بيروت: سوسن
الأبطح
ينظر العربي إلى لغته بـ«ازدراء» و«احتقار»، ويرى أنها لغة «منحطة»، لذلك يفضل أن يتحدث بلغة غيرها، وفي أحسن الأحوال يُطعِّمها بمفردات أجنبية، كي يتخلص من إحساسه بالضعف والامتهان. هذا ما يقوله اختصاصيون في اللغة العربية، ويرون في لبنان نموذجا فاقعا، لوضع لغوي عربي متدهور، بات يحتاج إلى دق ناقوس الخطر. «مهرجان اللغة العربية» الذي أقيم أخيرا في العاصمة اللبنانية، ويتوقع أن تنتقل عدواه إلى عواصم عربية أخرى، أعاد طرح الأسئلة من جديد.
لماذا لم يعد الشباب قادرين على التكلم حتى بالعامية للتعبير عن أنفسهم، من المسؤول؟ وهل ثمة حلول كي ننفض عن لغة الضاد الغبن الذي ألحقناه بها؟
تعد مسؤولة جمعية «فعل أمر»، التي نظمت أخيرا «مهرجان اللغة العربية» في بيروت، بالتعاون مع «مؤسسة الفكر العربي»، بأن العام المقبل سيشهد مهرجانا آخر للغة، بسبب التشجيع الكبير الذي لقيته الفكرة. والجديد عام 2011 هو إشراك طلاب المدارس من مختلف المناطق اللبنانية، خاصة أن تنسيقا سيبدأ مع وزارتي الثقافة والتربية، اللتين تبديان رغبة كبيرة في دعم هذا المشروع. وتشرح مسؤولة الجمعية، سوزان تلحوق «أن هناك تعطشا، ليس في لبنان فقط، وإنما في دول عربية أخرى، لتنظيم مهرجانات مشابهة، الهدف منها تشجيع الناس على التحدث باللغة العربية بفخر، ودون إحساس بالنقص. والاتصالات جارية على قدم وساق مع هيئات أهلية في عدة دول تريد تبني الطرح وتنظيم مهرجانات مشابهة».
و«مهرجان اللغة العربية»، الذي أقيم أخيرا في بيروت، على مدار يوم واحد، وحضره آلاف الأشخاص، هو واحد من أغرب المهرجانات التي يشهدها لبنان على الإطلاق، لأن هدفه الوحيد هو أن يقول للناس: «لغتكم تستحق منكم أن تتكلموا بها، فلا تخجلوا!». وللاحتفال بهذا المهرجان، أغلق شارع الحمرا طوال النهار، وأقيمت فيه معارض، وعلقت لوحات وصور، كما أقيم معرض لكتب الأطفال، وتوالت فرق غنت بالعربية على المسرح الكبير الذي أقيم وسط الشارع. وزينت شرائط صفراء جانبي الشارع، كتب عليها بشكل متكرر «لا تقتل لغتك». واللافت أن غالبية الحضور كانت من الشباب الذي يتهم بأنه ينبذ اللغة العربية، ويلجأ للفرنسية والإنجليزية، وأحيانا يستخدم لغة يخلط فيها العربية مع اللغتين الأجنبيتين. ولم يعد نادرا في لبنان أن يقول لك أحد الشبان «إنه لا يستطيع التكلم بالعربية، ولا يجيد التعبير عن نفسه بها».
يقول الدكتور إميل يعقوب، أستاذ اللغة العربية في الجامعة اللبنانية: «ما دامت مادة الرياضيات، كما المواد العلمية، كلها تعلم باللغات الأجنبية، فلا بد أن يشعر الطالب بأن لغته لا تصلح للعلوم، وينظر إليها بازدراء»، ويشرح: «أكثر من ذلك، فإن الطالب الذي يأتي من دولة أجنبية، بمقدوره استكمال دراسته في أي من الفروع العلمية في الجامعة، وينال الإجازة دون أن يخضع لأي امتحان باللغة العربية. وإذا أضفنا إلى هذا كله أن أساتذة اللغة العربية في المدارس الرسمية لا يخضعون لأي تدريبات تأهيلية، بينما يتم الاعتناء بشكل خاص بتدريب وتأهيل أساتذة الفرنسية والإنجليزية، ندرك أن هناك ازدراء للغة العربية، ليس من قبل الطلاب أو الأساتذة، وإنما من قبل الدولة نفسها. بل إن المواد التي تدرس بالعربية في لبنان، مثل التاريخ والجغرافيا، لا تشرح للطلاب في الصف بالفصحى، وإنما بالعامية».
لكن الكلام على الفصحى والعامية يستفز سوزان تلحوق مسؤولة جمعية «فعل أمر»، التي لم تر حرجا في استخدام الفنانين للغة العامية في لوحاتهم، أو ألعابهم، أو حتى غنائهم، أثناء المهرجان الذي أقيم في بيروت. وتقول: «كنت أتمنى لو أننا لا نزال في مرحلة صراع الفصحى والعامية، لقد تجاوزنا كل ذلك للأسف، وصرنا في مرحلة إثبات الهوية والحرف. إذ إن معركتنا اليوم هي مع الحرف اللاتيني الذي بات يحل مكان الحرف العربي، حتى في الدفاتر المدرسية وامتحانات الإملاء العربي، فلم يعد نادرا أن يكتب الأطفال على دفاترهم كما يكتبون حين يمارسون الـ(تشات) مع أصدقائهم على الكومبيوتر». وقد عرضت إحدى الشاشات في شارع الحمرا، في يوم مهرجان اللغة العربية، تعريفا ببرنامج إلكتروني يستطيع مستخدمه الكتابة بالحروف اللاتينية، بينما تظهر الحروف عربية على الشاشة، لتمرين الشباب على التعرف بشكل أفضل على أبجديتهم، واستخدامها مستقبلا، بعد رؤيتها على شاشاتهم بشكل متكرر.
تعتبر سوزان تلحوق أن «الكلام على الفصحى والعامية بات مفتعلا في ظل الأزمات اللغوية المستجدة التي تعصف بالعرب. فكل اللغات لها فصحى وعامية، ويتعامل أهلها مع هذه الازدواجية بسماحة وتفهّم، بينما نحن وحدنا نحمل سيف النقمة على أنفسنا»، وفي رأي تلحوق أن «الفصحى تعطي العامية، والعامية تعطي الفصحى، وكل منهما تغذي الأخرى. الرواية مثلا لا بد أن تكتب بالفصحى، ولكن هل يمكننا أن ننتج كل أفلامنا ومسرحياتنا بالفصحى، ونقصر غناءنا على الفصحى؟ هذه أسئلة يجب أن نطرحها على أنفسنا بصراحة، وألا نختبئ وراء نظريات لم تعد تنسجم مع الواقع».
يتفق الدكتور بلال عبد الهادي، أستاذ الألسنية في الجامعة اللبنانية، مع الدكتور إميل يعقوب، على أن نقطة يعتبرانها أساسية، وهي أن أزمة اللغة العربية هي أزمة سياسية. ويقول عبد الهادي: «منذ فترة، لفت نظري أن اليابان تقيم مهرجانا سنويا للخط، يشارك فيه حوالي 3000 شخص من عامة الناس، ومن يفز في هذه المسابقة التي تقام يوم رأس السنة اليابانية - وهذا أمر له دلالة كبيرة - يستقبله الإمبراطور تكريما لمهاراته في فن الخط. ومعلوم أن الإمبراطور في اليابان هو رأس السلطة الروحية، وبالتالي فإن تكريم الفائز الذي يتفنن في الخط، على هذا النحو، هو إحدى وسائل تعزيز علاقة المواطن بلغته، بدءا من شكلها (الخط) للوصول إلى مضمونها». ويضيف د. عبد الهادي: «كل الدول عندها ما يسمى سياسة لغوية. نحن موضوعيون أكثر مما ينبغي مع لغتنا، والموضوعية تضر أحيانا، نحن نعترف بشكل سافر بضعفنا من خلال احتقارنا للغتنا. فإذا كان الإنسان يحتقر نفسه، فكيف لا يحتقر لغته، إن ما نعيشه هو نوع من الانسجام مع الذات، وربما إذا انطلقنا من هذا الانسجام السلبي، استطعنا أن نجد أدوية لأمراضنا اللغوية».
ثمة حلول تربوية في لبنان، كان من الممكن أن تأتي بثمر، لكنها أجهضت، مع بدء العمل بالمناهج الجديدة سنة 2000، يروي الدكتور إميل يعقوب أنه كان قد «تم الاتفاق على وضع كتب للمواد العلمية، أي الرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا بثلاث لغات، العربية والفرنسية والإنجليزية، لتدريسها بالمرحلة المتوسطة. وطبعت هذه الكتب باللغتين الأجنبيتين، لكن الكتب العربية لم تطبع أبدا، علما بأنها ألفت وتم تجهيزها، ودفعت تكاليفها، لكن الأموال ذهبت هدرا، لأنه ببساطه، ترك للمديرين حرية اختيار اللغة التي يريدونها للتدريس لطلابهم، وهم لن يختاروا العربية أبدا. وكان لا بد من إلزامهم بالكتاب العربي كما ألزموا بالكتاب المدرسي الموحد. لذلك أقول إن الدولة نفسها تنظر إلى العربية على أنها منحطة».
«المشكلة متشعبة، وحلولها يجب أن تكون كذلك»، بالنسبة للدكتور عبد الهادي، إشراك الناس في عملية تطوير اللغة، مسألة قد تكون مفيدة. «في فرنسا، مثلا، طلب من المواطنين أنفسهم أن يجدوا بدائل للكلمات الإنجليزية التي بدأت تغزو لغتهم، حتى لو كانت هذه البدائل عامية، وتجد صدى عند غالبية الناس، ليتم تبنيها من قبل السلطة اللغوية. بهذا لم يعد العمل اللغوي حكرا على النخبة الأكاديمية، وإنما أصبح المواطن شريكا فاعلا فيه». ويتابع عبد الهادي: «نحن نستخدم مثلا كلمة (مريول) للتدليل على اللباس المدرسي. المعجم لا يعترف بهذا الكلمة، وإنما نجد فيه (مريلة) أو (مرولة)، لكن لو بحثنا في غوغل عن هاتين الكلمتين لن نعثر على شيء، لأن المتكلمين والمؤلفين العرب يفضلون استخدام لفظة مريول، التي سنجد لو بحثنا عنها في غوغل آلاف الصفحات، فلماذا لا يتم تبنيها؟».
المشكلة الأساسية بحسب ما يرى الدكتور عبد الهادي هو أننا لم نفهم حاجة اللغة إلى الليونة اللغوية، إذ نجد المتشددين لغويا والمتهتكين لغويا، وهذا انعكاس للواقع العربي المنقسم بين متهتكين ومتزمتين يتبادلون المواقع على الشاشات التلفزيونية.
ما بين الأكاديميين والهيئات المدنية التي تعنى باللغة، ثمة إجماع على ضرورة التحرك واتخاذ الإجراءات التي تساعد الفرد على اكتساب ثقته بانتمائه ولغته. جمعية «فعل أمر» لا تدعي أن لها دورا كبيرا، وتصر على أن مهمتها هي إحداث صدمة لدى جمهور الناس، وحثهم على تغيير سلوكهم. وقد حدث هذا بالفعل يوم المهرجان، إذ كان الكلام الذي يتردد على أفواه الكثير من الحاضرين: «صحيح ليش ما نحكي عربي؟» لكن الأكاديميين يرون أن على الدولة أن تتحرك. ويحكي الدكتور عبد الهادي أن أحكم حكماء الشرق (كونفوشيوس) حين سئل أنه في حال استلم السلطة السياسية من أين يبدأ الإصلاح؟ فكانت إجابته بسيطة جدا، لكنها ذات دلالة عميقة، قال: «أبدأ بإصلاح اللغة، وأبدأ بإعادة وصل اللفظ مع معناه».
ينظر العربي إلى لغته بـ«ازدراء» و«احتقار»، ويرى أنها لغة «منحطة»، لذلك يفضل أن يتحدث بلغة غيرها، وفي أحسن الأحوال يُطعِّمها بمفردات أجنبية، كي يتخلص من إحساسه بالضعف والامتهان. هذا ما يقوله اختصاصيون في اللغة العربية، ويرون في لبنان نموذجا فاقعا، لوضع لغوي عربي متدهور، بات يحتاج إلى دق ناقوس الخطر. «مهرجان اللغة العربية» الذي أقيم أخيرا في العاصمة اللبنانية، ويتوقع أن تنتقل عدواه إلى عواصم عربية أخرى، أعاد طرح الأسئلة من جديد.
لماذا لم يعد الشباب قادرين على التكلم حتى بالعامية للتعبير عن أنفسهم، من المسؤول؟ وهل ثمة حلول كي ننفض عن لغة الضاد الغبن الذي ألحقناه بها؟
تعد مسؤولة جمعية «فعل أمر»، التي نظمت أخيرا «مهرجان اللغة العربية» في بيروت، بالتعاون مع «مؤسسة الفكر العربي»، بأن العام المقبل سيشهد مهرجانا آخر للغة، بسبب التشجيع الكبير الذي لقيته الفكرة. والجديد عام 2011 هو إشراك طلاب المدارس من مختلف المناطق اللبنانية، خاصة أن تنسيقا سيبدأ مع وزارتي الثقافة والتربية، اللتين تبديان رغبة كبيرة في دعم هذا المشروع. وتشرح مسؤولة الجمعية، سوزان تلحوق «أن هناك تعطشا، ليس في لبنان فقط، وإنما في دول عربية أخرى، لتنظيم مهرجانات مشابهة، الهدف منها تشجيع الناس على التحدث باللغة العربية بفخر، ودون إحساس بالنقص. والاتصالات جارية على قدم وساق مع هيئات أهلية في عدة دول تريد تبني الطرح وتنظيم مهرجانات مشابهة».
و«مهرجان اللغة العربية»، الذي أقيم أخيرا في بيروت، على مدار يوم واحد، وحضره آلاف الأشخاص، هو واحد من أغرب المهرجانات التي يشهدها لبنان على الإطلاق، لأن هدفه الوحيد هو أن يقول للناس: «لغتكم تستحق منكم أن تتكلموا بها، فلا تخجلوا!». وللاحتفال بهذا المهرجان، أغلق شارع الحمرا طوال النهار، وأقيمت فيه معارض، وعلقت لوحات وصور، كما أقيم معرض لكتب الأطفال، وتوالت فرق غنت بالعربية على المسرح الكبير الذي أقيم وسط الشارع. وزينت شرائط صفراء جانبي الشارع، كتب عليها بشكل متكرر «لا تقتل لغتك». واللافت أن غالبية الحضور كانت من الشباب الذي يتهم بأنه ينبذ اللغة العربية، ويلجأ للفرنسية والإنجليزية، وأحيانا يستخدم لغة يخلط فيها العربية مع اللغتين الأجنبيتين. ولم يعد نادرا في لبنان أن يقول لك أحد الشبان «إنه لا يستطيع التكلم بالعربية، ولا يجيد التعبير عن نفسه بها».
يقول الدكتور إميل يعقوب، أستاذ اللغة العربية في الجامعة اللبنانية: «ما دامت مادة الرياضيات، كما المواد العلمية، كلها تعلم باللغات الأجنبية، فلا بد أن يشعر الطالب بأن لغته لا تصلح للعلوم، وينظر إليها بازدراء»، ويشرح: «أكثر من ذلك، فإن الطالب الذي يأتي من دولة أجنبية، بمقدوره استكمال دراسته في أي من الفروع العلمية في الجامعة، وينال الإجازة دون أن يخضع لأي امتحان باللغة العربية. وإذا أضفنا إلى هذا كله أن أساتذة اللغة العربية في المدارس الرسمية لا يخضعون لأي تدريبات تأهيلية، بينما يتم الاعتناء بشكل خاص بتدريب وتأهيل أساتذة الفرنسية والإنجليزية، ندرك أن هناك ازدراء للغة العربية، ليس من قبل الطلاب أو الأساتذة، وإنما من قبل الدولة نفسها. بل إن المواد التي تدرس بالعربية في لبنان، مثل التاريخ والجغرافيا، لا تشرح للطلاب في الصف بالفصحى، وإنما بالعامية».
لكن الكلام على الفصحى والعامية يستفز سوزان تلحوق مسؤولة جمعية «فعل أمر»، التي لم تر حرجا في استخدام الفنانين للغة العامية في لوحاتهم، أو ألعابهم، أو حتى غنائهم، أثناء المهرجان الذي أقيم في بيروت. وتقول: «كنت أتمنى لو أننا لا نزال في مرحلة صراع الفصحى والعامية، لقد تجاوزنا كل ذلك للأسف، وصرنا في مرحلة إثبات الهوية والحرف. إذ إن معركتنا اليوم هي مع الحرف اللاتيني الذي بات يحل مكان الحرف العربي، حتى في الدفاتر المدرسية وامتحانات الإملاء العربي، فلم يعد نادرا أن يكتب الأطفال على دفاترهم كما يكتبون حين يمارسون الـ(تشات) مع أصدقائهم على الكومبيوتر». وقد عرضت إحدى الشاشات في شارع الحمرا، في يوم مهرجان اللغة العربية، تعريفا ببرنامج إلكتروني يستطيع مستخدمه الكتابة بالحروف اللاتينية، بينما تظهر الحروف عربية على الشاشة، لتمرين الشباب على التعرف بشكل أفضل على أبجديتهم، واستخدامها مستقبلا، بعد رؤيتها على شاشاتهم بشكل متكرر.
تعتبر سوزان تلحوق أن «الكلام على الفصحى والعامية بات مفتعلا في ظل الأزمات اللغوية المستجدة التي تعصف بالعرب. فكل اللغات لها فصحى وعامية، ويتعامل أهلها مع هذه الازدواجية بسماحة وتفهّم، بينما نحن وحدنا نحمل سيف النقمة على أنفسنا»، وفي رأي تلحوق أن «الفصحى تعطي العامية، والعامية تعطي الفصحى، وكل منهما تغذي الأخرى. الرواية مثلا لا بد أن تكتب بالفصحى، ولكن هل يمكننا أن ننتج كل أفلامنا ومسرحياتنا بالفصحى، ونقصر غناءنا على الفصحى؟ هذه أسئلة يجب أن نطرحها على أنفسنا بصراحة، وألا نختبئ وراء نظريات لم تعد تنسجم مع الواقع».
يتفق الدكتور بلال عبد الهادي، أستاذ الألسنية في الجامعة اللبنانية، مع الدكتور إميل يعقوب، على أن نقطة يعتبرانها أساسية، وهي أن أزمة اللغة العربية هي أزمة سياسية. ويقول عبد الهادي: «منذ فترة، لفت نظري أن اليابان تقيم مهرجانا سنويا للخط، يشارك فيه حوالي 3000 شخص من عامة الناس، ومن يفز في هذه المسابقة التي تقام يوم رأس السنة اليابانية - وهذا أمر له دلالة كبيرة - يستقبله الإمبراطور تكريما لمهاراته في فن الخط. ومعلوم أن الإمبراطور في اليابان هو رأس السلطة الروحية، وبالتالي فإن تكريم الفائز الذي يتفنن في الخط، على هذا النحو، هو إحدى وسائل تعزيز علاقة المواطن بلغته، بدءا من شكلها (الخط) للوصول إلى مضمونها». ويضيف د. عبد الهادي: «كل الدول عندها ما يسمى سياسة لغوية. نحن موضوعيون أكثر مما ينبغي مع لغتنا، والموضوعية تضر أحيانا، نحن نعترف بشكل سافر بضعفنا من خلال احتقارنا للغتنا. فإذا كان الإنسان يحتقر نفسه، فكيف لا يحتقر لغته، إن ما نعيشه هو نوع من الانسجام مع الذات، وربما إذا انطلقنا من هذا الانسجام السلبي، استطعنا أن نجد أدوية لأمراضنا اللغوية».
ثمة حلول تربوية في لبنان، كان من الممكن أن تأتي بثمر، لكنها أجهضت، مع بدء العمل بالمناهج الجديدة سنة 2000، يروي الدكتور إميل يعقوب أنه كان قد «تم الاتفاق على وضع كتب للمواد العلمية، أي الرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا بثلاث لغات، العربية والفرنسية والإنجليزية، لتدريسها بالمرحلة المتوسطة. وطبعت هذه الكتب باللغتين الأجنبيتين، لكن الكتب العربية لم تطبع أبدا، علما بأنها ألفت وتم تجهيزها، ودفعت تكاليفها، لكن الأموال ذهبت هدرا، لأنه ببساطه، ترك للمديرين حرية اختيار اللغة التي يريدونها للتدريس لطلابهم، وهم لن يختاروا العربية أبدا. وكان لا بد من إلزامهم بالكتاب العربي كما ألزموا بالكتاب المدرسي الموحد. لذلك أقول إن الدولة نفسها تنظر إلى العربية على أنها منحطة».
«المشكلة متشعبة، وحلولها يجب أن تكون كذلك»، بالنسبة للدكتور عبد الهادي، إشراك الناس في عملية تطوير اللغة، مسألة قد تكون مفيدة. «في فرنسا، مثلا، طلب من المواطنين أنفسهم أن يجدوا بدائل للكلمات الإنجليزية التي بدأت تغزو لغتهم، حتى لو كانت هذه البدائل عامية، وتجد صدى عند غالبية الناس، ليتم تبنيها من قبل السلطة اللغوية. بهذا لم يعد العمل اللغوي حكرا على النخبة الأكاديمية، وإنما أصبح المواطن شريكا فاعلا فيه». ويتابع عبد الهادي: «نحن نستخدم مثلا كلمة (مريول) للتدليل على اللباس المدرسي. المعجم لا يعترف بهذا الكلمة، وإنما نجد فيه (مريلة) أو (مرولة)، لكن لو بحثنا في غوغل عن هاتين الكلمتين لن نعثر على شيء، لأن المتكلمين والمؤلفين العرب يفضلون استخدام لفظة مريول، التي سنجد لو بحثنا عنها في غوغل آلاف الصفحات، فلماذا لا يتم تبنيها؟».
المشكلة الأساسية بحسب ما يرى الدكتور عبد الهادي هو أننا لم نفهم حاجة اللغة إلى الليونة اللغوية، إذ نجد المتشددين لغويا والمتهتكين لغويا، وهذا انعكاس للواقع العربي المنقسم بين متهتكين ومتزمتين يتبادلون المواقع على الشاشات التلفزيونية.
ما بين الأكاديميين والهيئات المدنية التي تعنى باللغة، ثمة إجماع على ضرورة التحرك واتخاذ الإجراءات التي تساعد الفرد على اكتساب ثقته بانتمائه ولغته. جمعية «فعل أمر» لا تدعي أن لها دورا كبيرا، وتصر على أن مهمتها هي إحداث صدمة لدى جمهور الناس، وحثهم على تغيير سلوكهم. وقد حدث هذا بالفعل يوم المهرجان، إذ كان الكلام الذي يتردد على أفواه الكثير من الحاضرين: «صحيح ليش ما نحكي عربي؟» لكن الأكاديميين يرون أن على الدولة أن تتحرك. ويحكي الدكتور عبد الهادي أن أحكم حكماء الشرق (كونفوشيوس) حين سئل أنه في حال استلم السلطة السياسية من أين يبدأ الإصلاح؟ فكانت إجابته بسيطة جدا، لكنها ذات دلالة عميقة، قال: «أبدأ بإصلاح اللغة، وأبدأ بإعادة وصل اللفظ مع معناه».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق