تفتنني سيرة أبي كما تفتنني بساطته العميقة الشبيهة بالسهل الممتنع.
عاش يتيم الأم، وكان دون الخامسة من العمر، ونزل إلى سوق العمل بكلّ معنى الكلمة وهو في هذا العمر الطريّ.
ولكن الآن سأحكي عن نقطة واحدة، هي #سندويشة_الطفولة.
كان ينظر دائما إلى من هو دونه لا إلى من هو فوقه، ويعرف أنّ الله أنعم عليه نعماً كثيرة.
كان فقيرا معدما، يضطر أحيانا أن يأكل شندويشة زعتر بلا زيت لعدم توفر الزيت في البيت، يرشّ الزعتر فوق الرغيف ثمّ يرشّ قليلا من الماء فوق الزعتر بدل الزيت، ليستسيغ بلعها ولكنّه كان يقارن شندويشته بشندويشة شخص آخر هي عبارة عن رغيف حاف بلا زعتر وبلا زيت.
كان يفكّر بشيء واحد هو تلبية رغبات طموحه الذاتية، طموحات صغيره بحجم عمره.
أعطاه الله بسخاء ومع هذا لم يغيّر نظرته الأولى، ولم ينسَ للحظة طبقته التي أنجبته.
ظلّ يقارن نفسه بمن هو دونه لا بمن هو فوقه.
لم تكن الشكوى من عاداته أو طبعه.
عرف بطنه في طفولته الجوع ، ولكن عينه لم تعرف الجوع أبدا.
سندويشة الزعتر برشّة الماء بدلاً من رشّة الزيت، كانت محرّكه للعمل، وسبب بناء علاقة حميمة جدّاً له مع شجرة الزيتون، وأذكر أول قطعة أرض زيتون اشتراها في مجدليا، وكيف راح يعتني بها شجرة شجرة، وغصنا غصنا، ثمّ راح يقتني أمتار الزيتون إلى أن صار في بعض المرار يفوق محصول أراضيه الخمسمائة تنكة زيت، جزء منها يوزّعه لوجه الله، والفقراء.
وصارت شجرات الزيتون التي أعطاها والدي رحمه الله الكثير من وقته، وعنايته، حتّى كان خبراء الزيتون يعرفون قطعة أرضه لفرط تمايزها عن غيرها عناية واهتماما، إذ كان يكشط عن وجه تربتها الأحمر الحشيش كما لو أنّه لا يريد أن يعكّر صفو شجراته شيئٌ، وكم أسعده أن تلبّي شجراته حاجات المطعم من الزيت والزيتون.
ومن غرائب الأقدار أنّه غادر الفانية مع موسم قطاف الزيتون.
في كلّ حبّة زيتون أرى وجه والدي، وفي عروق شجرة الزيتون أرى عروق يد أبي.
وفي قطرات الزيتون أرى لمعات عرق جبين والدي.
وهنا مناسبة لشكر الجمعية التعاونية لمزارعي #زيتون_طرابلس، التي فاجأتنا بطباعة نعوة باسمها لوالدي رحمه الله، وكانت قد كرّمته منذ سنتين بدرع تكريميّ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق