الأحد، 27 فبراير 2022

لا تغيب اللغة عن ذهني وأنا أقرأ في كتب الابتكار

 

لا تغيب اللغة عن ذهني وأنا أقرأ في كتب الابتكار، والإبداع، والاختراع، وتوليد الأفكار...

قرأت مجموعة من الكتب والأبحاث حول التصميم والابتكار، وكنت أضع فقرات من الأفكار التي مرّت عليّ على صفحتي، فتكلمت عن طريقة سكامبر، وعن ريقة تيمز، وكانت تلوح لي من وراء طرائق الابتكار عوالم اللغة، واللغة عالم واسع جدّا، ومتشعب، فاللغة تأخذك إلى اللغات، وهناك ما لا يقل عن خمسة آلاف لغة، ولكل لغة طريقتها في رؤية الأمور، أي أن كل مشكلة يمكن أن تراها من ما لا يقلّ خمسة آلاف وجهة نظر..

كنت أقرأ ذات يوم عن الثنائية اللغوية، أي عن الأشخاص الذين يتقنون لغتين، وكان صفي الدين الحلّي يعتبر مالك اللغتين شخصين لا شخصا واحدا، أي كما لو أن ذلك الشخص يملك دماغين لا دماغاً واحدا في جمجمته! 

ومنن الأمور الطريفة ما قرأته عن شخص استعصى عليه الحلّ وهو يفكّر بلغته الأمّ،  فقرّر أن يضع لغته الأم جانباً لبرهة من الوقت، ويفكّر باللغة الثانية في إيجاد الحلّ، وكانت النتيجة مثمرة إذ وجد حلاّ لم يخطر بباله وهو يفكر بلغته الأمّ..

كما قرأت دراسة ميدانية لاختبار التغييرات التي تطرأ على التفكير بالانتقال من اللغة غلى اللغة الثانية، وكانت الدراسة مزدوجة، القسم الأول مجموعة من الأسئلة تكون الإجابة عنها باللغة الأم، والقسم الثاني يتضمّن الأسئلة نفسها ولكن باللغة الثانية والمطلوب الإجابة عنها باللغة الثانية، ختام الدراسة أظهر اختلافاً في الأجوبة، كانت في بعض الأحيان الإجابة تبدو كما لو إنّها إجابة من شخص آخر....

الترادف اللغويّ نجده أحيانا في برنامج سكامبر كما نجده في مبادىء تيمز، وأردت من وراء ذلك أنّ القوانين اللغوية، أي القوانين الصوتية، والمعجمية، والتركيبية، والدلالية، والبلاغية، يمكن أن تكون ادوات لإبداع غير لغويّ. ولا أنسى أني اقترحت ذات يوم على أحد الأشخاص وهو يملك متجرا صغيرا، أن يقرأ كتاباً في علوم البلاغة ليطبّق هذا العلم على إدارة متجره، كثيرون استغربوا اقتراحي، ولكن لم اقترح ما اقترحت على سبيل الفكاهة أو الدعابة وإنّما كنت على قناعة تامّة...

في البلاغة حذف، وفي النحو حذف، لأفترض أنّي قرّرت أن أغير من أسلوب العمل عن طريق حذف بعض أشكال البضاعة .. الحذف يتطلب مهارة، ماذا أحذف من عملي؟ أيّا كان عملي؟ لنأخذ هاتف الأيفون الذي غير علاقتك مع لوحة المفاتيح.. ماذا فعل ستيف جوبز؟ ألم يمارس الحذف...؟ ألم يحذف لوحة المفاتيح الثابتة من شاشة الهاتف فازداد حجم الشاشة، ما قيمة لوحة المفاتيح على الشاشة وأنت تشاهد مقطع فيديو غير تصغير الصورة، صارت لوحة المفاتيح تختفي حين لا تريدها وتحضر وقت اللزوم... 

ما علاقة الإبداع بشكل الجملة؟

هناك جملة بسيطة وهناك إبداع بسيط ، هناك جملة مركبة وهناك إبداع مركّب. كيف أنظر إلى سلعة بسيطة بعيني جملة مركّبة، أي كيف أحوّل الإبداع البسيط إلى إبداع مركّب..؟

ثمّة قنوات كثيرة تشبه جذور الأشجار التي تتواصل فيما بينها في الغابات... بين اللغة وكل ما هو موجود في العالم، في كل ما نراه ، وفي كل ما لا نراه، وما لا نراه هو الذي يضخّ الحياة في ما نراه، فجور الشجرة الخفية، المطمورة تحت التراب هي التي تتحكّم بالجذوع والأغصان والأوراق والثمرات... وهي التي تغذي ما نراه.. أي ما لا نراه هو ما يغذّي... وليس من المستحيل أن أرى ما لا أرى... أشعة إكس تريني ما لا أرى.. التصوير بالرنين المغنطيسي يريني ما لا أرى...

أعود إلى الحذف ، والحذف فنّ ويحتاج إلى خيال... ولانظر الى الكرسي من باب الحذف... في الجملة العربية يمكنني أن أحذف الفعل، أو أن أحذف الفاعل، أو أن أحذف المفعول به، ومن يرجع غلى كتب النحو سيجد أبواب الحذف وأنواع الحذف مفرودة أمام عينيه، قلت على سبيل المثال لأنظر إلى الكرسي من وجهة الحذف اللغوي، فقد أحذف ظهر الكرسيّ، وقد أحذف أرجل الكرسيّ... ونرى مقاعد كثيرة بلا أقدام، كالكرسي القلاّب في الباصات... 

وأطرح سؤال مقارنة بين برواز الصورة وظهر الكرسي....

كلّنا نعلّق صوراً أو لوحات على حيطان بيوتنا أو محلاتنا ولكن كيف نضعها عادة؟ نضعها في برواز خشبي أو معدني... ولكن أحيانا نضعها بلا برواز ليس بهدف إلاء البرواز وغنما بهدف توسعة حجم البرواز، نعلقها بلا برواز معتمدين على إظهار الحائط المحيط بالصورة كبرواز... ومن طرائف الأمور أن الصورة من برواز تزداد بروزاً  وتلفت النظر أكثر... هكذا الأمر بالنسبة لظهر الكرسي حين يحذف أحيانا لأسباب براغماتية او جمالية او اقتصادية ( توفير كلفة الكرسيّ) يتحوّل مقطع من الحائط إلى مسند ظهر...  

التصغير قيمة لغوية، أو قل من سمات كل اللغات، ولكنه أيضا سمة إبداعية بما لا علاقة له باللغة... كيف يكون التصغير اللغوي سوق عمل غير لغويّ؟ وأين يمكن أن نراه في السوبر ماركت...؟

فليدخل المرء ذات يوم غلى سوبرماركت وليقل لنفسه، سأبحث عن التصغير في هذه السلع المعروضة أمامي... من حبّة العلكة إلى معجون الأسنان إلى البرّاد إلى البندورة الكرزيّة؟

وليسجّل القيم المضافة التي أكسبها التصغير لهذه السلع؟ ثم ليعود إلى بيته ويفكّر كيف يستثمر الأفكار التي حصدتها عيناه في مجال عمله؟

التصغير قيمة مضافة، طبعا ليس دائما، ما من قاعدة في الحياة ثابتة، القاعدة التي لا تقبل الاستثناءات تموت، قاعدة غير جديرة بالحياة، الاستثناء مجال حيوي للقاعدة!

التكبير قيمة مضافة.... 

أختم بسؤال: أليس التكبير سوق عمل... وأكتفي بالإشارة إلى ما يحدث في غرف عمليات التجميل...  🙂

هناك تعليق واحد:

  1. لم أنتبه من قبل لتأثير اللغة على تفكيرنا، شكرا لأنك لفت نظري لهذه القضية.

    ردحذف