ثمّة أناس
تحبّ لو يشيخون، لتربح صحبتهم أطول قدر ممكن من الزمان. ولكن الاقدار ليست تحت أمر
أحد. ولا اعتراض على الأقدار لأنّ الاعتراض عليها بمثابة نطح رأس بحائط أو صخرة،
نطح لا يقدّم ولا يؤخّر. ومن الأفضل لك أن لا تثير غيظ الأقدار، تتقبّل بمضض أو
حزن نزوات الأقدار أو تتقبّلها بإذعان مترفّع.
يباغتك حزن في لحظة فرح، أو
وأنت تستعدّ لخوض غمار مناسبة سعيدة، هكذا باغتني غياب صديقي الغالي طلال منجّد.
وحين أقول صديقي أقصد بها معناها الحرفيّ النابت من تضاعيف جذر "ص.د.ق".
رحل قبل أقلّ من يومين من توقيع كتابي " لعنة بابل"، وكنت قد أرسلت له بطاقة الدعوة إلى التوقيع نهار
الثلاثاء، ولا أعرف إن كان قد استلمها ام لا؟ لقد قال لي من حملها إليه أنه لم
يفتح له أحد الباب فدسّها من تحت الباب. لا أعرف إن كان قد فتحها قبل رحيله أم لا؟
تعود علاقتي به إلى عام
1979، ولا بدّ من ذكر طريقة تعرفّي عليه عن قرب وكثب. كنت في القسم الثاني، وكانت
قد نشأت بيني وبين خريستو نجم أستاذ مادّة الأدب العربي في مدرسة مار الياس آنذاك
صداقة حنوّ الأستاذ على تلميذه ، ولا يمكنني أن أذكر طلال دون أن أذكر خريستو. استمرّت
علاقتي الحميمة بخريستو نجم حتّى بعد مغادرتي مار الياس في القسم الثاني، لأنّي
كنت قد حدّدت الملامح العامّة لمساري العلميّ، وكنت واقعاً في ذلك الوقت تحت فتنة
كلمات طه حسين الذي التهمت كلّ كتبه وكتاباته المتناثرة في الصحف القديمة. وكنت
وأنا في السنة الثانويّة الأولى قد قرّرت أن أسير على خطى طه حسين عبر متابعة
دراساتي العليا في باريس. ما ساهم في استمرار العلاقة بيني وبين خريستو المكان،
المكان له مزاج غريب في تقريب الناس. بيت خريستو قريب من مطعم الدنّون الذي يملكه
والدي، بمعنى ان خريستو في ذهابه وإيابه كان يعبر رصيف المطعم، وكان مكاني
الطبيعيّ، منذ أن وعيت على الدنيا، في أوقات فراغي، أو العطلة المدرسيّة هو مطعم
الدنون. وشاءت الأمكنة أيضا أن يكون مقهى البنكي بجوار مطعم والدي. ومقهى
البنكي بنوعية روّاده المهتمين بالثقافة من أساتذة ودكاترة وصحفيين ومنخرطين في
عالم الأحزاب الصاخب جعلني أقرب عالمهم من بعد، من زجاج المطعم.
كان خريستو نجم قد اكتشف
ولعي المفرط بالأدب والنقد وعالم الكتابة، وشاءت إرادة طلال منجّد ان يقتحم عالم
الكتابة من باب مجلّة، فقام بإنشاء مجلة " نداء الشمال"، كان خريستو نجم
يكتب مقالا فيها عن الغزل والحبّ بشتّى حالاته. في إحدى جلساتي مع خريستو نجم قال لي:
ما رأيك أن تكتب في " نداء الشمال؟". كان سؤاله فرحة غير متوقعة. وافقت،
شاكراً له ثقته الغالية التي وضعها في قلم لا يزال يحبو في ملعب الكتابة، قلم لم
تتبيّن له ملامح مستقبله. وكنت حين اقترح عليّ الكتابة غارقاً في قراءة مسرحية
شكسبير " الملك لير"، وكنت مفتوناً ببنت الملك الصغرى التي تحبّ والدها
بصمت بليغ، فقررت ان يكون شكسبير موضوع مقالي الأوّل، ولا ازال اذكر عنوان المقال
جيّداً، وهو: "شكسبير في قبضة الرعب"، صدر العدد الأوّل من دون أن ألتقي
بطلال منجّد، ولكن أخبرني خريستو نجم بأصداء المقال الإيجابية من قبل طلال. وبعد
المقال التقيت بطلال شاكرا له قبولي قلما صغيرا في مجلته الشمالية. وكان هو من
روّاد البنكي، وهذا ما جعل اللقاءات بيننا تتوالى بحسب مزاج الأيام والظروف دون
مواعيد مسبقة ودون بروتوكولات. إلى أن فاجأني طلال منجّد ذات يوم بشهادة أعتبرها
أجمل من كلّ الشهادات العلميّة التي حصلت عليها على امتداد ما مضى من عمر، شهادة
من سطور قليلة، وكلمات بسيطة وثقيلة، لقد كلّفني طلال بكلماته العذاب بمهمّة ليس
من السهل ان يقوم بها شابّ في أوّل العمر، وأوّل الأحلام، وأوّل الطريق. وهنا أحبّ
أن انقل مقاله القصير الذي كان يضعه في الصفحة الأخيرة من "نداء الشمال"
تحت عنوان:
"... وتبقى الأحلام مموّلنا الوحيد!"
"تأثيرات
نداء الشمال رغم محدوديتها تجعلنا أكثر تمسّكاً بالاستمرار، فمن خلال صفحاتها
اكتشفنا موهبتين مبكرتين تجعلانا نقول للقرّاء:
احفظوا هذين الأسمين جيّداً وهما بلال عبد
الهادي وطلال
شتوي، ففيهما بعض مستقبل الكلمة في هذه المدينة.
... بلال عبد
الهادي في العشرين من عمره يتابع دروسه في الجامعة ويخوض غمار أصعب توجّه في
الكتابة، وهي الكتابة النقدية.
طلال شتوي في
السابعة عشرة من عمره, طالب بكالوريا ويكتب الشعر كما يبرع فيه أكثر
الأسماء شهرة في عالم الشعر في لبنان".
نصّ قصير من
بضع كلمات غيّر مجرى حبري، ومجري عمري. وأنشأ صداقة روحيّة بين وبين طلال آخر:
طلال شتويّ! لا أظنّ أنّ ذاكرتي يطاوعها قلبها على نسيان كلمات طلال منجّد أو محو
آثارها الأثيرة في حياتي. تكون في أوّل عمرك، خائفاً، تخاف أن تفترسك أحلامك أو
تفترسك الكلمات. وإذ به يمنحني ما أروّض به حبّي للكلمة الشموس. مضت الشهور، ومضت
"نداء الشمال" إلى نهايتها الفجائية كما لو كان موتها يشبه موت شابّ
طموح، فتيّ بسكتة قلبيّة لا ترحم. وغادرت الفيحاء عام 83 تاركاً ركام المدينة
خلفي، وحاملاً معي الى باريس أحلاماً كالأنقاض! وبقيت حتى عام 1994، عدت إلى
مدينتي التي أحبّ، وكانت كلمة لأندريه جيد قد جعلتني أحسم قرار العودة، إذ قرأت له
عبارة:" عشْ حيث تحبّ أن تموت"، وما خطر ببال جثماني، يوماً، أن يموت
خارج مدينة الفيحاء.
عدت إلى
الجامعة أستاذا بعد أن غادرتها تلميذاً، وقرّرت أن أقاوم الإحباط الذي يمكن ان
يسببه عدم التفرّغ، وأنا من المقتنعين أنّ الإحباط وسواس خنّاس، لا بدّ من تقليم
أظافره والظفر عليه بأيّة وسيلة ممكنة. كنت أحلم من يوم عودتي إلى مدينتي بأنْ
يكون لكلماتي موطىء قلم في إحدى الجرائد المحليّة. ولم يكن من حقّق لي هذا الحلم،
سوى طلال نفسه رحمه الله. تولّى عام 2004 منصب مدير تحرير جريدة
"الرقيب". كان يجلس في مقهى البنكي، وكنت في مطعم الدنون، ما يفصل بيني
وبينه شارع ورصيفان، وما هي إلاّ لحظات حتّى وجدته وقد أقبل إليّ، واقترح عليّ
كتابة "عمود" أسبوعيّ في جريدة الرقيب. تهيّبت الأمر رغم حبّي له. أخاف
من كلماتي بقدر ما أحبّها، فقلت له متردّداً، قد أكتب مقالاً كلّ أسبوعين. خفت أن يحرن
قلمي ويرفض إمدادي بالمداد. واخترت عنوان" كلمة ونَصّ" للعمود، حيث كنت
أفكّر تفكيراً معجميّا وهو أن أقف عند كلمة معيّنة وأغوص في دلالاتها وتجليتاها
وتشعّباتها. وأذكر أنّ المقال الأوّل كان عن " الرصيف" ومحمولات الرصيف
السيميائية. وكيف أنّ طريقتنا في التفكير يترجمها شكل الرصيف في مدينة طرابلس.
كان مقال
الرصيف هو الرحم الذي من أحشائه ولد كتابي " لعنة بابل"، وقد عرضت ذلك
في مقدّمة الكتاب، وأعلنت فضل طلال منجّد الذي كان بمثابة القابلة القانونيّة
لكتابي.
رحل قبل يومين
من حفلة توقيع الكتاب.
قبل يومين
عدّاً ونقداً.
عزائي أنّه
كان يعرف الودّ الذي أكنّه له، ويعرف انّي أعترف بفضله الغامر على كلماتي.
رحمك الله يا
أخي في الله، وأخي في حبّ نداء الفيحاء.
بلال عبد الهادي
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق