الخميس، 27 يونيو 2013

امين معلوف لبناني يكتب بالفرنسية ويبشر العالم بالحكمة

هذه مقابلة كنت قد اجريتها مع امين معلوف في كانون الثاني من عام 1993، ونشرتها في مجلة الاسبوع العربي العد 1736



أمين معلوف كاتب من لبنان, يعيش في فرنسا, ويكتب بالفرنسية. يكتب قضية هي ابعد من علاقة الشرق بالغرب. انها علاقة الانسان مع الانسان, وعلاقته مع التاريخ, ومع الزمن الآتي, من خيوط الماضي ينسج رواياته فيحوله الى حي ينبض وفق ايقاع الحاضر. "ليون الافريقي", "عمر الخيام", "ماني", وشخصيات غيرها... يشعر المرء انه يفتقدها في هذا الزمن البارد. وقارئ الفرنسية يقبل على قراءتها بنهم. فرواياته اشبه بأرغفة من الشرق, طالعة من افران الحكمة, فالعالم كما يقول تعوزه الحكمة, وقليل منها, في هذا الزمن الطائش, ربما غير هذا الانحدار الصاعق نحو المجهول. أمين المعلوف التقته "الاسبوع العربي" لتصغي الى كاتب لا يؤمن بالفن للفن وانما بالفن لوجه الانسان, ووجه الحياة.

يبدو كما لاحظت انك دائما على سفر كشخصيات قصصك...؟

أسافر كثيرا, لكن اغلب الوقت اعزل نفسي عن باريس وصخبها. ليس سفرا بالمعنى الحقيقي، انها عزلة, الآن اشتغل لانجاز كتاب لذا امضيت كل السنة تقريبا خارج باريس. من قبل كنت اتجول كثيرا من باكستان الى الفيتنام الى افريقيا. كل الوقت كنت اقضيه بالتجول.

طبيعة القصة تفرض عليك السفر؟

انسان يكتب عن سمرقند لابد ان يراها, ويلمس الحياة القديمة. ولكن ليس بالضرورة ان يذهب. كل من يكتب قصة, الى المناطق التي تدور فيها القصة. والامثلة كثيرة عن كتاب كتبوا عن امكنة لم يروها. فليس المطلوب من كاتب القصة ان ينقل صورة حقيقية عن المدينة وانما نقل مشاعر معينة يضعها في اطار مدينة حتى وان كان يعرف المدينة من خلال الخيال اكثر ما يعرفها من خلال الواقع, لا ضرورة لذلك.

انا اشعر انه يجب عليّ الاحساس بالاشياء التي اكتب عنها. هذا شعور صار اخف الآن, لان ما اكتبه حاليا هو عن مناطق اعرفها من قبل. ما انا بحاجة اليه الآن ليس الذهاب الى مدن وانما الهدوء. فالحياة في باريس بمعناها العام والحياة الادبية والفكرية تحديدا فيها كثير من الضجيج. والكاتب يحس بحاجة الى مزيد من الهدوء والصفاء ليركز فكره ويبني قصة او اي شيء.

طه حسين بلسان احد ابطال قصصه وصف باريس بأنها مدينة الجن والملائكة...؟

هي مدينة احبها ولكن اتصور ان كل مدينة كبيرة تاكل الانسان, تستهلكه, وعلى المرئ ان ياخذ من المدينة القادرة على اعطائه من دون ان يقدم نفسه ضحية.

اي ان يستنزفها بدل ان تستنزفه؟

صحيح, صحيح. وهذا شيئ يفرض الابتعاد قليلا. انا اجيئ كل اربعة اشهر لأرى باريس ادبيا, وثقافيا والمسرح واشياء اخرى, الجزء الاساسي من وقتي اقضيه منعزلا..

اين خارج باريس ام خارج فرنسا؟

لا، اكتب في فرنسا.

يلحظ القارئ وجود ثلاث مراحل, الى حد الآن, في كتبك المنشورة, المرحلة الاولى كانت توثيقية, الى حد كبير, في كتاب "الصليبيون من وجهة نظر العرب" ثم كانت مرحلة الرواية التاريخية في "ليون الافريقي", و "سمرقند" و "حدائق النور", واخيرا رواية "القرن الاول بعد بياتريس" المتمتعة بقسم وافر من الخيال, فإلام تعزو هذه المراحل؟

انا راغب في الكتابة في مواضيع كثيرة ومختلفة. صحيح ان هناك ثلاثة انواع كتب كتبتها الى الآن. ولكن حتى الروايات, أظن ان كل واحدة منها مختلفة عن الاخرى, والآن ارغب ان اكتب كتبا لها طابع غير خيالي, ومثل الحروب الصليبية, او تاريخية او فكرية, كما اني ارغب في كتابة روايات ليست بالضرورة من النوع الذي كتبته آخر فترة. ليس عندي شعور بالانتقال من مرحلة الى اخرى، وانما شعور بان ثمة مواضيع كثيرة مهمة.

يظل خيط ينظم كل المراحل؟

ثمة خيط, ومن الممكن ان يكون الكتاب المقبل له طابع تاريخي, او يكون رواية تاريخية.

الخيط الواصل ربما هو الشرق , بمعنى ان القارئ يعرف ان الكاتب شرقي او عاشق للشرق.

 وربما لهذا وصفك بعض النقاد الفرنسيين بالحكواتي بمعناها النبيل والجميل؟

بالتأكيد, الشرق موجود دائما ولكن ثمة اشياء اخرى غير الشرق.

التواصل بين الشرق والغرب؟

والتوافق, ثمة شيئ اساسي, بالنسبة لي مهم جدا, هو نوع من الحكمة احيانا اربطها بالشرق, واحيانا اخرى احاول ان اربطها بغير الشرق. لدي تصور, تشوق لحكمة معينة وشعوري دائما هو ان العالم تنقصه الحكمة. ثمة تهور كثير, واحقاد. ربما الجامع المشترك هو توق الى انسانية بالغة, راشدة.

هذا ما نراه يتجسد في شخصيات قصصك, "ليون الافريقي", و "ماني" الذي تقرنه بشكل غير مباشر بالمسيح من حيث "الآلام"؟

في المنطلق كان المسيح وعندما تطورت نظرته لبناء دين مختلف رفض واضطهد, اتصور ان طموحه كان ان يعمل في المسيحية ما عملته المسيحية في اليهودية.

عهد جديد؟

الى حد ما.

المانوية؟

هناك مثل لاتيني. يقول "تعسا للمنهزم".

شبيه المثل العربي "حين تسقط البقرة تكثر سكاكينها"؟

بالضبط, ماني لم يقدر ان يدافع عن نفسه, لم يفرض نفسه, والكل شعر انه منافسه وحاربوه على هذا الاساس.

بماذا تختلف سيرته الحقيقية عن السيرة التي كتبتها عنه في "حدائق النور"؟

ما كتبته قريب جدا من الحقيقية, اشتغلت على نصوص غير معروفة لعدم نشرها ونصوص نشرت ولكنها غير معروفة الا في اوساط الاختصاصيين تحكي عن طفولة ماني وصباه. حاولت ان اروي قصة ماني بأقرب ما يمكن من الحقيقية. بالطبع ثمة تغيرات. ولا أحب ان أقول هذه قصته الحقيقية. اذا كان في القصة عشرة بالمئة من عنصر الخيال لا تعود حقيقية وفي روايتي اكثر من ثلاثين بالمائة ولكن كتبت قصته كما تصورت انها حصلت.

تخيل وقائع الماضي؟

حاولت, الواقع كان ناقصا, ثمة فجوات. حاولت ردمها بأشياء من الخيال او اشياء تشبه الواقع, وأعتقد ان ماني قريب من الصورة التي رسمتها.

كتابة رواية تاريخية ليست سهلة, فثمة البحث والتنقيب عن شخصيات طريفة وجذابة. فكيف نبتت هذه الشخصيات المعلومة- المجهولة في آن واستوت قصصا؟

الحقيقة, الاشياء جرّت بعضها بعضا. أول كتاب كتبته عن الحروب الصليبية, حين فرغت منه قال لي الناشر: ما رأيك في كتابة شيئ عن ابن بطوطة؟ وكنت اعرفه رحالة كما يعرفه كل الناس خصوصا وانهم كانوا يلقبونني بابن بطوطة لانني كنت اسافر كثيرا (يضحك). ورحت اقرأ الاشياء التي رواها والتي كتبت عنه, وخلال قراءاتي اكتشفت شخصا اسمه "ليون الافريقي" اذ ورد في هامش كتابه ملحوظة حول نقطة معينة تقول ان وصف ابن بطوطة قريب من الوصف الذي سجله ليون.ما كنت قد سمعت به قبل, فأردت ان اعرف من هو ليون الافريقي, فتشت, واكتشفت شخصا غريبا ولد في غرناطة ثم انتقل الى روما وصار يكتب بالايطالية, فبدأت أهتم بالموضوع. وخلال تأليفي للكتاب او بعد الفراغ منه, لم اعد اتذكر جيدا, كنت اقرأ في كتاب "مارغريت يورسنار" ذكريات اندريان فقرأت عبارة كانت قد كتبتها في دفتر تقول فيها "ترددت وانا أكتب اندريان بينه وبين عمر الخيام, ولكن احسست اني قادرة على الكتابة عن اندريان لانه ذو ثقافة لاتينية في حين ان عمر من عالم مختلف لست ملمة به كما يجب". وفعلا الخيام شخصية منسية وان كان شعره معروفا, وقررت ان اعمل شيئا عنه, ومن هنا كانت "سمرقند". وحين كتبت الخيام اشتغلت على كل تاريخ ايران بكل جوانبه. وتولد عندي شعور اننا في لبنان نعرف قليلا عن العالم العربي, وعن الغرب, ونتجاهل ايران وتركيا والهند, اي نتجاهل كل ما هو ليس نحن وليس الغرب. حاولت دراسة اللغة الايرانية, وظلت معرفتي بها محدودة. المهم من خلال دراستي لماضي ايران اكتشفت ماني.

قارئ كتبك - في أي حال – يتضح له جليا ما تقول. فكل كتاب يحمل نواة او فقرة لكتاب مقبل؟

وأنا أكتب تأتيني فكرة اسجلها, تكون مخاضا فكريا يطلع منه كتاب مختلف. تأتيني افكار كتب جديدة, أسجلها. منها ما انساه ومنها ما يتضاءل اهتمامي بها او احس اني لا املك الامكانية او الوقت لكتابتها. اكتب كتابا كل سنتين. ولكن كل سنة تأتيني فكرة عشرة او خمسة عشر كتابا. من اصل كل هذه الافكار لا تبقى الا واحدة واحيانا لا شيء.

جرجي زيدان كتب روايات تاريخية عدة هل ثمة جامع بينكما في تناول التاريخ؟

لقد رجعت مؤخرا الى كتب جرجي زيدان, وكانت فكرتي عنه ايجابية, لكنني اصبت بنوع من الخيبة, وعندما اشتغلت على جمال الدين الافغاني رجعت الى كتابه, فاستغربت وجود بعض الاشياء المغلوطة او التقريبية, فالدقة غير موجودة. ليس بالامكان الحكم اليوم على شخص كتب قبل ستين او سبعين عاما. ان الكاتب حين يريد ان يكتب رواية تاريخية يجب ان يكون عنده دقة في التاريخ, ومعرفة تامة بالمرحلة قبل ان يدخل عنصر الخيال. ولهذا شعرت بخيبة حين قرأت الافغاني. وكان حكمي عليها سلبيا وبت اتردد في اعادة قراءاتي القديمة التي احمل انطباعات جميلة عنها, مثل واحد يريد ان يحافظ على الود القديم. كنت اتمنى لو كان ثمة نوع من التقليد للرواية التاريخية, نوع من التكملة للتقليد الروائي القديم مثل الظاهر بيبرس, وألف ليلة وليلة وسيرة عنترة. كنت اتمنى استمرارية هذا التقليد المرتبط ، بالطبع، بالتغيير الشفهي لا بالتغير الكتابي.

الا مؤخرا, ربما, مع نوبل نجيب محفوظ؟

طبعا في المرحلة الاخيرة منذ ثلاثين او اربعين عاما, صارت لدينا رواية واكيد انها ستتطور اكثر. ولكن لا شك في ان عادات القراءة والاهتمام بقيت, لوقت طويل، اهتماما بالشعر او بالدراسات والابحاث والكتابات السياسية. وبقيت الرواية ذات مكانة متواضعة بالنسبة للكتابات الاخرى, وهذا مؤسف ربما هذا تطفل مني لاني لم اكتب الى الآن رواية بالعربية.

العربية

وهل ستكتب بالعربية؟

أحب ان اكتب بالعربية, ولكن ليس من مشروع قريب, لو ان احدا قال لي من عشرين سنة اني ساكتب بالفرنسية كنت ضحكت, لاني جئت من بيت "المعالفة" وهم يفتخرون بالعربية. كان من الطبيعي ان اكتب العربية, جاءت سلسلة أمور غيرت مجرى حياتي: حرب لبنان ثم الهجرة التي دعتني الى الانتقال الى مجتمع مختلف. والمجتمع المختلف تخاطبه بلغته. انا اكتب بالفرنسية وأحب اللغة الفرنسية, ولو ذهبت الى البرازيل لكتبت بالبرتغالية,  والى اميركا لكتبت بالانكليزية, ولكن هذه كلها ليست اسبابا كافية لان يبتعد الواحد عن لغته, لهذا عندي طموح لان اكتب بالعربية, وان لم يكن عندي مشاريع مباشرة, ولكنه شيء داخل في حسابي.

كيف تأتيك الافكار وانت تكتب بغير لغتك؟

الافكار تأتيني مرة بالفرنسية، واخرى بالعربية واحيانا بالانكليزية. احيانا تأتي افكار بالعربية انقلها الى الفرنسية, هذا شيء ايجابي, ما دامت اللغة التي اكتب بها مطعمة بلغات اخرى, وفي فرنسا صار عند الناس شعور بايجابية تطعيم اللغة بلغات اخرى.

تعطيها نكهة خاصة؟

ليس هذا وحسب، وانما تعطيها دسما مختلفا, فالعالم اليوم عليه ان يتقبل لغة غير صافية , لغة قابلة لتأثيرات مختلفة, وذهنيات مختلفة وحضارات مختلفة, ولغات مختلفة ايضا.

بعض النقاد يعتبرون ان الكاتب حين يكتب بلغة غير لغته كما لو انه تنكر لحضارته, فما مرد هذه النظرة؟

ثمة ظروف, في بعض المناطق, ظروف سياسية وحضارية تجعل هكذا نظرة تزدهر. ليس من السهل نسيان حالة حضارتنا الراهنة, اذ تشعر انها محاصرة, مهمشة, معرضة للزوال, وبالتالي ثمة نوع من الخوف الدائم, والتشكيك بكل ما يبدو وكأنه انتقال من معسكر الى آخر كأن يكون التخلي عن اللغة هو تخل عن حضارة وهوية. انا ارى الامور, في الحقيقة, بشكل مختلف. ربما يعود ذلك الى كوني من لبنان. فلبنان حضارة تجار (يضحك), اللغة هي وسيلة لا نشعر بها في لبنان كما في بلدان اخرى. مثلا الجزائريون قمعوا, قمعتهم فرنسا وكان ثمة شعور بعملية اذلال, وجانب من عملية الاذلال ماثل في مسألة اللغة, فارتبطت اللغة بكل شيء, بالدين والوطنية والصراع ضد الاستعمار. في لبنان هذا الشعور لم يكن موجودا. كل انسان, في لبنان, يعرف انه من الواجب عليه ان يتقن لغات عدة, فكل لسان بإنسان, كما ان لبنانيين كثيرين كتبوا بالبرتغالية والاسبانية, والانكليزية والفرنسية, بمعنى ان هناك ثمة مهجرية قديمة. والمفروض على اي لغة ان تفرض نفسها.

بتاريخها فقط؟

تفرض ذاتها بسياسة معينة, ومنها سياسة الترجمة. فعلى كل فرد ان يقدر على الوصول الى كل شيء يصدر في العالم من ناحية الأدب, والفكر والعلم من خلال لغته. هذه الاشياء الاساسية تجعل اللغة تعيش وليس فرض استعمال اللغة بقوة العادة.

هذا يستدعي ايجاد مأمون جديد؟

حين كان البيروني يقول لا اتصور أن اكتب مثلا نصا علميا الا باللغة العربية لانها اللغة الوحيدة التي تستوعب نصا علميا فإن هذا يعني ان في تلك المرحلة, اخذت اللغة العربية مركزا يفرض على الانسان ان يعرفها. اذا اريد للغة ما ان تصير مركزية بالنسبة للناطقين بها وغير الناطقين بها عليها ان تكون طريقا لمعرفة كل شيء. اي ان قارئ العربية عليه ان يكون قادرا على الاطلاع على كل شيء مهم يصدر في العالم. عن طريق لغته هكذا تنمو اللغة وليس بالتفتيش عن كل من يعرف العربية لاجباره على الكتابة بالعربية. لغات كثيرة الآن مثل الالمانية, واليابانية, والانكليزية حتى لغات أقل اهمية تفرض على ذاتها الاطلاع. انا اعتقد ان الاموال العربية لو يصرف قسم منها على جعل كل شيء اساسي في العالم في متناول القارئ العربي لانكسر الحصار المفروض على العربية, هكذا تصير اللغة مركزية, مفروض ان يكون ثمة موسوعات باللغة العربية. مفروض ان يترجم كل نتاج علمي جديد. هذا هو الاساس, وليس ان تمنع كاتبا فرنسي من اصل اسباني مثلا ان يكتب بالفرنسية. المهم ان تكون اللغة طريقا ممكنة للوصول الى كل ما يحتاج اليه الانسان. لغات وصلت واخرى تجاهد وتقاتل حتى تصل الى ذلك مثل الالمانية واليابانية. وحين يقرر بلد ما حتى  وان كان ذا لغة مهمة, في وقت من الاوقات, ان ثمة اشياء ليس بحاجة اليها يتراجع. مثلا الاتحاد السوفياتي حين بدأ يتجاهل ما يأتيه من الغرب "الرأسمالي" تهشمت لغته في سرعة قصوى. وخلال عشرات محدودة من السنين. لهذا فبالنسبة لي لا تتقدّم اللغة بمجرد طرح الصوت الفارض على العربي الكتابة بالعربية. وانما من خلال جعل اللغة لغة مركزية للوصول الى كل نواحي المعرفة. ان توصيل كل شيء مهم الى الـ 200 مليون عربي هوة واجب تجاه الانسان وتجاه اللغة. انا مثلا تعلمت بسرعة كبيرة اللغة الفرنسية والانكليزية, لان الاشياء التي كنت اريدها لم اجدها في لغتي.

اهذا ما دفعك للكتابة بالفرنسية؟

لا, كتبت بالفرنسية لاني هاجرت, حين يهاجر الانسان واذا رغب في ان لا يكون مهمشا عليه مزاولة لغة بلد الهجرة. أعود للغة العربية لاقول لك انها مسألة مهمة, فالعربية لغة لها تاريخ, لها مجال انتشار واسع في العالم من خلال الاسلام اي ان مليار انسان لهم علاقة روحية باللغة العربية. فالباكستاني مثلا أحب شيء اليه ان يتابع دراسته بالعربية اذا قدمت له كل امكانيات المعرفة. ان العربية قابلة لان تكون لغة مليار انسان, لغة كل مسلم كما كانت قديما.

احيانا نرى ان العربية لا ترفض فقط اشياء تأتيها من الخارج, وانما ترفض اشياء من التراث, هي جزء منا شئنا ام ابينا, فام هذه النظرة السلبية حتى للذات؟

حين تكون النظرة هكذا فاننا نحكم على اللغة ان تبقى هامشية. يجب ان نملك نظرة واضحة جدا اذا اردنا فعلا ان تكون العربية لغة مركزية, ان ننسى انتماءاتنا السياسية والدينية والوطنية, ونفسح المجال امام ناس هذه اللغة للوصل الى كل شيء مهم, ومن ثم هم يقررون. اي ان نعامل الشعب كشعب بالغ وليس كطفل....

كيف تتعامل مع شخصيات قصصك, وخصوصا ان اغلبها شخصيات تاريخية....؟

أتعلق بالشخصيات التي اكتبها, ولكن حين انتهي من كتاب انتقل الى شيء آخر, مختلف تماما. لا اعرف اذا كان هذا شعورا عاما لدى الكتاب. حين انجز مشروع كتاب, ابتعد عنه, اعاود الاهتمام به بعد سنوات عدة. اتصور ان معاناة الكاتب وهو يكتب تتحول الى .... رد فعل, كما لو اني اخاطب الكتاب او شخصية الكتاب: خلصنا, تعبت منك, اخذت حقك, الوقت الآن لشخصيات اخرى.

اي شخصية في الروايات تعبر عن نفسك؟

ما زال مبكرا, ربما بعد سنوات يصير بامكاني معرفة الشخصية الاقرب.

كان الكاتب بورخيس يقول "انا كل من قرأت", وأنت؟

بورخيس اديب يحيا في عالم الكتاب, انا مختلف, لأنني اتعامل مع اشخاص ينتمون الى حقبات تاريخية. بورخيس امر آخر.

بالنسبة للرواية الاخيرة "القرن الاول بعد بياتريس" يشعر القارئ وكأنها روايتان متداخلتان, كما انها تحمل قضية, كما ذكرت منذ قليل, قضية الحكمة في العالم, وقضية المرأة من خلال الحبة المبيدة للأنوثة.

 في رأيك لماذا الرجل يحب المرأة محبة تتساوى احيانا والبعض؟

ثمة شيء من هذا, ولكن المركزي في الكتاب هو التحدث عن سوء استخدام العلم, استعمال العلم لاهداف مضرة امر مقلق جدا. اخذت فكرة خيالية هي وجود حبة تمكن من استبعاد انجاب البنات, لانه يتملكني شعور ان ثمة تلاعبا بالانسان, بـ"الجينات", تجري على الحيوان ثم تطبق على البشر, وقد بدأ تطبيق هذا التلاعب بالانسان, فهناك مستشقيات, ومستوصفات تساعد عائلة معينة لمجيء صبي او بنت. ثمة اتجاه, لا احب اطلاق الاتهامات, ثمة جو معين بتحسس مشكلات في العالم لا حل لها, وثمة شعوب يزداد تكاثرها بشكل سريع, بعض الناس يقولون بايجاد دواء لابادة شعوب. عندي تخوف عبرت عنه بشكل مبطن, على طريقتي, فنحن في عالم يتفاقم انقسامه, عالم متطور وآخر يزداد تخلفا, وثمة شعور في العالم المتطور بأنه قد يتعرض لغزوات سلمية وغير سلمية ويردف هذا الشعور محاولة لايجاد حلول جذرية للتخلص من الاخطار المحدقة به, هذا يخوفني. ارى اناسا يتضايقون من زيادة السكان في العالم, ويجدون في ذلك مشكلة اساسية, فيقومون بالبحث عن حلول. انظر في افريقيا, وباء يمتد ولا احد يهتم, وثمة مناطق كثيرة في العالم تتلاشى اقتصاديا واجتماعيا. لدى تخوف. اعتقد ان الانسانية تتطور كثيرا على صعيد العلم والتكنولوجيا ولكن العقليات لا تتطور بالسرعة عينها, بل على العكس تتأخر.

هو نوع من الانفصام بين العلم والانسان؟

بالضبط, الى اين نحن ذاهبون؟ حروب اهلية تتزايد, حتى في مناطق مثل يوغوسلافيا وافريقيا.

حروب اهلية في العالم الثالث وعلى ابواب العالم المتطور؟

تماما, ترى العلم يتطور والانسان يتقهقر, ترى اسلحة مدمرة وفي الوقت ذاته, الاتحاد السوفياتي يتفتت. ولا احد يدري في يد من تسقط كل هذه الاسلحة النووية. واية ضمانة في ان اللاعب بالجينات يتميز بالحكمة, فلا يسيء استعمالها غدا حين تصير المختبرات بالعشرات في العالم؟ قد يأتي من يتلاعب بكل شؤون الولادة, واختيار جنس الجنين, وشكل البشر, ولونهم, عندي شعور بأخطار حقيقية, والكتاب صرخة انسان متخوف من الاشياء التي تحدث. اننا نملك عقلية القرون الوسطى مع تكنولوجيا القرن الحادي عشر.

ايمكن للمستقبل ان يفلت من يد الانسان؟

 بدأ يفلت, ونحن لا نملك اي ضمانة؟ بعضهم يقول ان السيدا هو نتيجة تلاعب بالجينات, ولست اختصاصيا حتى أعرف مدى صحة هذا. لكن كل شيء ممكن؛

والحل؟

الحل يكمن في عقلية تجاري تطور العلم. الانسانية تزداد امكانياتها على البناء والتدمير اكثر فأكثر, ولكن هل هي قادرة على حمل مسؤولية ما يصير حين ترى قدرتها على تغيير بنيتها. قدرة التدمير تكبر, العلم يتطور بسرعة هائلة, تلفزيون, مواصلات وفي الوقت ذاته, الناس يذبحون بعضهم بعضا كأنهم قبائل همجية. في وسط اوروبا وفي العالم كله ترى اوبئة لا احد يقدر على ايقافها, وفي الوقت نفسه ثمة جشع, ترى المخدرات تحولت الى كبرى الصناعات, لا حد يمنعها, وهي منتشرة في العالم الغني والفقير... اين العقل في العالم؟ ترى كل الاحقاد, ما من بلد متعدد عرقيا او دينيا الا وتسكنه الصراعات, دموية احيانا واحيانا في طريقها الى الدموية, هذا هو الجو الذي كتبت فيه القصة.

جو ابعد من علاقة المرأة بالرجل؟

المرأة اخذتها مثلا, لانه من الممكن ان يكون الخطر الاكبر هو التلاعب بالجينات. اذا ما اراد احد ما ان يتلاعب وقال هذه هي طريقة تخفيض الشعوب المزعجة؟ لنعطهم ما يريدون من اولاد ذكور ثم بعد عشرين سنة يزولون كليا؟ الرواية هي كاريكاتورية الى حد ما, ولكن هذا ممكن الحدوث. اردت الكتاب صرخة انذار لانني لست مطمئنا. العالم يصغر وفي الوقت نفسة يتفكك. الناس يقتربون من بعضهم... ما تفعله في باريس يحدث في كل انحاء العالم, السيجارة نفسها, التلفزيون نفسه, الشيء نفسه في كل العالم, وفي الوقت ذاته الفروقات تتسع. علاقة الناس, مستوى قبولهم لبعضهم البعض لا يتحسن وانما يتراجع. مثلا الهجرة من بلد الى بلد تزداد. والقبول للهجرة يتراجع مع الايام. وليس هناك من امكانية تبشر بعدم زيادة الهجرة من الجنوب الى الشمال, ومن الشرق الى الغرب. وفي الوقت نفسه ثمة عقلية سائدة حاليا تشعر ان الهجرة مشكلة اجتماعية – سياسية. لو كان الامتزاج مقبولا لكان الامر جميلا. ولو رافق الرفض تراجع في الهجرة لكان الامر نصف مصيبة, ولكننا نعيش مع بعضنا البعض. مع الشعور بالرفض, شيء مقلق هذه الفكرة.

طرحت سؤالا في البدء, من وحي القصة وهو الغاء المرأة او حصرها في اطار العلاقة الجنسية فقط او وأدها مجازيا؟

نظرة من هذا النوع نظرة مدمرة. مشكلة مجتمعنا هي بعدم اعطاء المرأة دورها, ومعاملتها كقاصرة ولو كانت في الخمسين من العمر, قاصر لانها تحتاج دائما الى وصي. واتصور ان عددا كبيرا من الرجل يمارسون سلطتهم على المرأة لانه لا سلطة لهم في المجتمع.

يتبدى جليا في "ليون الافريقي" و "حدائق النور" انفتاح الشخصيات الاولى على الاديان وتقبلها الرحب للآخر المختلف؟

هذا هو الجميل في الشخصيات, فماني قال لأتباعه: تعالوا الي دون ان تتركوا اديانكم, بإمكانك ان تكون بوذيا ومانويا, مسيحيا ومانويا, زرداشتيا ومانويا معا. وهذه نقطة اساسية. نحن نقول باستمرار: من انت؟ من اي بلد؟ ما لغتك؟

ممنوع تعدد الانتماء؟

تماما... انا اقول ان الانسان مركز لقاء, لقاء لغات عدة, وحضارات عدة وديانات عدة. حتى كان الشخص مقتنعا بديانة معينة فهو خاضع لكل انواع التأثيرات الآتية من ألف صوب. بالتالي اعتقد ان مشكلة انتمائي مشكلة محورية تحكي عن مرحلة, وما دام التركيز الآن على الانتماء الضيق, المحصور, وعلى رفض تعدد الانتماءات فاننا ذاهبون الى مزيد من الاحقاد, ومزيد من الدم والحروب. حين نقتنع ان واجب كل انسان ان يقول انا مركز لقاء لألف نفوذ وتأثير حضاري ولغوي, ساعتئذ ننظر الى الانسان بشكل مختلف. ساعتئذ لا يعود يقول احد لاحد من انت؟ اعتقد ان الانتماء مسألة جوهرية في اواخر هذا القرن. وصلنا الى وقت الاتجاه العام فيه هو الصاق كل انسان بانتماء واحد, وحصره في اناء واحد, هذا يحول العالم الى قبائل. وكل واحد ينتصر لقبيلته. هذه مشكلة. قناعتي هي عدم الاكتفاء بانتماء واحد, عندي انتماءات متعددة.

مثل ابن عربي؟

بالضبط في اي حال, الجو العام الآن هو الاتجاه نحو الانتماء الواحد. هذه هي المشكلة المحورية في نظري. يقول ماني, بخلاف ذلك: ممكن ان يأتي الى الانسان مع معتقداته.

لا يطلب اذا من الآخر محو ذاكرته؟

بل يحملها كإغناء لشخصيته, وليس لفتح معركة مع الآخرين. ثمة عدم وعي لهذا الموضوع. انا ارفض الانتماء الواحد, لي مئة انتماء. ربما قرأت شيئا لأبي حيان التوحيدي يعجبني اكثر من القديس بولس. ألست حرا؟ الانفتاح قياس حضارة نشطة, واثقة من نفسها. والانغلاق دليل ضعف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق