لكلّ قارىء عدد
من الكتّاب يؤثرهم على غيرهم، ومن الكتّاب الذين أرى أنهم مغبونون القاضي المحسّن
بن عليّ التَّنوخيّ وهو من رجالات القرن الرابع للهجرة. استوقفني، بدايةً، عنوان
أحد كتبه "الفرَج بعد الشدّة" وهو يعلّم الناس فنّ مقاومة اليأس لذا
أنصح اللبنانيّين بقراءته لأنه يساعدهم على تخطّي أزمات الواقع السياسيّ
والاقتصاديّ المبهم الذي يغري النفس باليأس. كان كتابه هذا مدخلاً إلى متابعة كتاباته
الأخرى ولا سيّما الكتاب الذي لم أفقه فحوى عنوانه من المرّة الأولى وهو"
نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة " وكاد أن يقع الكتاب ضحيّة لاسمه، فكلمة
" نشوار" غريبة، غير متداولة، ولكن غرابتها لم تردعني عن اقتناء الكتاب
لمعرفتي بطلاوة أسلوب الكاتب في فنّ السرد. وكلمة " نشوار" تعني
"الكلام الحسن". ميزة الكتاب أنّه تسجيل حيّ وعفوي لأحاديث سمعها،
وأحداث عايشها أو التقطها من أفواه من عاشها. ما يشدّك إلى التنوخيّ هو تلك
الخصيصة الأدبية التي يكاد أنْ يتفرد بها بين معاصريه وهي أنه لم يدخل إلى الفكر
من باب اللغة وإنما دخل إلى اللغة من باب الفكر، لأنّ المرء حين يفكر باللغة لا
بالفكرة تتعثر ولادتها هذا إذا لم تتحول الفكرة إلى مجرد لفظٍ بارد فيه من التصنّع
ما يجعل العين تتأفّف من متابعة قراءته.
ثمّة أمور
كثيرة يتميز بها التنوخيّ ولكنّ أتناول اليوم حكاية من الحكايات التي سردها في
كتابه " المُسْتجاد من فَعَلات الأجْواد" وهو حكايات حلوة عن الكرم، ولا
ريب في أنّ الحديث عن الكرم يخفي في كواليسه بؤس أناس كثيرين، فالكريم لا يظهر
كرمه إلاّ مع الفقراء وعليه فإنّ حكايات الكرماء هي أيضاً حكايات الفقراء
والبؤساء.
يخبرنا
التنوخيّ حكاية عن ساعٍ في الخير، وثمّة أناس كثيرون لا تسمح لهم أحوالهم المادية
بمساعدة الآخرين، وفي نفوسهم عزّة، فيطلبون لغيرهم ولا يطلبون لأنفسهم، وهم، لحسن
الحظّ، موجودون وإنْ كانوا قلّة. سعيهم في الخير لا يحولهم بين ليلة وضحاها إلى
أثرياء لهم خدم وحشم بل يظلّون على وضعهم المعهود. عزّة أنفسهم تخوّلهم مساعدة
الناس عن طريق توسّطهم بين المحتاج والميسور الذي ثقته بهم في محلّها. جاء في إحدى
المرات رجل محتاج إلى ساعٍ في الخير للحصول على ما ييسر له أمره ولكن لم يعثر على
إيجاد من يفكّ ضيقة قاصده فذهب إلى ضريح رجل كان في حياته سخيّ اليد وراح يسأله
عسى ولعلّ. طبعاً الميّت لم ينبس ببنت شفة، لسانه تراب! قد يعتبر بعض الناس أنّ
حديثه مع الميّت مسّ من جنون، ولكن لا شكّ في وجود عدد لا بأس به من الأحياء
يتبادلون أحاديث طريفة مع الأموات، ولا أظنّ أنّ زيارة القبور تكفيها لغة العيون
الدامعة. من الطريف أن يذهب المرء إلى مراقد الموتى ولا سيّما في أيام الأعياد
ويصغي لما يقوله الأحياء للأموات، ولعلّ الأمهات الثكالى هنّ أكثر من غيرهم قدرة
على فهم معنى محاورة الموتى! ويمكن القول أيضاً إنّ الأحياء مسكونون بالموتى!
أنهى الساعي في
الخير مناجاته مع الميّت ثم قصد المحتاج فأخرج ديناراً كان معه " وكسره نصفين
وناول المحتاج نصفه وقال:هذا دين عليك إلى أن يفتح الله عليك". الساعي في
الخير ليس ميسوراً بالقدر الذي يسمح له بالاستغناء عن نصف دينار. يبدو أن كلام
الساعي في الخير ظلّ صداه يرنّ في بقايا أذن الميّت، كيف لم يستطع تلبية طلب
محتاج؟ إنزعج الميّت كثيراً فهو لم يعتد أن يخيّب ظنّ من يقصده، انشعل باله وراح
يفكّر في إيجاد طريقة لمساعدة الحيّ المحتاج. انتظر الميّت حلول الليل، ويبدو أن
صحبة الموتى مع الليل تفوق صحبتهم مع النهار! الساعي في الخير نسي الموضوع، فهو
عذر الميّت، في قرارة نفسه، على صمته، ونام مرتاح الضمير أيضاً لأنّه فكّ ضيقة
المحتاج بما قدر عليه. الميت كالأعمى يستطيع بغيره وهو يعتمد في تحقيق رغباته،
عادة، على الأحياء! وما إن استغرق الساعي في الخير بالنوم حتى أقبل إليه الميّت في
المنام قائلاً بشفتين متلعثمتين: " لم أجبك لأنّه ليس لنا إذْن- نحن الموتى-
في الجواب، ولكن احضر منزلي وقل لأولادي يحفرون مكان الكانون ويخرجون قُرْبة فيها
خمسمائة دينار فاحملها إلى هذا الرجل". تنفّس الميت الصعداء بعد أن تفوّهت
شفتاه بما تمليه عليه مروءته. وفي الغد نهض الساعي في الخير من نومه عازماً على
تنفيذ ما أفصحت به شفتا الميت. ذهب إلى أبناء الميت وحكى لهم قصته مع أبيهم
الراحل. صدْق أبيهم في حياته كان عوناً لهم على تصديق حكايته مع الرجل،"
فحفروا الموضع وأخرجوا الدنانير وجاؤوا بها فوضعوها بين يديه فقال: هذا مالكم وليس
لرؤياي حُكْم، فقالوا: هو يتسخّى ميتاً ونحن لا نتسخّى أحياء! فلمّا ألحّوا عليه
حمل الدنانير إلى الرجل وذكر له القصة فأخذ الرجل ديناراً فكسره نصفين فأعطاه الذي
اقترضه وحمل النصف الآخر وقال: يكفيني هذا فتصدّق بالباقي عن صاحب هذا
القبر". وأنهى التنوخيّ حكايته بتعليق لا يخلو من حيرة إذ يقول:" فوالله
لا أدري أيّ هؤلاء أسخى وأكرم!".
والحيرة كالحكايات تعدي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق