مكة المكرمة والمدينة المنورة في الوثائق والسجلات الصينية في العصور الوسطى
حاتم الطحاوي *
السبت ٣ نوفمبر ٢٠١٢
تناثرت الأخبار عن الجزيرة العربية باعتبارها جزءاً من بلاد فارس في الحوليات والوثائق الصينية منذ القرن السابع الميلادي. وفي شكل تدريجي، أوردت السجلات الصينية تفصيلات جديدة عن موانئ ومدن الجزيرة، وهو ما تجلى في مصنف المؤرخ شو جو- كوا في القرن الثالث عشر الميلادي، الذي أشار الى أنه يمكن الوصول الى مدينة مكة المكرمة عبر السفر غرباً من ميناء مرباط في حضرموت في رحلة برية تستغرق ثمانين يوماً. واستمر مؤرخنا في الحديث - منطلقاً من خلفيته البوذية - ليذكر في تشوش جديد أن المسلمين يحتشدون في شكل سنوي عند اقتراب موعد الاحتفال بالذكرى السنوية لوفاته في مكة المكرمة. كما تحدث عن الكعبة المشرفة وستائرها الحريرية باعتبارها منزلاً لبوذا أيضاً. وأوغل المصنف الصيني في تشوشه ليشير الى أن قبره يقع في مكة أيضاً. كما ذكر في حديث أسطوري – تكرر بعد ذلك في المصادر الصينية – وجود ضوء لامع ومستمر صباحاً ومساء حول القبر، بحيث لا يستطيع أحد الاقتراب منه حتى لا يفقد بصره. كما أنه إذا توفي أحد المسلمين، ثم قام أحد أقاربه بأخذ حفنة من تراب ضريح بوذا وقام بتدليك صدر المتوفى بها فإنه يعود الى الحياة من جديد.
استمر اهتمام الأسر الصينية الحاكمة بالمسلمين باعتبارهم قاطني «البلاد الغربية» حتى عصر أسرة مينغ (1368 -1644) التي شهدت إرسال ما عرف بـ «أسطول الكنز» الذي أمر به الامبراطور يونغ لي (1403-1424) لاستكشاف سواحل المحيط الهندي. والذي خرج سبع مرات بأمر البلاط الامبراطوري الصيني خلال الأعوام 1405-1433، عبر مئات السفن الحربية التي رافقها عشرات التراجمة والموظفين الرسميين من أجل توثيق المعلومات التي سيتم الحصول عليها في شكل رسمي.
كان المترجم المسلم ما هوان Ma Huan اهم التراجمة الذين زاروا الجزيرة العربية خلال الرحلة الرابعة التي كانت بقيادة الربان المسلم شنغ هو Ching Hu عام 1413. كما زارها من جديد مع الرحلة السادسة 1421 والتحق أيضاً بالرحلة السابعة ليمكث في مكة 3 أشهر أواخر العام 1432. وأهّله ذلك لمعرفة أوسع بالعربية والاسلام وهو ما جعله يتخصص في ترجمة رسائل المبعوثين العرب والمسلمين الذين رافقوا أسطول الكنز في عودته لزيارة البلاط الصيني.
وحين نعلم أن الكعبة في معاجم اللغة تعني البيت المربع الجوانب، فلنا أن ندهش لأن الصيني ما هوان قد تحدث عن مكة باعتبارها «بلاد المربع السماوي» التي ظهر نبي المسلمين فيها، ويتمسك أهلها بشعائر الاسلام. غير أنه التبس عليه الأمر فذكر أنها علي مسيرة يوم واحد غربي مدينة جدة.
كما وصف الكعبة المشرفة وأعمدتها وسطحها والميزاب الذهبي، فضلاً عن كسوتها الحريرية. كما اتفق أيضاً مع روايات الرحالة الأوروبيين اللاحقين الذين أشاروا الى اهتمام الحجاج المسلمين بعيد الانتهاء من الفريضة بالحصول على قطع صغيرة من كسوة الكعبة تيمناً بها، وحتى يعودوا بها الى أوطانهم. ولأن ما هوان كان مسلماً بعكس شو جو-كوا، فقد أكد أن المسلمين يحضرون لأداء فريضة الحج في مكة المكرمة في «اليوم العاشر من الشهر الحادي عشر». كما تحدث عن مناخ مكة الحار وسكانها الشغوفين بتربية الإبل والخيول. غير أنه أشار الى مسألة في غاية الأهمية، وتعبّر عن الأهداف الحقيقية التي خرج من أجلها أسطول الكنز لجمع المعلومات عن «البلاد الغربية» وسكانها وتوطيد العلاقات معها حيث قام السفراء الصينيون برسم صورة دقيقة للكعبة والحرم الشريف. كما قاموا بتقديم الحرير والخزف الى شريف مكة حسن بن عجلان (1425-1453م) مصطحبين معهم في رحلة عودتهم الى الصين مبعوثين من لدن ابن عجلان أهمهم شاه زيان حيث حملوا الهدايا الى البلاط الصيني.
كما وردت المدينة المنورة في كتابات ما هوان أيضاً، حيث أشار الى وقوعها على مسافة يوم غربي مكة المكرمة. وكان من الطبيعي أن يشير الى قبر الرسول الكريم. غير أنه لم يتبن نظرية شو جو-كوا حول الضوء اللامع حول الضريح، بل فسره تفسيراً منطقياً بأن الاضواء التي تحيط به كانت تصل الى عنان السماء. وربما يشي ذلك بأنه قصد أن المسلمين أضاؤوا المصابيح صباحاً ومساء الى جوار القبر حتى يظل المكان منيراً في شكل دائم.
ومن الغريب أن يلتبس الأمر على المسلم ما هوان ليذكر أن بئر زمزم تقع خلف قبر الرسول الكريم. كما تسللت الاسطورة الى حديثه عن ماء زمزم التي يستخدمها الربابنة والبحارة في أسفارهم بعد رشها على أمواج البحر العاتية فتقوم بتهدئتها وتنجو السفن من الغرق! ولعلنا نستطيع تفسير ذلك بأنه ربما استمع ما هوان في مكة أو المدينة الى الحديث الشريف «ماء زمزم لما شرب له» (بصرف النظر عن ضعف إسناده)، وحاول أن يجري نوعاً من المحاكاة، فأخذ معه في طريق عودته الى الصين بعضاً من مياه زمزم ليقوم برشّها على الأمواج العاتية معتقداً أن لها القدرة على تهدئتها.
وفي نهاية حديثه عن المدينة المنورة أشار الى أن سكانها يرتدون جلابيب طويلة (لم يحدد لونها)، فضلاً عن العمامات التقليدية، في حين ترتدي نساؤها الحجاب الذي يخفي وجوههن. وذكر أن الجميع يتمسكون بالشريعة الاسلامية.
ولدينا مصدر تاريخي ثالث عن مكة والمدينة تجلى في ما ورد في كتابات المترجم الصيني المسلم فا هسين Fai Xin الذي رافق أسطول الكنز في رحلاته الأربع الأخيرة الى الجزيرة العربية والخليج العربي، فأشار الى مكة ومناخها الحار، وتحدث عن وجود الكعبة المشرفة باعتبارها «مسجداً قديماً للغاية»... وأن سكانها يعبدون الله وملتزمون اجتماعياً وأخلاقياً. كما رصد علاقة الود بين فقراء المدينة وأغنيائها. ولم ينس ملاحظة الحجر الأسود زاعماً أنه سمع أنه نزل من السماء. وكذا العلاقة التجارية بين سكان مكة والتجار الصينيين حيث باعوهم الذهب والأحجار الكريمة والجمال والخيول مقابل الحرير الملون والخزف.
أما المصدر التاريخي الصيني الرابع الذي تظهر به معلومات عن مكة والمدينة في عهد أسرة مينغ فكان بواسطة هوانغ زنغ زنغ Huang Xing Zeng في العام 1520، والذي لم يرتحل الى الجزيرة العربية مثل ما هوان وفاهسين، واكتفى بإنجاز عمل مكتبي كالمصنف الذي وضعه شو جو-كوا سابقاً في القرن الثالث عشر الميلادي. ومع ذلك، فإن أهمية الكتاب تكمن في اعتماده على قدر كبير من المخطوطات والوثائق الصينية الأصلية عن رحلات سفن أسطول الكنز السبع للمحيط الهندي والجزيرة العربية والخليج العربي.
غير أننا نلحظ في معلوماته صدى لما سبق أن ذكره ما هوان وفاهسين سابقاً، في ما عدا تسميته للكعبة الشريفة «ساحة السماء» التي يجرى مسحها يوميا بماء الورد والعنبر. كما زاد بأن أشار الى الأركان المخصصة لأصحاب المذاهب الاربعة بالمسجد الحرام المخصصة للصلاة وإلقاء الدروس. وخلط بين مولد الهلال والشهر العربي، وبين ضرورة قيام السكان بالركوع والسجود. ولا يوجد مبرر لهذا الربط سوى أنه اراد أن يتحدث عن أداء صلاة المغرب أو صلاة العشاء بعيد رؤية الهلال. كما أوضح إبان حديثه عن المدينة المنورة تأثره ببعض المعلومات الخاطئة التي وردت في تقرير ما هوان، بخاصة ما سبق ذكره عن وجود بئر زمزم بها. وكذا الحديث عن مائها الذي يرش لتهدئة أمواج المحيط الهندي.
يتضح مما سبق تنوع المصادر الصينية التاريخية والجغرافية في تناولها لمدن مكة المكرمة والمدينة المنورة في العصور الوسطى. غير أن ذلك سمح بترديد رؤى وروايات وثنية بوذية تجسدت في مصنف شو –جوكوا، لحقتها مباشرة رؤية أكثر عمقاً وحيادية بفضل كتابات المترجمين والمسلمين الصينيين ما هوان وفا هسين التي اتسمت بإنصاف الاسلام والمسلمين. فضلاً عن متغير جديد ساهم في جلاء الرؤية الصينية عن مكة والمدينة، وهو ما يمكن توقعه بعد عودة أسطول الكنز وزيادة المعرفة الجغرافية الصينية بـ «البلاد الغربية».
* أستاذ في كلية الآداب – جامعة الملك فيصل – الأحساء
استمر اهتمام الأسر الصينية الحاكمة بالمسلمين باعتبارهم قاطني «البلاد الغربية» حتى عصر أسرة مينغ (1368 -1644) التي شهدت إرسال ما عرف بـ «أسطول الكنز» الذي أمر به الامبراطور يونغ لي (1403-1424) لاستكشاف سواحل المحيط الهندي. والذي خرج سبع مرات بأمر البلاط الامبراطوري الصيني خلال الأعوام 1405-1433، عبر مئات السفن الحربية التي رافقها عشرات التراجمة والموظفين الرسميين من أجل توثيق المعلومات التي سيتم الحصول عليها في شكل رسمي.
كان المترجم المسلم ما هوان Ma Huan اهم التراجمة الذين زاروا الجزيرة العربية خلال الرحلة الرابعة التي كانت بقيادة الربان المسلم شنغ هو Ching Hu عام 1413. كما زارها من جديد مع الرحلة السادسة 1421 والتحق أيضاً بالرحلة السابعة ليمكث في مكة 3 أشهر أواخر العام 1432. وأهّله ذلك لمعرفة أوسع بالعربية والاسلام وهو ما جعله يتخصص في ترجمة رسائل المبعوثين العرب والمسلمين الذين رافقوا أسطول الكنز في عودته لزيارة البلاط الصيني.
وحين نعلم أن الكعبة في معاجم اللغة تعني البيت المربع الجوانب، فلنا أن ندهش لأن الصيني ما هوان قد تحدث عن مكة باعتبارها «بلاد المربع السماوي» التي ظهر نبي المسلمين فيها، ويتمسك أهلها بشعائر الاسلام. غير أنه التبس عليه الأمر فذكر أنها علي مسيرة يوم واحد غربي مدينة جدة.
كما وصف الكعبة المشرفة وأعمدتها وسطحها والميزاب الذهبي، فضلاً عن كسوتها الحريرية. كما اتفق أيضاً مع روايات الرحالة الأوروبيين اللاحقين الذين أشاروا الى اهتمام الحجاج المسلمين بعيد الانتهاء من الفريضة بالحصول على قطع صغيرة من كسوة الكعبة تيمناً بها، وحتى يعودوا بها الى أوطانهم. ولأن ما هوان كان مسلماً بعكس شو جو-كوا، فقد أكد أن المسلمين يحضرون لأداء فريضة الحج في مكة المكرمة في «اليوم العاشر من الشهر الحادي عشر». كما تحدث عن مناخ مكة الحار وسكانها الشغوفين بتربية الإبل والخيول. غير أنه أشار الى مسألة في غاية الأهمية، وتعبّر عن الأهداف الحقيقية التي خرج من أجلها أسطول الكنز لجمع المعلومات عن «البلاد الغربية» وسكانها وتوطيد العلاقات معها حيث قام السفراء الصينيون برسم صورة دقيقة للكعبة والحرم الشريف. كما قاموا بتقديم الحرير والخزف الى شريف مكة حسن بن عجلان (1425-1453م) مصطحبين معهم في رحلة عودتهم الى الصين مبعوثين من لدن ابن عجلان أهمهم شاه زيان حيث حملوا الهدايا الى البلاط الصيني.
كما وردت المدينة المنورة في كتابات ما هوان أيضاً، حيث أشار الى وقوعها على مسافة يوم غربي مكة المكرمة. وكان من الطبيعي أن يشير الى قبر الرسول الكريم. غير أنه لم يتبن نظرية شو جو-كوا حول الضوء اللامع حول الضريح، بل فسره تفسيراً منطقياً بأن الاضواء التي تحيط به كانت تصل الى عنان السماء. وربما يشي ذلك بأنه قصد أن المسلمين أضاؤوا المصابيح صباحاً ومساء الى جوار القبر حتى يظل المكان منيراً في شكل دائم.
ومن الغريب أن يلتبس الأمر على المسلم ما هوان ليذكر أن بئر زمزم تقع خلف قبر الرسول الكريم. كما تسللت الاسطورة الى حديثه عن ماء زمزم التي يستخدمها الربابنة والبحارة في أسفارهم بعد رشها على أمواج البحر العاتية فتقوم بتهدئتها وتنجو السفن من الغرق! ولعلنا نستطيع تفسير ذلك بأنه ربما استمع ما هوان في مكة أو المدينة الى الحديث الشريف «ماء زمزم لما شرب له» (بصرف النظر عن ضعف إسناده)، وحاول أن يجري نوعاً من المحاكاة، فأخذ معه في طريق عودته الى الصين بعضاً من مياه زمزم ليقوم برشّها على الأمواج العاتية معتقداً أن لها القدرة على تهدئتها.
وفي نهاية حديثه عن المدينة المنورة أشار الى أن سكانها يرتدون جلابيب طويلة (لم يحدد لونها)، فضلاً عن العمامات التقليدية، في حين ترتدي نساؤها الحجاب الذي يخفي وجوههن. وذكر أن الجميع يتمسكون بالشريعة الاسلامية.
ولدينا مصدر تاريخي ثالث عن مكة والمدينة تجلى في ما ورد في كتابات المترجم الصيني المسلم فا هسين Fai Xin الذي رافق أسطول الكنز في رحلاته الأربع الأخيرة الى الجزيرة العربية والخليج العربي، فأشار الى مكة ومناخها الحار، وتحدث عن وجود الكعبة المشرفة باعتبارها «مسجداً قديماً للغاية»... وأن سكانها يعبدون الله وملتزمون اجتماعياً وأخلاقياً. كما رصد علاقة الود بين فقراء المدينة وأغنيائها. ولم ينس ملاحظة الحجر الأسود زاعماً أنه سمع أنه نزل من السماء. وكذا العلاقة التجارية بين سكان مكة والتجار الصينيين حيث باعوهم الذهب والأحجار الكريمة والجمال والخيول مقابل الحرير الملون والخزف.
أما المصدر التاريخي الصيني الرابع الذي تظهر به معلومات عن مكة والمدينة في عهد أسرة مينغ فكان بواسطة هوانغ زنغ زنغ Huang Xing Zeng في العام 1520، والذي لم يرتحل الى الجزيرة العربية مثل ما هوان وفاهسين، واكتفى بإنجاز عمل مكتبي كالمصنف الذي وضعه شو جو-كوا سابقاً في القرن الثالث عشر الميلادي. ومع ذلك، فإن أهمية الكتاب تكمن في اعتماده على قدر كبير من المخطوطات والوثائق الصينية الأصلية عن رحلات سفن أسطول الكنز السبع للمحيط الهندي والجزيرة العربية والخليج العربي.
غير أننا نلحظ في معلوماته صدى لما سبق أن ذكره ما هوان وفاهسين سابقاً، في ما عدا تسميته للكعبة الشريفة «ساحة السماء» التي يجرى مسحها يوميا بماء الورد والعنبر. كما زاد بأن أشار الى الأركان المخصصة لأصحاب المذاهب الاربعة بالمسجد الحرام المخصصة للصلاة وإلقاء الدروس. وخلط بين مولد الهلال والشهر العربي، وبين ضرورة قيام السكان بالركوع والسجود. ولا يوجد مبرر لهذا الربط سوى أنه اراد أن يتحدث عن أداء صلاة المغرب أو صلاة العشاء بعيد رؤية الهلال. كما أوضح إبان حديثه عن المدينة المنورة تأثره ببعض المعلومات الخاطئة التي وردت في تقرير ما هوان، بخاصة ما سبق ذكره عن وجود بئر زمزم بها. وكذا الحديث عن مائها الذي يرش لتهدئة أمواج المحيط الهندي.
يتضح مما سبق تنوع المصادر الصينية التاريخية والجغرافية في تناولها لمدن مكة المكرمة والمدينة المنورة في العصور الوسطى. غير أن ذلك سمح بترديد رؤى وروايات وثنية بوذية تجسدت في مصنف شو –جوكوا، لحقتها مباشرة رؤية أكثر عمقاً وحيادية بفضل كتابات المترجمين والمسلمين الصينيين ما هوان وفا هسين التي اتسمت بإنصاف الاسلام والمسلمين. فضلاً عن متغير جديد ساهم في جلاء الرؤية الصينية عن مكة والمدينة، وهو ما يمكن توقعه بعد عودة أسطول الكنز وزيادة المعرفة الجغرافية الصينية بـ «البلاد الغربية».
* أستاذ في كلية الآداب – جامعة الملك فيصل – الأحساء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق