قبل زمن الانترنت، وقبل اكتشاف خيراته العلمية، كنت في مطلع علاقتي بالقلم، كنت اخصص كل يوم، وقتا للكتابة. لم اكن اعرف ماذا اكتب، كنت اريد ان اكتب، ولكن لا افكار في راسي. من اين أجيء بالأفكار، وانا مجرد ولد افتكر بياض الورق ملعب كرة قدم.
كانت الورقة بيضاء، تثيرني نقاوتها، وكنت كالعاجز أمام براءتها وأمام بياضها البضّ.
فانا لست شاعرا، ولست روائيا، ولست شيئا، مجرد شخص صغير يرغب بالكتابة.
كانت اوراقي البيضاء هي تقويمي الشخصي، هي ذاكرتي اللدنة، الطريّة ( اعتبر فعل التذكر طقسا من طقوس العبور من الطفولة إلى عالم آخر، لا انسى أوّل مرّة سمعت بها ولدي الصغير يقول لي: بتتذكّر يا بابا وقت كذا…، هنا، باغتني ولدي، قلت له : والله كبرت يا حبيبي وصار عندك ذكريات!)
حيث لا كلمة تحت تاريخ معين، فكأنّه يوم لم يدخل حياتي. يوم ولد وعاش ومات وكأنّه لا ولد لا عاش ولا مات. هو والعدم سيّان. امتلأ مسار عمري بالورق والدفاتر. صار، مع الوقت، أشبه بمغارة علي بابا. أيامي بأغلبها في هذه المغارة، غضبي، فرحي، حزني، اخفاقاتي، نجاحاتي، آرائي، طيشي، نزقي. كنت حين أدخل الى طقس الكتابة كمن يدخل الى الحمّام، عاريا، ردائي مدادي.لا احب ان يراني أحد متلبساً بالكتابة. كنت أخجل أن أكتب أمام الملأ، كمن يخجل أن يستحمّ في حمّام، جدرانه من زجاج شفّاف. ألهذا السبب كنت أختار دفاتر لون غلافها أسود اللون؟ ربما، لست أدري! سيميائيّاً، الألوان نمّامة، تحكي، تفضح، وتخدع أحياناً!
اريد ان اكتب، كنت، ولكن الخواطر شحيحة، كنت احيانا اكتب كلمات بسيطة ليس لي فيها اي فضل. كأنْ اكتب: "انا اليوم اقرا في كتاب الايام لطه حسين، قرأت خمسين صفحة". كان رأس القلم كأنّه عين كاميرا تلقط لحظات او تعصر ساعات في لحظة. " اليوم ذهبت الى السينما ، وشاهدت فيلم كذا"، المهم ان اكتب، أن أمارس هذه اللعبة.
كنت اريد بناء علاقة حميمة بيني وبين القلم، ولهذا كنت كثير التروي في اختيار القلم والدفتر. فهذا القلم لا يتلاءم مع أصابعي، وهذا قلم يتأفف من لونه بصري، وهكذا. كانت كلماتي تتمرّد على نوع من الأقلام، تحرن، فأعرف ان هذا القلم عدو لي. فاتركه غير آسف على ثمنه. وكذلك الأمر مع الدفتر، هناك دفتر، غير بشوش، أتخيّله يعبس في وجه كلماتي، وهذا دفتر ودود، حنون، يفتح ذراعيه الورقيتين لكلماتي البسيطة، الخجولة. ( لا أزال إلى اليوم أخجل من كلماتي، لا أعرف السبب) فهما، في أي حال، أي القلم والدفتر، ليسا مجرد اداتين أو وسيطين حياديين، انما اصدقاء. وقل لي من تعاشر اقل لك من انت، لهذا كنت اعاشر دفاتر معينة، واقلاما معينة.
لن اطيل المقدمة او الاسترسال، فقد أعود إلى هذه المسألة مرّة أخرى، ولكن كل ما سبق هو تمهيد لشبب اختيار عنوان هذه التدوينة.
سألتني مرّة صديقة، قبل دخولي الجامعة، وماذا تكتب؟ قلت: لها: أدوّن نفسي على الورق.هذا كان شعوري وأنا أكتب، حتى المقالات التي تغيب فيها نفسي تكون شديدة الحضور، ولكن متوارية خلف موضوعية متخيّلة، او خلف حكاية، أو مثل. ربّما خجلي يمنعني من ارتكاب " الذاتيّة" إلاّ سهواً.
وحين تعرفت الى المدونة، لم اشعر كثيرا بالغربة.إذ ان الفة اصابعي مع ملامس الطابعة كانت حتى قبل ولادة الانترنت، والكمبيوتر، أو قبل وصول الكمبيوتر الى متناول حواسّ الناس.ولسبب بسيط آخر، لغويّ، ان بين تدويني والمدونة ، صلة لغوية ما.
ترى لو لم يختر الكتّاب مصطلح "مدونة" هل كنت شأشعر بنفس صلة القرابة هذه؟ لست أدري. ولكن الأنسان أسير المفردات، وانا كعربي لا يمكنني ان لا أؤمن بصلة الأرحام بين الكلمات، ولا يخطر ببالي أن أقطع الأرحام، قطع الأرحام إسلاميّاً وكونفوشيّاً يجلب غضب السماء.
قرأت مرة ان كونفوشيوس كان لا يعبر امكنة معينة، يحرّم على نفسه الدخول اليها ليست لأنها غير جميلة وانما لأنها تحمل اسماء غير جميلة.الأسماء أشبه ببشَرة الأشياء. لا يتخيّل المرء العلاقة بين الجلد واللحم، انهما على تماس حميم، وكذلك العلاقة بين جلد الاسم ولحم المسمّى.
وجذر "دون " غيرالعربي بالأساس، وهو ضيف عزيز من اللغة الفارسيّة ، كان له ، فيما بعد ولا يزال، شأن عالمي، إذ خرج من جلده الفارسي ثم اكتسى جلداً آخر، تركيا وفارسيا وووو… وولج الى اعماق النفس عبر" DIVAN" الطبيب النفسي. وصار بمثابة الجلد والشغاف.
وأنا إلى اليوم لا أزال ادوّن نفسي ولكن على شاشة ضوئية. تحررت كلماتي من خطّي ولكنها نالت حرية أكبر، كبسة زر تغيّر لونها، او قامتها، أو ثيابها. استعادت الكلمة مع الطباعة الالكترونية حقيقتها الصوتية الأولى، حقيقتها الفيزيائية فصار الضوء كوسيطها الأول " الهواء"، صارت مرنة كالهواء، طيّعة كالهواء.
تغيرت الدنيا، تغير لون الحبر، ولا زلت ادوّن. لأنني إلى اليوم، لا اعرف ماذا اريد ان اكتب. استعين بنفسي لتدوّن نفسها، وما انا الا وسيط" غير امين" لما تقوله لي نفسي.
الأمانة ، في الكتابة، خيانة أدبية. الخيانة، في الكتابة، مسلك أخلاقيّ لا تشوبه شائبة. السلوك المنحرف مع الحرف خدمة تقدّم للحرف. الحرف لا يحبّ الأسر، الحرف بالمعنى العميق للكلمة يشبه الصوت الصيني، سياقه ، لا هو، يكشف عن هويّته الدلالية. من هنا حبّي لهذه اللغة التي وفدت إليّ كنسمة تردّ الروح، أي مفردة صينيّة بمعزل عن سياقها يستحيل كتابتها، كلّ صوت خيانة للأذن.
الخيانة إخلاص، ومن لا يمارس الخيانة على الورق؟
اليس كل تركيب جديد هو خيانة لتركيب قديم؟
حتى قصائد رابعة العدوية في حب الذات الإلهية خيانة لكل الشعر الصوفي قبلها، لأنها تعرف أن تخون بشرف لغويّ يدوّن نفسها وأشواقها.
كل كاتب خائن حتى ولو كان ناسكا في خروبه؟ ( من وحي ناسك الخروب ميخائيل نعيمة)
الكتابة لا تحب الإخلاص، تعشق الخيانة، والقارىء لا يحب الا الخونة من الكتّاب، ولا يحي ان يقرأ الا الكتاب الخائن.
الم يكن كتاب " مارسيل بروست" خيانة لنمط الكتابة من قبل، وخيانة حتى لذاكرته التي كانت تملي له املاء ما يريد ان يدوّن.
حتى عدسة الكاميرا تخون، جمال الصور ينبع من مياه الخيانة الجوفية للعين.
ان كان من صدق في الكتابة، فهو صدق الخيانة.الصدق في الخيانة، ان يكون الكاتب مخلصا لخيانته للغة وهو يستعير منها مفردات ليست له، وتعابير ليست له. اليس هذا ما تقصده جوليا كريستيفا في مصطلحها الجميل "التناصّ"؟ او "intertextualite"؟
الكتابة ، في الأخير، خطيئة، خطيئة غير مميتة، الخطيئة المميتة الوحيدة في الكتابة، حين لا تكون انت انت.حين تكون انت غيرك. لا تكون حبرا على ورق، تكون ورقا خاليا من الحبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق