هذا مقال كنت قد كتبته عن ديوان الصديق غسان علم الدين الذي رحل على حين غفلة، وكنت قد نشرته في جريدة السفير. أذكر أنّه كتب، ذات يوم ، مقالا عن رحيل محمد الماغوط تحت عنوان " خيانات الجسد".
ودائما أجسادنا، في النهاية ، تخوننا بشكل من الأشكال.
إلى لقاء لا مفرّ منه!
شاعر يحيا بين "أرصفة المسرّة" و"مربعّات الكآبة"
لا تخلو طريقة توزيع كلمات العنوان في ديوان غسّان علم الدين " حين سرب فراشات اصطدم بزجاج النافذة " ( ) من دلالة سيميائية، تختزن وتختزل لبّ نصّه الشعريّ، كما تكشف لنا مآل الكلام والذات والملذّات والرغبات. فالعنوان طويل يتمدّد على ستّة أسطر تمدّدا يعكس حالة النصوص.الكلمات الثلاثة الأولى تتمتّع بحرية ظاهرة ولافتة، حريّة ما قبل الاصطدام.فلكل كلمة سطر مستقلّ، أو حيّز فضائي مختلف من حيث موقعها في السطر، إلاّ أن الأمر سرعان ما يتغيّر حين الوصول إلى الفراشات المصطدمات بالزجاج، هنا يتبدّل كليّا موقع الكلمات، موقع يحاول أن يرسم أو يصوّر حركة السرب المتّجهة بحدّة نحو الأسفل ومن ثمّ نحو السقوط. فوضع الكلمات يبدو نقلا حيويّا للحظة الاصطدام حيث تجمد الكلمات وكأنها تصطدم فعلا بزجاج النافذة، فالعنوان مشطور إلى شطرين، وكأنما ذلك فعل الزجاج المرائيّ وغير المرئيّ، لأنّ السطور الثلاثة الأخيرة من العنوان تصوّر لنا افتقاد الكلمات حرّية الحركة والتقدّم. والطريف في أمر العنوان أنّه مقطع من قصيدة، إلا أنّه يحاول الانفصال عن مسقط رأسه إن شئنا بالتنّكر لشكله، وإعادة تركيب جديدة لمواقع الكلمات هي بنت الغلاف، واختلاف الشكل ليس بريئاً، كما أنّه لا يعرى من الدلالة، لأنه يمنح العنوان استقلاليّة وانفصالاً يزوّده بمعنى مختلف، فهو يتقلّص في موقعه من القصيدة الموسومة"هجس" إلى سطرين، دون أن يتخلّى عن أية مفردة، إنّه تغيّر في مواقع الكلمات، وهو تغير يؤدّي بالقارىء إلى التساؤل عن أسباب هذه الصياغة الشكليّة، لا سيما أنّ الشكل مضمون شأنه شأن الدلالات. وللفراشات كما للزجاج أكثر من مكان في قصائد الشاعر. ولا ريب في أنّ طبيعة الزجاج تشبه إلى حدّ كبير طبيعة الفراشات من حيث كمون بذور التحوّلات بشكل من الأشكال في كلّ منهما، وفي الاثنين معاً شيء من رغبات الإنسان المستحيلة، بناء على قول حكيم المعرّة وبصيرها أبي العلاء المعرّي في لزوميّة من لزوميّاته حيث وقف يوما مشدوها أمام عناد الزجاج على هشاشته وقابليّته للولادة المتجدّدة وكأنّه امتداد شفّاف لطائر الفينيق بقوله:
يحطّمنا ريب الزمان، كأنّنا زجاج، ولكن لا يعاد لنا سبك.
أسراب السراب والسحاب
مسألة أخرى تسترعي النظر، في ديوان الشاعر، وهي الإهداء الملتبس الذي يتوارى فيه الشاعر خلف قصيدة ليست من صلب الديوان، إلا إنها تترك صداها أو يصل صداها إلى لحظات الديوان الأخيرة. فالإهداء يتّخذ، هنا، إلى حدّ كبير دور الاستسقاء القديم عند العرب، حين يرفعون أنظارهم والراحات إلى السماء طالبين من الله استدرار عطف السحب لإرواء عطش الأرض والجسد، فالشاعر يقول في الإهداء:" لأجل أن تمرّ السحابة/وتعبر الفراشة/وتغفو سارة/على أمل أني في الجوار" والغفوة هنا محاولة لتحقيق مطلب سارة ( ابنة الشاعر الصغيرة)، لأنّ الشاعر يستسقي كسر المسافات الجائرة بينه وبين سارة، حتّى تُنقذ بشَرة روحه نفسها من الخدوش والتشقّقات الضاربة عميقاً.
طبعاً من الممكن أن يكون الإهداء شيئا آخر من خارج النصّ ومن خارج المعنى العام إلا أنّه لا يمكن لنا، في كتابة علم الدين، إعفاء الإهداء من تهمة الشعر أو الانتساب إليه، ومن اعتباره مقطعاّ من متن النصّ الصلب، لأنه هو الذي تحكّم، إلى حدّ بعيد، بمسار الكلمات في نصوص الشاعر، إذ يظلّ ظلّ الإهداء مرفرفاّ كالفراشات بأجنحتها الهشّة والطائشة عملاً بالقول العربيّ المأثور: "أطيش من فراشة". والجدير بالملاحظة أنّ الفراشة طائر يرمز إلى الحماية، بخلاف ما هو عليه الأمر في العربيّة، في معتقد بعض قبائل الأمازون، كما انّه يستجلب الطمأنينة، إلا أنّ الحماية، في نصّ علم الدين، تتحطّم على ملمس الزجاج الأفعوانيّ.أخذ الإهداء على محمل الشعر هو وليد الصفحة الأخيرة من قصيدة الشاعر المطوّلة " اقتفاء أثر" لأنّ الإهداء يتمشّى في مفاصل النصوص وصولا إلى مصبّه في الصفحة الأخيرة من الديوان، مع تعديل وتحريف دالّين يعبّران عن حالة الروح الواهنة لدى الشاعر، وهي ربّما الإخفاق، إذ ليس أشقّ على النفس من أن يتكشّف بهاء الأمل عن دهاء الوهم الجارح كمخلب قطّ، وما يرهص بالتحوّلات هو صيغة النفي التي تتجلبب بها أفعال الإهداء في ختام القول "لم تمرّ السحابة"( ص82)، وهنا تحمل السحابة دلالة جذرها المتحرّك" السحب" إلا انّه معلّق، مجمّد، ملغى، بحكم أداة النفي"لم" أي أنّنا أمام انعدام ونفي للحركة المنسوبة لحيويّة السحابة وحركيّتها، وكذلك الأمر بالنسبة لـ"ولا عبرت/الفراشة"(82)، حيث العبور الذي كان منتظرا على أحرّ من الشوق لم يكن أكثر من توأم لـ"غودو"، الشخصيّة الهلاميّة التي رسمها صموئيل بيكت. كما هو الحال في تهاوي الفراشات لدى اصطدامها بالزجاج، ولا ريب في أنّ مفردة " الزجاج" من الكلمات الأثيرة في الشعر الحديث. لأنّه كيان مخادع، شفّاف وهشّ إلا أنّه جارح، موجود وغير موجود في آن، وإلاّ ما سبب الاصطدام؟ يُعرف بغيره لا بوجوده إن صحّ التعبير، نظافته الشديدة قاتلة إلا إذا احتلنا عليها بإطار يحدّها أو يحدّ الوهم. الزجاج لا يلعب أيّ دور ايجابيّ في نصوص غسّان علم الدين، فلنلحظ، على سبيل المثال، هذه الصورة التي ما كان لها أن تكون بهذه الحدّة لولا نهاية القصيدة التي ورد فيها هذا المقطع المتعدّد الدلالات، "عيناه/تمضغان زجاج الواجهات والنساء" (ص 16)، العينان عائدتان إلى شخص منزوٍ، وكأنه في سجن، ليس أيّ سجن إنّما هو الفم، مكمن اللسان الموّار والكلام والتواصل، يتحوّل إلى سجن. والصورة، مأساويّة بامتياز، وان كان المضغ من خاصيّات الفم إلا أنّه هنا من خاصيّات العين، أي أن العين أيضا، تحيا خيبة اللسان الماضغ سدى، إذ إنّ المضغ وحده لا يسدّ رمقا لجائع، انه أشبه بعبث لا يفضي إلاّ إلى مزيد من العبث، وما يعمّق ملامح المأساة هنا هو تركيز عدسة العين على هذا المنزوي الذي "يحمل هاتفاً- سجناً – في فمه"(ص 16).فالهاتف هذه الوسيلة التي تعيد للفم نشاطه الشفاهيّ البكر والمباشر تؤول سجناً أخرس، مرّ المذاق.
مكر الأضداد وانكسارات الأضواء
لا تخلو ( كان يفترض إبدال "لا تخلو" بعبارة أخرى حتى لا اسقط في التكرار، أزعجني عدم الانتباه إليها.) كتابة غسان علم الدين من لعبة الأضداد، أو لعبة الاصطدام بين سالب الدلالة وموجبها، وهي تُستخدم لنقل ما تضطرب به ذات الشاعر من صخب أو خيبات. والتضادّ يتبدّى في قصائد الشاعر، طوراً على مستوى تركيب المفردات وطورا آخر على مستوى توليد الصور التي تفتح مجال القول واسعا للتأويل، " امرأة تلعب القمار/ساعة دفن زوجها"(ص 9)، حيث يفترض بمنطق الأمور أن يكون كل شطر في اتجاه دلاليّ مختلف ومناهض للآخر، إلا أنّ الشاعر يوحّد مسار الدلالتين المتعارضتين والمتخاصمتين ليفرج عن عبث المشهد ذي الدلالة الوعرة والناتئة، وهذا يذكّرنا بحالة "مرسو" بطل قصة " الغريب" الصاخبة والعابثة للكاتب الفرنسي ألبير كامو حين يذهب لمشاهدة فيلم سينمائيّ إثر معرفته بوفاة والدته! وتتكرّر الصور أو المشاهد المشابهة التي تعمّق من إلحاح الشاعر إلحاحا يبلغ ذرى الهاجس من مثل"الأضواء/ترقص في المياه/تأخذ أشكال أحذية/تحتاج إلى أنصاف نعال." (ص 34) أو " أتخيّل الساحة التي غمرتها المياه/ ترقص كهيكل عظمي/في أفلام الرعب" (ص 66). حين نصطدم بتحوّلات دلالات الرقص الماتعة إلى هيكل عظميّ مرعب، أو حذاء بالٍ بلا نعل. أو حين تنبثق لذّة من خلل رماد الذكريات " متلذّذا/برائحة حريق الذكريات"(ص33). أمّا الصبح المكتنز بالضوء الوليد فنجده عند الشاعر قبراً نابتاً في حميميّات الأمكنة "والصبح هناك/قبر في غرفة نوم/أكثر منه ألفة"(ص62)، وهذه التحوّلات تتجلّى أيضا في تحويل الزاحف، بقدرة حلم، طائراً بهيّ الصوت " سمعت عن حرباء امتصّت حلماً، صارت بلبلا" (ص 45).
وهنا لا يقوم علم الدين إلا بأخذ عيّنات أو "صور" (ص 9 ) " تؤنس الطريق" (ص 10)، وحين نقلّب وجوه هذه الصور، لا نرى في أغلب تفاصيلها ما يدعو للأنس، بقدر ما نراها ترسيخا لمشاعر الأسى، وإرهاصاً أو إشاراتٍ سوف تغذو القصيدة الأخيرة الأطول بين القصائد " اقتفاء الأثر". ومن العبارات التي تزيح دلالاتها الأولى عنوان قصيدة الشاعر "تنظيف الرأس" فكلمة "تنظيف" بمفردها لا تحمل، في غالب الأحايين، إلا المعنى الموجب، إنها إزالة الأوساخ والأدران إلا أن اتصالها الغريب والملتبس بالرأس ينظّفها من دلالتها الأولى، ويضفي عليها دلالة أخرى جارحة، لأنّ تنظيف الرأس هنا، أشبه بعملية غسل دماغ ومحو لكلّ ما كتب على صفحات حياة الشاعر الماضية، أي أنّ التنظيف، في النصّ، تجريد الإنسان من ذاته، وذكرياته، وواقعه، وأيّ شيء يتبقّى من الحيّ حين يقوم بنفسه، أي بعمل إراديّ، بفعل التنظيف أو الهدم؟! إن الإرادة هنا تتدخّل لتجميد فعل الإرادة والتداعيات " أنظّف الرأس من الأفكار والذكريات" (ص 11). من هنا شعورنا ونحن نقرأ الديوان أن النصوص تتّخذ شكل متاهة يعبرها الشاعر وحيداً، أعزل. ولعلّ كثرة العناوين التي تدلّ على الأمكنة الثابت منها والمتحرّك كالطرق والقطارات تساهم في تمهيد السبيل أمام ولادة الإحساس بالمتاهة الشرهة أو التيه الكريه: "طريق"، "دروب"، "شرود..طرق"، "ممرّ". ولعلّ متاهة الشخص تبدو أكثر ما تبدو في متاهة النصّ الذي يحمل عنوان "شرود..طرق" حيث يقول: "...كم من الوقت والطرق والشرود/لكتابة/تبدأ ولا تنتهي، /أو/ تنتهي قبل أن تبدأ/لا تبدأ ولا تنتهي؟"(ص 37). أليس ما يقوله الشاعر، هنا، بدلالته التي لها حركة الأفعوان الملتفّة على بعضها هو نفسه فعل الكتابة وفعل الحياة على السواء؟
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق