناء لبنانكم فاقتنعوا به و بهم إن استطعتم الاقتناع بالفقاقيع الفارغة , أما أنا فمقتنع بلبناني و أبنائه و في اقتناعي عذوبة و سكينة و طمأنينة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق