في تراثنا العربيّ كتاب لم يبق
لنا منه ، للأسف، الاّ اسمه. وما اكثر الكتب العربية القديمة التي لم يصلنا منها
شيء أو لا تزال على هيئة مخطوطة مهملة لا علم لأحد بوجودها، يقضمها الزمن على مهل!
ومن هذه الكتب الضائعة كتاب للعلامة جار الله الزمخشريّ صاحب أجمل تفسير عن الإعجاز
البلاغيّ في القرآن الكريم والذي عنوانه " الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل"،
وكان ابن خلدون قد حثّ الناس في ثنايا مقدمته على قرائته لما يحويه من كنوز بلاغيّة ممتعة.
والكتاب الضائع الذي اتكلم عنه هو " شافي العيّ من كلام الشافعيّ"،
وعنوان الكتاب ناطق بقدرة كلام الشافعيّ على الشفاء. وعلى سيرة الشفاء كنت قد قرأت
حكاية يرويها الشافعيّ عن طبيب قد يضطرّ أحياناً أن يلوذ بالوهم لمداواة مرضاه.
فللوهم قدرات خفية وسحرية على تغيير مصائر الناس.
ومن المستحبّ استثمار قدرات الوهم عند الضرورة.
والحكاية نقلها أحد تلامذة الشافعي وهي لا تخلو من نباهة الطبيب، وتقول الحكاية: روى
الحسن بن إدريس الحلواني قال
: سمعت
الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ يقول: الشحم لا ينعقد مع الغمّ، ثمّ قال: وكان بعض
ملوك الأرض قديماً، كثير الشحم لا ينتفع بنفسه، فجمع الأطبّاء وقال لهم: احتالوا
بحيلة يخفّ بها لحمي هذا قليلاً، فما قدروا على شيء فجاءه رجل عاقل متطبّب، فقال
له: عالجني ولك الغنى. قال: أصلح الله الملك، أنا طبيب منجّم، فدعني حتى أنظر
الليلة في طالعك، لأرى أي دواء يوافقك. فلمّا أصبح، قال له: أيها الملك، أعطني
الأمان. فلما أمـَّنه قال: رأيت
طالعك يدلّ على أنه لم يبق من عمرك غير شهر واحد، فإنْ اخترت عالجتك، وإن أردت أن
تستوثق من ذلك، فاحبسني عندك، فإن كان لقولي حقيقة فحلّ عني، وإلاّ فاقتصّ منّي،
قال: فحبسه، ثم رفع الملاهي، واحتجب عن الناس، وخلا وحده مغتما،ً كئيباً، حزيناً.
وكلّما انسلخ يوم ازداد هماً وغماً وكمداً، حتى هزل وخف لحمه، وبعد ثمانية وعشرين
يوماً بعث إليه وأخرجه، وقال: ما ترى؟ فقال: أعزّ الله الملك، أنا أهون على الله
من علم الغيب، والله إني لا أعلم عمري، فكيف أعلم عمرك؟ ولكن لم يكن عندي دواء إلاّ
الغمّ، فلم أقدر أجلب إليك الغمّ إلاّ بهذه الحيلة، فإنّ الغمّ يذيب الشحم، فأجازه
على ذلك وأحسن إليه الإحسان كلّه، وذاق حلاوة الفرح، وانتفع بحياته الانتفاع كله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق