الأحد، 29 مارس 2015

السرّ في العنوان







غواية العنوان



هلْ بإمكان كتابٍ أنْ يلقى رواجاً وترحيباً من القرّاء، وصفحاتُه بيضاءُ خاليةٌ من الكلمات ولا تلطّخ سمعتها البيضاء نقطة حبر واحدة؟ هل يعتبر هذا الكتاب الذي أتحدّث عنه كتاباً؟ وكيف يُقبل الناس بلهفة وشغف على اقتناء كتاب وقراءته! وليس له من مواصفات الكتاب إلاّ عنوانه؟

هذا ما استطاع أنْ ينجزه باقتدار بليغ وطريف ألان غارنر (Alan Garner)، فهو قرّر أنْ يكتب! كتاباً من دون أنْ يعذِّب خاطره بكلمة واحدة (باستثناء العنوان) أو يؤرق روحه باستيلاد الأفكار وتسويدها على صفحاته. ترك همّ الكتابة، وهو كاتب مرموق، لأقلام غيره. ولاقى الكتاب الأبيض فور نشره رواجاً عظيماً رفعه إلى مصافّ الكتب الأكثر مبيعاً إذْ بيع منه سبعُمائةٍ وخمسونَ ألفَ نسخة (عدد لا يحلم به أيّ كاتب عريق ومرموق من كتّاب أمّة "إقرأ"! العربيّة). إنّه استطاع تسويق كتابه ليس لأنّه مليء ومكتظٌّ بالمعلومات وإنّما لأنّه فارغ منها فراغاً دالاّ، صريحاً، جريئاً ولطيفاً. والفضل كلّ الفضل يعود للعنوان الذي اختاره الكاتب، وهو عنوان له من القوّة والإغواء وإثارة الفضول ما سمح له بتخليص صفحات الكتاب من عبء الكلمات لأنّه كان إيجازاً خارقاً للمألوف. إنّه إيجاز من نوع طريف، غريب وصادم. إيجاز اعتمد على بلاغة الحذف الشامل للنصّ وإراحة الأوراق من حبرها الأسود. إذا كان الإيجاز المطلق في الحكْي هو الصمت فإنّ الإيجاز المطلق في الكتابة هو أن لا تلعب الكلمات في الساحات والمساحات البيضاء.

يبدو أنّ "ألان غارنر" كان يتمتّع برؤية متعددة الزوايا، وحنكة في النظر إلى الأمور، إذْ كيف بإمكانك أنْ تبيع دفتراً أبيض الصفحات أوْ ما يشبه الدفتر على أنّه كتاب غنيّ يثير إعجاب النقّاد والقرّاء على السواء  بل وأنْ يُزيَّنَ، فوق كلّ ذلك، غلافُه الأخيرُ ويُذيَّلَ بعبارات الإطراء من نقّاد مشهود لهم بالعلم والجديّة. وهو كتاب لا تعثر وأنت تتصفّح أوراقه على أيّ كلمة، مجرّد ورقات بيضاء نقيّة كالثلج وهي تناهز المائة صفحة لا يتمايز بعضها من بعض بأيّة علامة فارقة؟ في الأمر، حكماً، ما هو أبعد من دهاء الألوان ومكر البياض.

 إنّ "المكتوبَ يقرأ من عنوانه"، وهذا القول من وجهة نظر مصطفى لطفي المنفلوطيّ كاتب "النظرات" مردود، ولا يخلو من خداع إذْ للعنوان أحياناً وظيفة القناع أو الشراك أو الفخّ. كم من عنوان ممتلىء لصفحات جوفاء! إنّ الكاتب الأستراليّ استثمر وظيفة بعيدة الاحتمال جدّاً في العنوان، وليس للعنوان وظيفةٌ واحدةٌ، إنّه لا يختلفّ عن جذع شجرة تنبثق منه عشرات الأغصان، ولكلّ غصنٍ وظيفةٌ. ما اعتمده الكاتب لتحقيق مآربه ولتمرير كتابه الأبيض أو فكرته التي لم يحسم، إلى اليوم، أمرها، هو استراتيجيّة مركّبة. واستراتيجيّته المركّبة تقوم على دمج وتشبيك كوكبة من المفاهيم: مفهوم "الطرافة" أو " النهفة" ومفهوم "النزاع" أو "الزكزكة" بين بنات حوّاء وأبناء آدم  واستخدام الافكار المسبقة حول الجهل والمعرفة وإدراج عالم المشاعر المبهمة والرغبات المكنونة في صلب العنوان. فالمعروف أنّ كلّ جنس يركّب، بحسب التعبير الشائع، "مَقْلة" الجنس الآخر. وهذا مرض لا ينجو منه عرق أوْ أمّة أيّاً كان مقامها في سُلّم الرقيّ، ولمن يريد مثلاً أنْ يعرف عيّنة  ولو بسيطة عن ذلك فما عليه إلاّ أنّ يقرأ الكتاب  الجميل ( لغة الفتيات السرّيّة / (Le langage secret des filles ، للكاتبة الكنديّة جوزيه فوجِلْزْ Josey VOGELS ليدرك أنّ النظرة الكنديّة أي الغربيّة لا تختلف، على سبيل المثال، عن النظرة اللبنانيّة أو العربيّة.

لفّ "ألان غارنر" كتابه الأبيض بغلاف شفّاف يطلّ منه العنوان الجذّاب ليطارد العين ويوقعها في أحابيل اسمه.الغلاف الشفّاف يريك ويقصيك في آن. له دور مزدوج ومتناقض، دور الغواية المحتشمة. وكم من شخص وقع فريسة عنوان برّاق قبل اكتشافه، بعد فوات الثمن، أنّ أجمل ما في الكتاب هو عنوانه! أعرف أنّ العنوان خبيث أحياناً، بسيط وساذج أحياناً أخرى، وقد لا يكون، أصلاً، من اختيار الكاتب وانّما من اختيار الناشر التاجر الماهر في فنّ التسويق فيتحوّل العنوان إلى"قضيب دبق" لإيقاع الزبون لا العصافير.

هذا الكتاب الذي لم تلوِّثْ أوراقَه الداخليّةَ ذرَّةُ حبرٍ واحدة لم يمرّ على رفوف المكتبات مرور الكرام بل حظي بتغطيات علميّة ومراجعات نقديّة جاء بعض ملخّصاتها على صفحة الغلاف الأخيرة، لأنّ قيمته الدالّة تكمن في عنوانه الغدّار وهو:" كلّ ما يعرفه الرجال عن النساء"، عنوان يجمع بين فضول بني آدم وغوايات بنات حوّاء المحتملة. ولا ريب في أنّ العنوان شيّق يغري المرأة والرجل بقراءة الكتاب، كما يفتح الطريق أمام سيناريو النهايات الكثيرة الممتعة لامرأة تهدي زوجها، مثلاً، هذا الكتاب في يوم "فالنتاين" أوْ في عيد زواجهما لتوصيل رسالة ذات مفعول رجعيّ. وكمْ من امرأة تؤمن، في أيّ حال، بالكلماتِ البيضاءِ المسطورة على صفحاته من خلال شكواها بأنّ زوجها لا يفهمها!

حين تقرن العنوان بمحتويات الكتاب البيضاء تدرك أنّ العنوان قال كلّ شيء، تكفّل العنوان بأن يقول باقتضاب شديد كل ما تقوله الصفحات البيضاء، لم يكذب عليك، أو يسخر منك. قال:إنّ الرجل لا يعرف شيئاً عن المرأة،(أليس هذا ما تقوله المرأة؟ أليس الكتاب تكراراً لرأي تؤمن به حوّاء؟) لأنّها في نظره سرّ مكنون، غامض ومحيّر كاللون الأبيض الذي يعترض عينيه وهو يقلّب صفحات الكتاب. بيّن الكاتب بأسلوب واضح وناصع البياض كالصمت مراده أو قناعته بأنّ الرجل لا يفكّ حرفاً واحداً من أبجديّة النساء. وهذا ما يعترف به كثيرون في أيّ حال ومنهم الكاتب البريطانيّ برنارد شو الذي قال بسخريته المعهودة:" يكفي المرأة رجل واحد لتفهم جميع الرجال، ولكن لا يكفي الرجل مئات النساء حتى يفهم امرأة واحدة". الكتاب الذي يظنّه القارىء خداعاً ليس خداعاً، والبياض الذي يمتد في تفاصيل الكتاب ليس بياضاً، إنّه استثمار كثيف لدلالات البياض العديدة. المرأة في عيني الرجل لغز ابيض، لغز لا يقرأ، لغز محيّر كهذا المدى الأبيض. كتاب يشذّ عن سنّة الكتب ومفاهيم الكتب الأدبيّة والفنيّة والعلميّة، ولكنّه لا يشذّ عن سنّة المعهود من آراء الجنسين.

من طريف التعليقات التي أثارها الكتاب أنّ الفكرة الجريئة والمغامِرة التي تعقد قراناً حلالاً بين فنّي التسويق والتشويق لا تجوع ولا تعرى حتى ولو كانتْ مجرّد كلمات بيضاء على ورقات بيضاء! وهل تسويق أشياء كثيرة وهميّة في زمن الاستهلاك الكبير هذا الذي نحياه يختلف عن تسويق الكتاب الأبيض؟



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق