السبت، 28 مارس 2015

حكاية " في الأمر إنّ "




إنّ "النحو" متعب، وهناك من لا يحبّه، وقد يلتبس التعبير على البعض فيقول:" لا أحبّ اللغة العربية" ولكن لا يكون قصده انه لا يحبّ اللغة العربية والسبب بكل بساطة أنّه يعبر لك عن هذا الكره باللغة العربيّة وانّما يكون قصده " النحو العربيّ" وطريقة تعليم اللغة العربيّة، وهي طريقة لا تخلو من كثير من الشوائب. والدليل على ذلك انّه قد يردف كلامه بجملة استدراكية وهي:" ولكن أحبّ الأدب العربيّ"، وحبّه للعربية ينسف الشطر الأوّل من التعبير. كنت قد سمعت طرفة غريبة خرجت من فم أستاذ جامعيّ متخصّص في الأدب العربيّ ويحبّ، على زعمه، الأدب العربيّ ولكنّه لا يحبّ النحو، ليس فقط لا يحبّ النحو، فعدم الحبّ قد تكون له مبرّراته! ولكن تفلت من لسانه كلمات عربيّة يلعب اللحن بأواخر حروفها، ضاق ذات يوم أحد الطلبة ذرعاً بهذا الأستاذ اللحّان، فقال له: هذه الكلمة، هنا، منصوبة لا مرفوعة، فنظر الأستاذ شذراً من طرف عينه بالتلميذ وقال له:" أنا أعلمّ الأدب لا اللغة"، وهكذا نسف الأدب من حيث لا يدري، فاللغة بمثابة الهيكل العظميّ للأدب. وكان عبد الملك بن مروان يعتبر اللحن بمثابة آثار الجدريّ في الوجه. وما أكثر " الكلام المجدور" في زماننا هذا!

لا أظنّ أنّ ابا العلاء المعري يكره اللغة العربية أو الأدب العربيّ حين قال كلاماً قاسياً بحقّ النحو، فقد ورد في تضاعيف احدى رسائله وهي "رسالة الملائكة"  تعبير يخاطب به النحو، فقال:" يا نحو، حقّ لما كتب منك النحو"، فالمعري يتكلم هنا من وحي خبرته ببعض الصعاب المفتعلة في تدريس النحو، وثمّة حكايات كثيرة عن عذابات النحويين مع بعض الكلمات. ولقد احتفظ لنا التاريخ ببعض التعابير التي حيّرت النحاة، وانزلقت قضاياها من قبضتهم كما يزلق الزئبق من اطراف الاصابع، منها ما قاله احد كبار النحويين، وهو على الأغلب للفرّاء والبعض ينسبه لسيبويه عن " حتّى" ، إذ قال :"أموت وفي نفسي شيء من حتّى" لأنّ لها قدرات حربائيّة عجيبة، فهي تنصب وترفع وتخفض، وهذه مقدرة ليست في حوزة كلمات كثيرة. وهناك نحوي آخر وهو رَفيع بن سَلَمة خاف أن تصيبه لوثة الجنون من أفاعيل " أنْ" السحريّة القادرة على إثبات حضورها حتّى في حال غيابها، ونحن نعرف أنّ للمضمر في العربية قدرة على التحكّم بالظاهر من الكلام، وقال في ذلك مقطعاً شعريّاً يخاطب فيه النحويّ الشهير أبا عثمان المازنيّ يروي فيه معاناته مع "أنْ" ، يقول فيه:

تَفكَّرْتُ في النَّحو حتى مَللتُ وأَتعبتُ نفسي له والبَدنْ
وأتعبْت بَكْراً وأصحابَه       بكلّ المَسائل في كلّ فَن
سِوَى أنَّ باباً عليه العَفاءُ لِلْفاء يا ليتَهُ لم يَكُن
فكنتُ بظاهره عالماً  وكنتُ بباطِنه ذا فَطَن
وللواو بابٌ إلى جَنْبه  من المَقْت أحسبُهُ قد لُعن
إذا قلتُ هاتُوا لما يُقال لستُ بآتيك أو تَأتينْ
أَجِيبُوا: لما قِيلَ هذا كذا على النَّصب؟ قالُوا: لإضمارِ أنْ
وما إنْ رأيتُ لها مَوْضعاً  فأَعْرف ما قِيلَ إلاّ بفنّْ
فقد خِفْتُ يا بكرُ من طُولِ ما    أُفكِّر في أَمْر " أَن " أن أُجَن

ولكن هنا لن أتكلم على أمر" أنْ" الواردة في بيت الشعر، وإنّما عن أمر "إنّ" . كنت أسمع كثيراً التعبير التالي:" في الأمر إنّ". فما هي هذه الـ"إنّ"؟ وما هو هذا الأمر المخبوء في تضاعيف "إنّ" الذي دخل في حيّز التعابير السائرة كالأمثال؟

يُقال إنّ أصل العبارة يرجع إلى رواية طريفة مصدرها مدينة حلب، فرّج الله كربها وكرب شقيقاتها من المدن السورية، فلقد هرب رجل اسمه عليّ بن منقذ من المدينة خشية أن يبطش به حاكمها، في ذلك الوقت، وهو محمود بن مرداس لخلاف دبّ بينهما، فأوعز حاكم حلب إلى كاتبه محمد بن الحسين الحلبيّ أن يكتب إلى عليّ بن منقذ رسالة يطمئنه فيها ويستدعيه للرجوع إلى حلب، ولكن الكاتب، وكانت تربطه صداقة متينة بابن منقذ، شعر بأنّ حاكم حلب يضمر الوقيعة بصديقه، فكتب له رسالة عادية جدّاً ولكنّه أورد في نهايتها "إنّ شاء الله تعالى" بوضع شدّة على حرف النون، وحين استلم عليّ بن منقذ الرسالة وقرأها استوقفته هذه الشدّة المريبة  الدلالات على "إنّ"، وهي شدّة لا مبرّر لوجودها، ويبدو أنّ علي بن منقذ فهم هذا اللحن في القول وخصوصاً انه يعرف براعة الكاتب اللغوية، ومن الطريف أنّ لكلمة " لحن " في العربية فضلاً عن دلالتها التي تشير إلى الخطأ في تلفّظ كلمة أو تشير إلى اللحن الموسيقيّ، هناك دلالة أخرى قليلة الاستعمال وضامرة الحضور ولكنّها لا تخلو في هذا السياق من قيمة، فاللحن يعني أيضاً "الفطنة"، وفطنة عليّ بن منقذ جعلته يدرك المعنى المتواري في هذه الشدّة النافرة، فعلم أنّها تشير إلى الآية الكريمة التي لم يأت على ذكرها الكاتب، وهي: "إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ"، فردّ عليّ بن منقذ على رسالة الحاكم برسالة عادية يشكره على أفضاله ويطمئنه على ثقته الشديدة به، وختمها بعبارة: "إنّا الخادم المقرّ بالأنعام" ،  ففطن الكاتب إلى حضور الشدّة في ضمير المتكّلم الوارد في جواب ابن منقذ ودلالاتها المضمرة  والتي تحيل بحسب ما فهم الكاتب الى آية قرآنيّة أخرى، وهي: "إِنَّا لَن ندخلها أبداً ما داموا فيها"، فاطمئنّ  الكاتب إلى أنّ الرسالة المضمرة في الرسالة وصلت كما يجب لها أن تصل، وهي أنّ ابن منقذ لن يعود إلى حلب في ظلّ وجود حاكمها محمود بن مرداس  الذي لا يزال يضمر، رغم معسول الكلام، الغدر به. ومن هنا صار التعبير " في الأمر إنّ"  يدلّ على الشكّ  بظاهر كالثعلب شديد الروغان، ونيّة خبيثة مكّارة، وتوارت الواقعة التاريخيّة التي لا تخلو من حنكة لغويّة بارعة تكشف القناع عن وجه المعنى الخفيّ.

بلال عبد الهادي





 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق