المآكل بنت الأوقات. ولكن ثمّة مآكل عابرة للأوقات والفصول والقارات. تتمرّد على الصيف والشتاء، وتدير ظهرها للخريف والربيع، ولا تبالي بالانقسامات الدينية او العرقية او الجنسية.
والمآكل كالكلمات ترتفع أسهم بعضها في بورصة الاستعمال، في ظرف ما، ثمّ تنخفض في زمن آخر. الثبات وهم، وهم مريح للنفس والأعصاب، يظنّه الناس راسخا كالجبال الرواسي ولكن في لحظة انكشاف يبدو كثيباً مذرورا.
هكذا أمر الأكل لدى كلّ الشعوب فديك الحبش مثلا في عيد الشكر في أميركا هو بمثابة الخروف في عيد الأضحى( فلقد قرأت ان أميركا تستهلك خمسين مليون ديك حبش في يوم الشكر)..
هذه الخاطرة هي بنت صورة أبي وهو يبيع الرز بحليب، وبعض ذكرياتي عن أبي، الذكريات المطبخية، وكان أبي طبّاخاً ماهراً، وما الحمّص والفول إلاّ الظاهر من مهارات أبي طيّب الله ثراه.
ولم يأت ، بعد، وقت الكلام عن الحمّص والفول وأبي.
عادات الناس في الطعام تستحقّ أن تروى، فالطعام هو دين ودنيا وألوان وعلاقات ومفاهيم وايديولوجيات وميتولوجيات، انظر الى الطعام الأبيض ومناسبات الإكثار منه في الأيّام البيض، وطريقة الناس في التعامل معها. هناك مآكل تتصل اتصالا روحيا مع العالم الديني. ويكفي للمرء التجوال في عالم المآكل الرمضانية.
الصيام يغيّر مصير مهن كثيرة، ومنها مصير باعة الحمّص والفول في طرابلس القديمة، فكلامي هنا عن منطقة السويقة في طرابلس قبل منتصف القرن الماضي، أو خلال منتصف القرن الماضي. كان لوالدي مطعم صغير على مدخل الجسر الذي التهمته طوفة نهر أبو علي. وعرفت مكانه وشكل الجسر من صور قديمة عثرت عليها في بعض مواقع التواصل. كان خلال شهر الصيام يتوقّف بيع الحمّص والفول خلال النهار، وينشط قبل الإفطار ، ولكنه نشاط محدود، فتتغير أعمال أبي، يسهر الليل في تحضير كاسات الأرزّ بالحليب وجاطات الأرز بالحليب لبيعها خلال السحور. كان نفس أبي على الطعام طيّباً ، ويده خضراء، وهذا بشهادة من اعتاد الأكل من يديه، تبقى - كانت - طعمة الأرزّ بحليب تحت أسنان من يأكلها، وكثيراً ما التقي بكبار في السنّ فيذكرون لي المذاق المميّز الذي ذاقوا طعمته من يد أبي.
الأرزّ بالحليب فرصة لمن يحبّ الغشّ، فالحليب ساتر العورات، ( يستر على الماء المضاف إليه لتكثيره) ولكن والدي، كان يكره أن تتشوّه طعمة الحليب بهذا الغشّ الممجوج، فيحافظ على دسامته كما هي. وكان وجه أبي مرزوقا، ولكن كان يؤمن بقيمة ما يعمل أيا كان، ويحترم الأشياء التي يتعامل بها أو معها، ويدخل شغفه كمكوّن من مكوّنات أعماله، ويسخو على مكوّنات الأشياء من وقته وجهده وحبّه.
انقطعت علاقة أبي مع بيع الأرزّ بالحليب بعد انتقاله في العام ١٩٥٩ إلى شارع #جبران_خليل_جبران القريب من شارع عزمي، والمعروف باسم شارع #المطران أو #ساحة_الكيّال والذي يناديه البعض بشارع #الدنّون بحكم وجود المحل في هذا الشارع. ولكن لم تنقطع علاقته مع تحضير الأرز بالحليب في البيت .
هوايته في صنع الحلو كان يمارسها في البيت، من حلاوة الأرزّ، إلى حلاوة الجبن، إلى المهلّبيّة أو الهيطليّة، إلى زنود الستّ، إلى هريسة اللوز، الى السمسميّة، والعبيدية، وأقراص المعمول بالجوز أو التمر ( السيوا)، أو الغريبة بفلقة الفستق التي تزيّن وجهها والتي كان عرك عجينتها يتطلب دقّة خاصّة ، لتنفخ وتقرمش كالكعك الهشّ، ويصنع جبنة الحلّوم.
أيّام صناعة أبي لبيع الأرزّ بالحليب كانت قبل مولدي ، ولكني عرفتها من مرويّات أبي، وتحضيره لها في البيت.
ما أعرفه أن عدوى حبّ تحضير الطعام ورثتها من والدي، فخلال إقامتي في باريس، كنت أصنع معمول الجوز والتمر والهريسة والعبيدية والسمسيّة وغيرها من الحلويات.
ولا أنسى كيف أنّ نفسي راودتني في التسجيل في معهد للطبخ في باريس بعد أن أنهيت رسالتي للدكتوراه. ولا أزال الى اليوم أقرأ أي كتاب يقع بين يديّ عن ثقافة الطعام وعلاقتها في تشكيل الحضارات، وفي كتابي #لعنة_بابل مجموعة من المقالات عن علاقة الأدب بالمآدب والطعام، وعن علاقة الكلام بالطعام.
فالطعام لغة كاملة الأوصاف لها نحوها وصرفها ومعجمها وتراكيبها ومستواياتها.
وهل يختلف تحضير طبق عن تحضير نصّ أو معنى الكلمة عن معنى اللقمة؟
وهل مكوّنات النصّ غير شكل من أشكال مكوّنات طبخة؟
وكثيراً ما استنجد بابن جنّي في نظريته عن الاشتقاق والتقليبات الصوتية لأصل إلى تلك العلاقة الحميمة القائمة بين " خ ط ب" و " ط ب خ". و " أ د ب " بفرعيه: الأدب والمأدبة.
علاقتي مع المطبخ هي تجلٍّ من تجلّيات علاقتي بوالدي، وحبّي لمؤلفات كلود ليفي استروس الفيلسوف البنيوي عن الطعام : أصل آداب المائدة، من العسل إلى الرماد، النيء والمطبوخ، إنّما هو شكل من أشكال حبّي لأبي، تغمّده الله برحمته الواسعة، وأمدّ ذكراه العطرة بالعمر المديد، إلى ما بعد فناء جسدي.
** يظهر في الصورة الى يسار أبي ابن أخته #سهيل_الحسن ( أبو علي الحسن) الله يعطيه الصحّة وطولة العمر المعروف أيضا بالدنون وهو صاحب مطعم الحمّص والفول في طلعة أبي سمرا، القلعة، وهو ابن عمتي ، وزوج بنت عمّي الحاج محمود الدنّون رحمه الل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق