هل يمكن لأحد أن يدير ظهره للمنامات ويعيش
وكأنها شيء لم يكن؟ ومن لا يتذكر مناماً واحداً، على الأقلّ، في حياته لا يكفّ عن
ملاحقته ومطاردته ومداعبة يقظته في مناسبات كثيرة؟ أليس من العبث الاستهانة
بالمنامات واعتبارها مجرد أضغاث؟ من لا يحلم بأن يحلم بطيف عزيز راحل في غفوة ليل؟
وكيف يكون شعوره حين يفتح عينيه على ضوء الصباح المعطّر بذلك الطيف؟ وكم من منام غيّر مصير فرد أو شعب؟ والأمثلة
كثيرة. إنّ الأحلام تحكم يقظتنا في أحيان كثيرة من غير أن ندري أو نشعر. وكما يقوم
بعض الناس بتزوير الحقائق وقلب الوقائع ثمة من يقوم أيضا باستغلال طيّب أو خبيث
لعالم الأحلام لتحقيق رغبات قد لا يمكن تحقيقها إلا بفضل ما يحتمله عالم الأحلام
من خداع للذات أو للآخرين. الأمّ مثلاً قد تعتمد، في لحظة خوف على ولدها الذي يريد
أن يسهر إلى أنصاف الليالي بخلاف رغبتها، على منام مزيّف يشبه الكذبة البيضاء
لتغيير رغبة ولدها فتقول له: يا ولدي، لقد رأيت مناماً جعلني أتشاءم من مشوارك،
برضاي عليك، إلغ السهرة". وثمة أولاد يعصون رغبات أهلهم الحقيقية، ولكن لا
يطاوعهم قلبهم في عصيان منامات أهلهم.
عالم المنامات شيّق وطريف، وفي هذه المقالة،
أشير فقط إلى ارتباط دلالة المنام بالسياق، بمعنى أن مسألة تفسير أو تأويل الأحلام
لا يمكن لها أن تكتفي بالمنام وحده، إنّ المنام الواحد ليس واحداً، ألفاظه واحدة
وأحداثه واحدة، إلاّ أن حبسه في تفسير لغويّ فقط لا يمكن له أن يفضي إلى تفسير
يرضي شروط المنام. فالدلالات، أية دلالات، لا تقتات فقط من اللغة، إنّ اللغة
بمفردها عاجزة عن تفسير أيّ نصّ لغويّ، أو منامي، وهذا ما يقوله في أي حال علماء
نفس كثيرون مثل اريك فروم صاحب الكتاب الممتع والخصب" اللغة المنسية".
انّ
الجغرافيا( المنام الواحد في الريف لا يحمل المعنى نفسه في حال تمّت رؤيته في
المدينة) والزمان( المنام الواحد أيضاً لا يحمل الدلالة نفسها في حال تمت رؤيته في
الصيف أو في الشتاء) والرائي ( الوضع الشخصيّ للرائي يؤدّي دوراً في تلوين دلالة
المنام). وكلّها عناصر تحدد مصائر المنامات، وهي التي تسمح للمعبّر، أو المفسّر
التقاط الدلالات المضمرة للمنام. كلّ عناصر المنام لا تتحدد قيمتها الا بعلاقة
الرائي بها، إنّ رؤية الكنيسة مثلاً في منام مسلم قد تجلب له الحيرة،
في حين أنّ الكنيسة في منام مسيحي تجلب له المسرّة، من هنا يستحيل التفسير إن كان
المعبّر لا يعرف الانتماء الديني للرائي مثلا"، وكذلك الشأن في اللباس أيضا
فإنّ رؤية الفرو في المنام لا يمكن تبيان دلالته الفعلية إذا كنا نجهل الطقس
الفعلي لحظة المنام، إن الذي يرى نفسه يلبس معطف فرو لا يمكن أن يدرك دلالة المنام
إذا لم يأخذ بعين الاعتبار حالة الطقس الجوّية خلال رؤيته المنام، لأن دلالة
الفراء في الصيف غيرها في فصل الشتاء. الطقس، هنا، هو الذي يساهم في تزويد المنام
بوقوده الدلاليّ. وقد يرى المرء مناما واحداً بكل التفاصيل، في فترتين متباعدتين،
الا انه قد لا يتضمّن الدلالة نفسها، لأنّ ظروف رؤية المنام الأول ليست هي نفسها
ظروف رؤية المنام الثاني، وعليه لا يمكن أن يحمل الدلالة نفسها، ومفسرو الأحلام
كانوا يأخذون أمر مكان الرؤية بالحسبان، لأن الدلالة ليست واحدة، إن الأمر هنا
يشبه إلى حد بعيد ما يحدث في عالم الألوان، فاللون الواحد تتغير درجته تبعا
للخلفية اللونية وللإطار اللوني الذي يتواجد فيه،
وهذا ما تشير إليه بعض كتب التراث المناميّ والكتب المناميّة الحديثة على
السواء. وثمة حكاية مناميّة تروي أن أحد الأشخاص رأى في منامه أنه اخذ سبعين ورقة
من أوراق الشجر، فأتى أبا بكر الصديق مستجلياً دلالة المنام، فقال له أبو بكر
تُضرب سبعين جلدة، وبعد عام رأى أيضا تلك الرؤيا نفسها، فأتى أبا بكر، رغم ما
لاقاه من جراء الأولى، واخبره انه رأى تلك الرؤية على هيأتها فقال: يحصل لك سبعون
ألف درهم، فاستغرب الرجل عبثية الجواب إذ كيف يتغير المعنى واللفظ واحد، ولاحظ أبو
بكر حيرة الرجل أمام تناقض الجوابين أو التفسيرين، فبيّن له أبو بكر الصديق أن
رؤياه الأولى حدثت والأشجار تنثر أوراقها (مما يدل على العصا)، أما رؤياه الآن
فعند نموّ الأشجار واكتساء أغصانها بالأوراق"، (والورق في العربية من أسماء
الفضّة والمال!). يبرز بوضوح، في هذا النصّ المناميّ كما في نصوص مناميّة أخرى
كثيرة، سلطان الزمان على معنى المنام، وسلطان أحوال الطبيعة على تحوّلات الدّلالات،
فمعنى أيّ منام كمعنى أيّ نصّ من حيث إنّ تفلتّه من السياقات المتعددة والمتنوعة
يجعل المعنى، مشرّداً، هائماً على
وجهه الممحوّ الملامح في براري
الظنّ والاحتمالات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق