في الكتاب العزيز من الحجج البالغة ما يكون
غايةً لمن تمثل به، وكيف لا يكون ذلك وهو برهان الشريعة ودليلها، ومحجة الهداية
وسبيلها، فمن ذلك قوله تعالى: وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي
رميمٌ، قل يحييها الذي أنشأها أول مرةٍ يس: 78 وقال تعالى: أيحسب الإنسان أن يترك
سدىً، ألم يك نطفةً من منيٍّ يمنى، ثم كان علقةً فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر
والأنثى، أليس ذلك بقادرٍ على أن يحيي الموتى القيامة: 36 - 40 وقوله عز وجل: وهو
الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه الروم: 27 أي في تقرير عقولكم وقياس ظنونكم
المأخوذين من معارفكم. وقوله عز وجل حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وكيف أخاف ما
أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً، فأي الفريقين
أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الأنعام: 81.
ومن آيات الحجاج القاطع في إقامة التوحيد وتوهين الشرك قوله سبحانه: قل لو كان معه آلهةً كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً الإسراء: 42 وقوله تعالى: ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذن لذهب كل إلهٍ بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ سبحان الله عما يصفون المؤمنون: 91 وقوله تعالى في تفرده بخلق البرية: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقويٌّ عزيزٌ الحج: 73- 74 ومن الحجة في أمر كتابه: وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله البقرة: 23 وقال في الدلالة على إثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم بتأمل أحواله وتدبر ما جاء به: أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون المؤمنون: 68- 69 فإنه كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعرف في قريشٍ قبل البعثة بالصادق والأمين. وقوله تعالى: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون يونس: 16.
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: يا معشر قريشٍ، لو قلت لكم إن خيلاً تطلع عليكم من هذا الجبل أكنتم مصدقي? قالوا: نعم قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ. فلما أقروا بصدقه خاطبهم بالإنذار ودعاهم إلى الإسلام.
والآن نذكر ما تحاور به الناس فيما بينهم، وتحاجوا به بعضهم على بعض في خطابهم ومقاصدهم.
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان: ولك أن تجاب عن هذه لرحمه منك: فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقالته? أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه? أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه، حتى أتى قدره عليه? كلا والله. لقد علم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً، وما كنت أعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له، فرب ملومٍ لا ذنب له.
وقد يستفيد الظنة المتنصح وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب هود: 88.
وذكرت أنه ليس لي عندك ولأصحابي إلا السيف: فلقد أضحكت بعد استعبارٍ: متى ألفيت بنو عبد المطلب عن الأعداء ناكبين، وبالسيوف مخوفين? فالبث قليلاً يلحق الهيجا حملٌ، فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وأنا مرقلٌ نحوك في جحفلٍ من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديدٌ زحامهم، ساطعٌ قتامهم، متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، قد صحبتهم ذريةٌ بدرية، وسيوفٌ هاشمية، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك، وما هي من الظالمين ببعيد.
كان قبيصة بن جابر ممن كثر على الوليد بن عقبة لما ولي الكوفة، فقال معاوية يوماً والوليد وقبيصة عنده: يا قبيصة، ما كان شأنك وشأن الوليد? قال: خير يا أمير المؤمنين في أول وصل الرحم وأحسن الكلام، فلا تسأل عن شكرٍ وحسن ثناء، ثم غضب على الناس وغضبوا عليه، وكنا منهم، فإما ظالمون فنستغفر الله، وإما مظلومين فيغفر الله له، وخذ في غير هذا يا أمير المؤمنين فإن الحديث ينسي القديم. قال: ولم? فوالله لقد أحسن السيرة وبسط الخير وكف الشر، قال: فأنت أقدر على ذلك منه يا أمير المؤمنين، فافعل، قال: اسكت لا سكت. فسكت وسكت القوم، ثم قال له معاوية: ما لك لا تتحدث? قال: نهيتني عما أحب فسكت عما أكره.
قال معاوية للأحنف حين وبخه بتخذيله عن عائشة ومشهده صفين: فعلت وفعلت. فقال: يا أمير المؤمنين لم ترد الأمور على أعقابها? أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، وإن السيوف التي قاتلناك لها لعلى عواتقنا، ولئن مددت يداً بشرٍّ من غدر لنمدن باعاً من خترٍ، وإن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك، قال: فإني بها أفعل.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم إلى الشام ومعه عبد الرحمن بن عوف رحمه الله وهما على حمارين قريبين من الأرض، فتلقاهما معاوية في كبكبةٍ حسناء، فثنى وركه فنزل وسلم عليه بالخلافة فلم يرد عليه، فقال له عبد الرحمن أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أحصرت الفتى فلو كلمته، فقال: إنك لصاحب الجيش الذي أرى? قال: نعم، قال: لأنا في بلادٍ يكثر فيها جواسيس العدو، فإن نحن لم نتخذ العدة والعدد استخف بنا، وهجم على عوراتنا، وأنا- بعد- عاملك، فإن وقفتني وقفت، وإن استزدتني زدت، وإن استنقصتني نقصت؛ قال: فوالله لئن كنت كاذباً إنه لرأي أريبٍ، وإن كنت صادقاً إنه لتدبير أديب، ما سألتك عن شيء قط إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس، لا آمرك ولا أنهاك. فلما انصرف قال أبو عبيدة أو عبد الرحمن: لقد أحسن الفتى في إصدار ما أوردت عليه، قال: لحسن إصداره وإيراده جشمناه ما جشمناه.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعس بالمدينة في الليل، فسمع صوت رجلٍ في بيته فارتاب بالحال، فتسور فوجد رجلاً عنده امرأةٌ وخمرٌ، فقال: يا عدو الله، أكنت ترى أن الله يسترك وأنت تعصيه? فقال لارجل: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيته في ثلاثٍ، قال الله سبحانه وتعالى: ولا تجسسوا الحخجرات: 12 وقد تجسست، وقال: وأتوا البيوت من أبوابها البقرة: 189، وقد تسورت، وقال: فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا النور: 61 وما سلمت. فقال عمر: فهل عندك من خيرٍ إن عفوت عنك? قال: بلى والله يا أمير المؤمنين، لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبداً، فعفا عنه.
خطب رجلٌ إلى عبد الله بن عباس يتيمةً كانت في حجره، فقال: لا أرضاها لك، قال: ولم? قال: لأنها تشرف وتنظر، وهي مع ذلك بذيئة، قال: فإني لا أكره ذلك، فقال ابن عباس: أما الآن فإني لا أرضاك لها.
قيل وقع بين عليٍّ وعثمان كلامٌ فقال عثمان: ما أصنع بكم إن كانت قريش لا تحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدرٍ سبعين كأن وجوههم شنوف الذهب تشرب آنفهم قبل شفاههم.
قدم حماد بن جميل من فارس فنظر إليه يزيد بن المنجاب وعليه جبة وشيٍ، فقال: هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً الإنسان: 1، فقال حماد: كذكلك كنتم من قبل فمن الله عليكم النساء: 94.
دخل وفدٌ على عمر بن عبد العزيز فأراد فتى منهم الكلام، فقال عمر: ليتكلم أسنكم، فقال الفتى: يا أمير المؤمنين، إن قريشاً لترى فيها من هو أسن منك، فقال: تكلم يا فتى.
قال معاوية يوماً: الأرض لله وأنا خليفته، فما أخذت فلي حلالٌ، وما تركت للناس فلي عليهم فيه منةٌ، فقال صعصعة: ما أنت وأقصى الأمة فيه إلا سواءٌ، ولكن من ملك استأثر. فغضب معاوية وقال: لقد هممت، قال صعصعة: ما كل من هم فعل، قال: ومن يحول بيني وبين ذلك? قال: الذي يحول بين المرء وقلبه.
وجه معاوية رجلاً إلى ملك الروم ومعه كتابٌ تصديره: إلى طاغية الروم، فقال ملك الروم للرجل: ما لذي الفخر بالرسالة والمتسمي بخلافة النبوة والسفه? أظنكم وليتم هذا الأمر بعد إعواز، لو شئت كتبت: من ملك الروم إلى غاصب أهل بيت نبيه، العامل بما يكفره عليه كتابه، لكني أتجالل عن ذلك.
روي أن عائشة رضي الله عنها بعثت إلى معاوية وهو بالمدينة تذكر حاجةً من آل أبي بكر، فأرسل إليها بثلاثين ألف درهم صلةً لها وبمثلها لآل أبي بكر، وبعث إلى أم حبيبة أخته عشرين ألف درهم، فقالت: أتفضل علي وأنا أختك، وحقي ما تعلم? فقال: إني آثرت هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتديت به فيكما، فقالت: إن كنت صادقاً فاعتزل ما أنت فيه، وخل بينه وبين من أدخلك في الإسلام، فوالله لهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه كان فوق هواه فيك، فقال معاوية: لله در الحق ما أقمعه.
سمع زيادٌ امرأةً تقول اللهم: اللهم اعزل عنا زياداً فقال: يا أمة الله، زيدي في دعائك: وأبدلنا به من هو خيرٌ لنا منه.
قال الأصمعي: ناظر قومٌ من الخوارج الحسن البصري فقال: أنتم أصحاب دنيا، قالوا: وكيف? قال: أيمنعكم السلطان من الصلاة? قالوا: لا، قال: أفيمنعكم من الحج? قالوا: لا، حتى عدد وجوه البر ويقولون لا، قال: فأراه إنما منعكم الدرهم فقاتلتموه.
قال حاطب بن أبي بلتعة: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكنجرية، فأتيته بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فأبلغته رسالته، فضحك ثم قال: كتب إلي صاحبك يسألني أن أتبعه على دينه، فما يمنعه إن كان نبياً أن يدعو الله فيسلط علي البحر فيغرقني فيكفى مؤونتي ويأخذ ملكي? قلت: فما منع عيسى عليه السلام إذ أخذته اليهود فربطوه في حبلٍ وجعلوا عليه إكليلاً من شوكٍ، وحملوا خشبته التي صلبوه عليها على عنقه، ثم أخرجوه وهو يبكي حتى نصبوه على الخشبة، ثم طعنوه حياً بحربة حتى مات- هذا على زعمكم- فما منعه أن يدعو الله فيجيبه فيهلكهم ويكفى مؤونتهم، ويظهر هو وأصحابه عليهم? وما منع يحيى بن زكريا حين سألت امرأة الملك الملك أن يقتله، فقتله وبعث برأسه إليها حتى وضع بين يديها، أن يسأل الله أن ينجيه ويهلك الناس? فأقبل على جلسائه وقال: والله إنه لحكيم، وما يخرج الحكيم إلا من عند الحكماء.
اصطحب اثنان من الحمقى في طريق، فقال أحدهما لصاحبه: تعالى حتى نتمنى، فإن الطريق يقطع بالحديث والتمني، قال: تمن، قال: أتمنى قطائع غنم حتى أنتفع بألبانها وصوفها ولحمها ويخصب معها رحلي، ويشبع أهلي. قال الآخر: أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلها على غنمك حتى تأتي عليها. قال: ويحك هذا من حق الصحبة وحرمة العشرة? وتلاحما واشتدت الملحمة بينهما، ثم قال: نرضى بأول من يطلع علينا نتحاكم إليه، فبينما هما كذلك طلع عليهما شيخ يسوق حماراً، وعليه زقان مملوءان عسلاً، فساقت وقفاه وحدثاه فقال: قد فهمت حديثكما، وفتح رأس الزقين حتى سال العسل في التراب، وقال: صب الله دمي مثل هذا العسل إن كنت رأيت أحمق منكما.
قيل: كان كيسان صاحب أبي عبيدة مضعفاً بليداً يأتي سهواً كثيراً، فسئل أبو عبيدة عن اسم بعض العرب فأنكر معرفته، وكيسان حاضر، فقال: أنا أعرف اسمه، فقال أبو عبيدة: ما هو? قال: خراش أو خداش أو رياش أو حماش أو شيء آخر. فقال أبو عبيدة: ما أحسن ما عرفته، فقال: نعم وهو مع ذاك قرشي، فاعتاظ أبو عبيدة وقال: من أين علمت أنه قرشي? قال: أما رأيت اكتناف الشينات عليه من كل جهة.
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد أنا أفسو في ثوبي وأصلي فيه هل يجوز? قال: نعم لا كثر الله في المسلمين مثلك.
سمع رجل من ينشد: من الطويل
فقال: مرحب لم يمت، قتله علي عليه السلام.
كان الوليد بن يزيد يلعب بالشطرنج، فاستأذن عليه رجل من ثقيف، فسترها ثم سأله عن حاله وقال له: أقرأت القرآن? قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قد شغلني عنه أمور وهنات. قال: أفتعرف الفقه? قال: لا والله? قال: أتروي من الشعر شيئاً قال: ولاش، فكشف عن الشطرنج وقال: شاهك، فقال له عبد الله ابن معاوية: مه يا أمير المؤمنين، قال: اسكت فما معنا أحد.
قالوا: استأذن العقل على الحظ فحجبه، قال: أتحجبني وأنا خير منك? قال: وأنت ما تساوي إذا لم أكن معك? قيراط من حظ خير من كر عقل.
قال الأعرابي لابنه: ما لي أراك ساكناً والناس يتكلمون? قال: ما أحسن ما يحسنون. قال: إن قيل لا فقل أنت نعم، وإن قيل نعم فقل أنت لا، وشاغبهم ولا تقعد غفلاً لا يشعر بك.
كانت بربيعة بن عمرو طرقة أي جنون، ولذلك لقب بحوثرة، وهو أبو الحواثر من عبد القيس، فغرس فسيلاً فكان يسقيه بالنهار، فإذا كان الليل اقتلعه وأدخله بيته، فقيل له في ذلك فقال: أخزى الله مالاً لا تغلق عليه بابك.
المتنبي: من المتقارب
قيل لمعلم: ليس لك درة. قال: وما أصنع بها? أقول من لم يرفع صوته بالهجاء فأمه قحبة، فيرفعون أصواتهم فهذا أبلغ وأسلم.
قال بعضهم: ما أحسن ما قال الله: اقتلوا السفلة حيث وجدتموهم فقيل له: ليس هذا بقرآن، قال: ألحقوه به فإنه آية حسنة.
قال لرجل غلامه: قد سرق الحمار يا سيدي، فقال الحمد لله الذي لم أكن على ظهره.
مدح شاعر أميراً فقال: من الكامل المجزوء
فقال له: من أين عرفتها? فقال: قد جرتبها، فقال: أسوأ من شعرك ما أتيت به من عذرك.
ومن آيات الحجاج القاطع في إقامة التوحيد وتوهين الشرك قوله سبحانه: قل لو كان معه آلهةً كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً الإسراء: 42 وقوله تعالى: ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذن لذهب كل إلهٍ بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ سبحان الله عما يصفون المؤمنون: 91 وقوله تعالى في تفرده بخلق البرية: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقويٌّ عزيزٌ الحج: 73- 74 ومن الحجة في أمر كتابه: وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله البقرة: 23 وقال في الدلالة على إثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم بتأمل أحواله وتدبر ما جاء به: أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون المؤمنون: 68- 69 فإنه كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعرف في قريشٍ قبل البعثة بالصادق والأمين. وقوله تعالى: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون يونس: 16.
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: يا معشر قريشٍ، لو قلت لكم إن خيلاً تطلع عليكم من هذا الجبل أكنتم مصدقي? قالوا: نعم قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ. فلما أقروا بصدقه خاطبهم بالإنذار ودعاهم إلى الإسلام.
والآن نذكر ما تحاور به الناس فيما بينهم، وتحاجوا به بعضهم على بعض في خطابهم ومقاصدهم.
ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان: ولك أن تجاب عن هذه لرحمه منك: فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقالته? أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه? أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه، حتى أتى قدره عليه? كلا والله. لقد علم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً، وما كنت أعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له، فرب ملومٍ لا ذنب له.
وقد يستفيد الظنة المتنصح وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب هود: 88.
وذكرت أنه ليس لي عندك ولأصحابي إلا السيف: فلقد أضحكت بعد استعبارٍ: متى ألفيت بنو عبد المطلب عن الأعداء ناكبين، وبالسيوف مخوفين? فالبث قليلاً يلحق الهيجا حملٌ، فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وأنا مرقلٌ نحوك في جحفلٍ من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديدٌ زحامهم، ساطعٌ قتامهم، متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، قد صحبتهم ذريةٌ بدرية، وسيوفٌ هاشمية، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك، وما هي من الظالمين ببعيد.
كان قبيصة بن جابر ممن كثر على الوليد بن عقبة لما ولي الكوفة، فقال معاوية يوماً والوليد وقبيصة عنده: يا قبيصة، ما كان شأنك وشأن الوليد? قال: خير يا أمير المؤمنين في أول وصل الرحم وأحسن الكلام، فلا تسأل عن شكرٍ وحسن ثناء، ثم غضب على الناس وغضبوا عليه، وكنا منهم، فإما ظالمون فنستغفر الله، وإما مظلومين فيغفر الله له، وخذ في غير هذا يا أمير المؤمنين فإن الحديث ينسي القديم. قال: ولم? فوالله لقد أحسن السيرة وبسط الخير وكف الشر، قال: فأنت أقدر على ذلك منه يا أمير المؤمنين، فافعل، قال: اسكت لا سكت. فسكت وسكت القوم، ثم قال له معاوية: ما لك لا تتحدث? قال: نهيتني عما أحب فسكت عما أكره.
قال معاوية للأحنف حين وبخه بتخذيله عن عائشة ومشهده صفين: فعلت وفعلت. فقال: يا أمير المؤمنين لم ترد الأمور على أعقابها? أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، وإن السيوف التي قاتلناك لها لعلى عواتقنا، ولئن مددت يداً بشرٍّ من غدر لنمدن باعاً من خترٍ، وإن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك، قال: فإني بها أفعل.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم إلى الشام ومعه عبد الرحمن بن عوف رحمه الله وهما على حمارين قريبين من الأرض، فتلقاهما معاوية في كبكبةٍ حسناء، فثنى وركه فنزل وسلم عليه بالخلافة فلم يرد عليه، فقال له عبد الرحمن أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أحصرت الفتى فلو كلمته، فقال: إنك لصاحب الجيش الذي أرى? قال: نعم، قال: لأنا في بلادٍ يكثر فيها جواسيس العدو، فإن نحن لم نتخذ العدة والعدد استخف بنا، وهجم على عوراتنا، وأنا- بعد- عاملك، فإن وقفتني وقفت، وإن استزدتني زدت، وإن استنقصتني نقصت؛ قال: فوالله لئن كنت كاذباً إنه لرأي أريبٍ، وإن كنت صادقاً إنه لتدبير أديب، ما سألتك عن شيء قط إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس، لا آمرك ولا أنهاك. فلما انصرف قال أبو عبيدة أو عبد الرحمن: لقد أحسن الفتى في إصدار ما أوردت عليه، قال: لحسن إصداره وإيراده جشمناه ما جشمناه.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعس بالمدينة في الليل، فسمع صوت رجلٍ في بيته فارتاب بالحال، فتسور فوجد رجلاً عنده امرأةٌ وخمرٌ، فقال: يا عدو الله، أكنت ترى أن الله يسترك وأنت تعصيه? فقال لارجل: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيته في ثلاثٍ، قال الله سبحانه وتعالى: ولا تجسسوا الحخجرات: 12 وقد تجسست، وقال: وأتوا البيوت من أبوابها البقرة: 189، وقد تسورت، وقال: فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا النور: 61 وما سلمت. فقال عمر: فهل عندك من خيرٍ إن عفوت عنك? قال: بلى والله يا أمير المؤمنين، لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبداً، فعفا عنه.
خطب رجلٌ إلى عبد الله بن عباس يتيمةً كانت في حجره، فقال: لا أرضاها لك، قال: ولم? قال: لأنها تشرف وتنظر، وهي مع ذلك بذيئة، قال: فإني لا أكره ذلك، فقال ابن عباس: أما الآن فإني لا أرضاك لها.
قيل وقع بين عليٍّ وعثمان كلامٌ فقال عثمان: ما أصنع بكم إن كانت قريش لا تحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدرٍ سبعين كأن وجوههم شنوف الذهب تشرب آنفهم قبل شفاههم.
قدم حماد بن جميل من فارس فنظر إليه يزيد بن المنجاب وعليه جبة وشيٍ، فقال: هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً الإنسان: 1، فقال حماد: كذكلك كنتم من قبل فمن الله عليكم النساء: 94.
دخل وفدٌ على عمر بن عبد العزيز فأراد فتى منهم الكلام، فقال عمر: ليتكلم أسنكم، فقال الفتى: يا أمير المؤمنين، إن قريشاً لترى فيها من هو أسن منك، فقال: تكلم يا فتى.
قال معاوية يوماً: الأرض لله وأنا خليفته، فما أخذت فلي حلالٌ، وما تركت للناس فلي عليهم فيه منةٌ، فقال صعصعة: ما أنت وأقصى الأمة فيه إلا سواءٌ، ولكن من ملك استأثر. فغضب معاوية وقال: لقد هممت، قال صعصعة: ما كل من هم فعل، قال: ومن يحول بيني وبين ذلك? قال: الذي يحول بين المرء وقلبه.
وجه معاوية رجلاً إلى ملك الروم ومعه كتابٌ تصديره: إلى طاغية الروم، فقال ملك الروم للرجل: ما لذي الفخر بالرسالة والمتسمي بخلافة النبوة والسفه? أظنكم وليتم هذا الأمر بعد إعواز، لو شئت كتبت: من ملك الروم إلى غاصب أهل بيت نبيه، العامل بما يكفره عليه كتابه، لكني أتجالل عن ذلك.
روي أن عائشة رضي الله عنها بعثت إلى معاوية وهو بالمدينة تذكر حاجةً من آل أبي بكر، فأرسل إليها بثلاثين ألف درهم صلةً لها وبمثلها لآل أبي بكر، وبعث إلى أم حبيبة أخته عشرين ألف درهم، فقالت: أتفضل علي وأنا أختك، وحقي ما تعلم? فقال: إني آثرت هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتديت به فيكما، فقالت: إن كنت صادقاً فاعتزل ما أنت فيه، وخل بينه وبين من أدخلك في الإسلام، فوالله لهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه كان فوق هواه فيك، فقال معاوية: لله در الحق ما أقمعه.
سمع زيادٌ امرأةً تقول اللهم: اللهم اعزل عنا زياداً فقال: يا أمة الله، زيدي في دعائك: وأبدلنا به من هو خيرٌ لنا منه.
قال الأصمعي: ناظر قومٌ من الخوارج الحسن البصري فقال: أنتم أصحاب دنيا، قالوا: وكيف? قال: أيمنعكم السلطان من الصلاة? قالوا: لا، قال: أفيمنعكم من الحج? قالوا: لا، حتى عدد وجوه البر ويقولون لا، قال: فأراه إنما منعكم الدرهم فقاتلتموه.
قال حاطب بن أبي بلتعة: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكنجرية، فأتيته بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فأبلغته رسالته، فضحك ثم قال: كتب إلي صاحبك يسألني أن أتبعه على دينه، فما يمنعه إن كان نبياً أن يدعو الله فيسلط علي البحر فيغرقني فيكفى مؤونتي ويأخذ ملكي? قلت: فما منع عيسى عليه السلام إذ أخذته اليهود فربطوه في حبلٍ وجعلوا عليه إكليلاً من شوكٍ، وحملوا خشبته التي صلبوه عليها على عنقه، ثم أخرجوه وهو يبكي حتى نصبوه على الخشبة، ثم طعنوه حياً بحربة حتى مات- هذا على زعمكم- فما منعه أن يدعو الله فيجيبه فيهلكهم ويكفى مؤونتهم، ويظهر هو وأصحابه عليهم? وما منع يحيى بن زكريا حين سألت امرأة الملك الملك أن يقتله، فقتله وبعث برأسه إليها حتى وضع بين يديها، أن يسأل الله أن ينجيه ويهلك الناس? فأقبل على جلسائه وقال: والله إنه لحكيم، وما يخرج الحكيم إلا من عند الحكماء.
اصطحب اثنان من الحمقى في طريق، فقال أحدهما لصاحبه: تعالى حتى نتمنى، فإن الطريق يقطع بالحديث والتمني، قال: تمن، قال: أتمنى قطائع غنم حتى أنتفع بألبانها وصوفها ولحمها ويخصب معها رحلي، ويشبع أهلي. قال الآخر: أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلها على غنمك حتى تأتي عليها. قال: ويحك هذا من حق الصحبة وحرمة العشرة? وتلاحما واشتدت الملحمة بينهما، ثم قال: نرضى بأول من يطلع علينا نتحاكم إليه، فبينما هما كذلك طلع عليهما شيخ يسوق حماراً، وعليه زقان مملوءان عسلاً، فساقت وقفاه وحدثاه فقال: قد فهمت حديثكما، وفتح رأس الزقين حتى سال العسل في التراب، وقال: صب الله دمي مثل هذا العسل إن كنت رأيت أحمق منكما.
قيل: كان كيسان صاحب أبي عبيدة مضعفاً بليداً يأتي سهواً كثيراً، فسئل أبو عبيدة عن اسم بعض العرب فأنكر معرفته، وكيسان حاضر، فقال: أنا أعرف اسمه، فقال أبو عبيدة: ما هو? قال: خراش أو خداش أو رياش أو حماش أو شيء آخر. فقال أبو عبيدة: ما أحسن ما عرفته، فقال: نعم وهو مع ذاك قرشي، فاعتاظ أبو عبيدة وقال: من أين علمت أنه قرشي? قال: أما رأيت اكتناف الشينات عليه من كل جهة.
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد أنا أفسو في ثوبي وأصلي فيه هل يجوز? قال: نعم لا كثر الله في المسلمين مثلك.
سمع رجل من ينشد: من الطويل
وكان أخلائي يقولون مرحـبـا | فلما رأوني معدماً مات مرحب |
فقال: مرحب لم يمت، قتله علي عليه السلام.
كان الوليد بن يزيد يلعب بالشطرنج، فاستأذن عليه رجل من ثقيف، فسترها ثم سأله عن حاله وقال له: أقرأت القرآن? قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قد شغلني عنه أمور وهنات. قال: أفتعرف الفقه? قال: لا والله? قال: أتروي من الشعر شيئاً قال: ولاش، فكشف عن الشطرنج وقال: شاهك، فقال له عبد الله ابن معاوية: مه يا أمير المؤمنين، قال: اسكت فما معنا أحد.
قالوا: استأذن العقل على الحظ فحجبه، قال: أتحجبني وأنا خير منك? قال: وأنت ما تساوي إذا لم أكن معك? قيراط من حظ خير من كر عقل.
قال الأعرابي لابنه: ما لي أراك ساكناً والناس يتكلمون? قال: ما أحسن ما يحسنون. قال: إن قيل لا فقل أنت نعم، وإن قيل نعم فقل أنت لا، وشاغبهم ولا تقعد غفلاً لا يشعر بك.
كانت بربيعة بن عمرو طرقة أي جنون، ولذلك لقب بحوثرة، وهو أبو الحواثر من عبد القيس، فغرس فسيلاً فكان يسقيه بالنهار، فإذا كان الليل اقتلعه وأدخله بيته، فقيل له في ذلك فقال: أخزى الله مالاً لا تغلق عليه بابك.
المتنبي: من المتقارب
لقد كنت أحسب قبل الخصـي | ي ان الرؤوس مقر النهـى | |
فلما نظرت إلـى عـقـلـه | رأيت النهى كلها في الخصى |
قيل لمعلم: ليس لك درة. قال: وما أصنع بها? أقول من لم يرفع صوته بالهجاء فأمه قحبة، فيرفعون أصواتهم فهذا أبلغ وأسلم.
قال بعضهم: ما أحسن ما قال الله: اقتلوا السفلة حيث وجدتموهم فقيل له: ليس هذا بقرآن، قال: ألحقوه به فإنه آية حسنة.
قال لرجل غلامه: قد سرق الحمار يا سيدي، فقال الحمد لله الذي لم أكن على ظهره.
مدح شاعر أميراً فقال: من الكامل المجزوء
أنت الهمام الأريحي | الواسع ابن الواسعة |
فقال له: من أين عرفتها? فقال: قد جرتبها، فقال: أسوأ من شعرك ما أتيت به من عذرك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق