الاثنين، 10 فبراير 2014

حكاية الملح


لغاتٌ ساميّة



يكاد لا يخلو معجم من معاجم اللغات الحضارية من المفردات الساميّة لأسباب عديدة منها دينيّة، فالتوراة والإنجيل والقرآن مثلّثٌ سماويّ مقدّسٌ جوّابُ آفاقٍ وقارّاتٍ ولغات. وقد لا تكون المفردات السامية وصلت الى اللغات الأخرى عن طريق العربية او العبرية او السريانية او الفينيقية او الحبشية، وانما من لغات لا تنتمي الى سلالة اللغات السامية. كما انه من حيث المبدأ لا يوجد هناك لغات نقيّة ( الاّ اذا اصابها مسّ من جنون!) ترفض استقبال مفردات من لغات أخرى، وتغلق حدودها وأبواب معاجمها ولا تسمح لأية كلمة غريبة بالدخول الى حرمها اللغويّ.



الكلمات تحبّ السفر، وحبّها للسفر لا يختلف عن حبّ المآكل نفسها للسفر. ولا يختلف مسار اللغات عن مسار الأطعمة، وهو مسار مليء بالتعرّجات والنكهات. فهناك ما يأتيك من طرق مباشرة وهناك ما يصلك من طرق مواربة. فالبندورة، على سبيل المثال، يكشف اسمها عن مصدر لها مزيّف، فكلمة "بندورة " على بساطتها تحمل مكنوناً دامياً في لبنان كلونها الأحمر خلال حرب السنتين، وصار اسمها كميناً قاتلاً، فالفلسطسنيّ يلفظها بتسكين النون " بَنْدورة" بينما اللبنانيّ يميل الى وضع الفتحة على حرف النون " بَنَدورة"، وعدد لا بأس به من الفلسطينيين دفع حياته ثمناً بسبب سكون النون. في اي حال، كلامي عن البندورة يعود الى سبب آخر، هناك من يعرف ماذا تعني هذه الكلمة، وهناك من لا يعرف كيف وصلت الكلمة الينا، ولكن حين وضعها بلفظها الأجنبيّ قد تلوح دلالة هي، في اي حال، مزيفة أيضاً، "pomma dora"، وهي كلمة ايطالية تعني "التفاحة الذهبية". حين يعرف القارىء مصدر اسمها قد يظنّ ان البندورة نبتة ايطالية، لأنّ الأسماء، كأشياء كثيرة في العالم، أفخاخ، وخصوصا ان ايطاليا شهيرة جدّا بالبيتزا، والبندورة مكون اساسيّ من مكوناتها، ولكن واقع الحال والتاريخ يقول ان البندورة هي نبتة لم تعرفها اوروبا الا بعد اكتشاف اميركا، واحضارها الى اوروبا وتدجينها واستعمالها، بداية، كنبتة للزينة لأنّ الناس اعتبروها نبتة سامّة وقاتلة . ماذا نلحظ؟ ان التسمية من احدى لغات القارة الاوروبية بينما المصدر لها هو اميركا، وهكذا كلمات كثيرة منها، على سبيل المثال، كلمة " ديوان"، وتعني، أساساً، في اللغة الفارسية " مجمع الشياطين" ، ولكن الكلمة موجودة في العربية وموجودة في الفرنسيّة مثلاً في صيغة " divan"، من اين أخذتها الفرنسية؟ لم تأخذها من العربية، وأمر البيتزا لا يختلف عن امر الديوان. البيتزا ايطالية، ولكن هل وصلتنا عبر ايطاليا ام اميركا البعيدة عنّا؟ وكذلك أمر الأكلة اليابانيّة الفاخرة "سوشي"، وفي حال طرحنا السؤال: من أين وصلت السوشي الى أفواهنا؟ هل وصلت الينا من اليابان ام من الولايات المتحدة الاميركية؟  بالتأكيد لم تصل الينا الا بعد أن ألقت برحلها ومذاقها في بلاد "العمّ سام" ، هذا العمّ الذي يحسن "عولمة" الأشياء.



كلماتٌ يابانيّة



تعيش لغتنا العربية حياة بعليّة، على السبحانيّة، كما يقال، إذ ليس هناك همّ لغويّ حقيقيّ لدى الحكومات العربيّة، فالتخطيط اللغويّ ليس من الأمور التي تثير الشهيّة فيما يبدو بخلاف ما هو عليه الحال في كل الدول المتقدّمة في العالم من مغرب الأرض إلى مشرقها. وهنا سأحكي عن نقطة لغويّة من بلاد مشرق الشمس أي اليابان، ومشرق الشمس هو الترجمة الحرفيّة لكلمة يابان.  لكل شعب طريقته في التعامل مع لغته، ولليابان علاقة نموذجيّة مع لغتها ودالّة. في منتهى كل عام تحتفل اليابان بكلمة تكون هي الكلمة الملكة، كلمة تكون بمثابة "adn" العام الراحل، ويقوم الخطّاطون بممارسة مهاراتهم الخطية في توليد أشكال لها.



والمجلات والصحف اليابانيّة تشارك أيضا في هذا الاهتمام اللغويّ الدال، ولكم أتمنى لو تقوم مجلّة عربيّة بما قامت فيه مجلّة يابانيّة اسمها "شمس". لقد قامت هذه المجلة بإصدار عدد جميل جدا عن مائة كلمة تشكل معرفتُها مفاتيح لمعرفة الحضارة اليابانية. الكلمات ليست مجرّد كلمات، انها مفاهيم وأفكار وأحلام . عمدت المجلة الى تكليف عشرات الكتاب من كلّ الاختصاصات للبحث عن الكلمات المائة التي تشكّل جوهر الحضارة اليابانيّة، وتضعها بترتيب يدلّ على دور كلّ كلمة في تشكيل الشخصيّة اليابانيّة، ولم تعتمد على الأدباء فقط، فالأدباء مهما كان دورهم لا يشكلّون الا شريحة واحدة من شرائح المجتمع، كما ان اللغة ليست ملك الأدباء فقط، فاللغة بنت الناس العاديين أيضا. بعد الحصول على الكلمات المائة الأهمّ، خصّصت لكل كلمة دراسة مكثفة تفكّك دور هذه الكلمة او تلك في حياة الياباني. ما لفت نظري ان الكلمة الأولى كانت كلمة من الصعب أن تخطر ببال، وان كانت تشغل حيّزا كبيرا من وقت الناس، هي كلمة " الأناقة "، بينما كانت الكلمة الأخيرة هي " السومو" اسم لعبة المصارعة اليابانية المشبعة بالرموز والطقوس والدلالات.




ملحُ الكلام



لا تخلو اللغات من علاقة ملفتة مع الملح، وهنا أشير الى عبارة عربية تربط بين الملح والنحو، تقول: النحو في الكلام كالملح في الطعام، والعبارة نقد لاذع لمن يكثرون من النحو في كلامهم أو التحذلق والتشدّق، ويصل بهم الهوس الى الظنّ بأن اللغة العربيّة "إعراب" لا غير. كما كان للملح قيمة نقديّة، وهذا ما نلمحه من ذلك الرابط الطريف في اللغة الفرنسيّة من خلال كلمة "salaire"  الفرنسية التي تعني الراتب، ولكن من حيث صيغتها اللفظية وتراكيب حروفها يتبّين لنا انها مشتقة من الملح.



والمَلاحة العربية فيها مذاق الملح. والمسيح وجد فساد الدنيا في فساد الملح. وشعوب كثيرة انقذها الملح من الجوع عبر تمليح المآكل اي عبر تأجيل فسادها او تلفه، ما كان له تسميات تدلّ علبى قداسته الى حدّ ما فهوميروس أسماه" المادة الإلهيّة" .كما نقول عن شخصين بينهما عشرة وألفة ان بينهما" خبزا وملحا" وعبر فعل الأمر " مالحْنا".



كما ان الملح يدخل في حيّز الطرائف عبر " الملحة" التي تجلب البسمة الى الشفتين. كما نجد في العربية تعبيراً طريفاً عن فتاة فائقة الجمال، وحين يريد شخص ما ان يلخّص جمالها الباهر يقول عبارة مالحة!:  " تؤكل بلا ملح" !!



وإذا ما ذهبنا الى الهند يتبيّن لنا ان غاندي استعان بالملح على طرد المستعمر البريطانيّ من بلاده ،ويمكن لمن يريد المزيد أن يطّلع على كتاب" الملح، تاريخ عالمي" للكاتب مارك كورلانسكي المنشورة ترجمته عن دار الساقي.  



    ويبدو ان عزرائيل لا يحب المرور من الأبواب المملّحة في اليابان. كما ان الاشباح والارواح الشريرة يفعل فيها الملح ما يفعله في الحلازين، فرشّة ملح على جسد الحلزون الطريّ كفيلة بأن تدفع الحلزون الى أن ينكمش على نفسه ويلفظ أنفاسه الأخيرة. كانت المرأة اليابانية حين تعود من واجب التعزية تقوم برش عتبة البيت بالملح حتى تجنب بيتها احزانا فجائية لأن الأرواح الشريرة لا يمكنها عبور العتبات المالحة، وأختم بالحكاية التوراتيّة التي تحوّلت فيها زوجة لوط إلى صنم ملحيّ، وحكايات الملح لا تنتهي. 







بلال عبد الهادي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق