الخميس، 16 أبريل 2020

دراسة اللغة الصينية

لماذا اتعلم الصينية؟
يسألني من يعرف اني منغمس في تعلم لغة صعبة، في نظر اغلب الناس، بل مستحيل تعلمها، في نظر البعض. وان كان المستحيل مشكوكا فيه.
لا اتعلمها لأني اريد ممارسة التجارة، فوضعي الاقتصادي الى الان مقبول، وعمري ( في الخمسين) لا يسمح لي بالبدء من جديد.
لا اعرف متى بدأ اهتمامي باللغة الصينية ولا متى بدأ اهتمامي بالحضارة الصينية على وجه التأكيد.
كانت علاقتي مثل علاقة كثيرين غيري من جيلي مع افلام " الكاراتيه" التي كانت تملأ أعصابنا وجسدنا بقوة ليست فيها، كانت تغذي ضعفنا وفانتاسمات القوة في خيالنا على ما اتصور.
يخطر ببالي الان دراسة ولع الشباب في ذلك الوقت بافلام الكاراتيه. هل ثمة سبب يعود الى الواقع الاجتماعي الذي يعيشه العربي من انكسار عسكري ماحق امام اسرائيل في ذلك الوقت؟ هل سبب ولع الشباب في ذلك الوقت بافلام الكاراتيه هو التماهي مع القوي الذي بلغ فيه " بروس لي" مرتبة الرمز؟
لست ادري. اكتب ما ينداح في الذاكرة وامتاح منه بلا رقابة.
ثمة امور يقوم بها المرء وهو لا يشعر باسبابها الدفينة، ولا يطرح على نفسه اسئلة ذات علاقة بالدفين، المطمور، الغائب، الغارب. سلوكه هو أجوبة عن أسئلة لا تطرح. لم تطرح. أليس من المفيد طرح الاسئلة على الأجوبة الجاهزة؟ طبعا قد تصدم الأسئلة شيئا ما، انها تشبه في نظر البعض نصائح تسدى الى من فارق الحياة.
انا مؤمن بأن الانسان يريد، والاقدار تريد، تتصارع الارادات، قد تقتنع ارادات الاقدار برغبتك، فتسلمك زمام امرك.
متى تعرف ان الاقدار اقتنعت بما تريد، حين تيسّر لك امرك، حين لا تعاندك.
هل كان هذا شأني مع الصينية؟
ربما!
حين كانت اللغة في متناولي الى حد بعيد، لم يخطر ببالي ان ادرسها، كانت على بعد خطوات، خطوات معدودة، ولا اقول ذلك من باب المجاز.
كنت في باريس، عشت حوال اثنتي عشرة سنة، قضيت اغلبها في نهل العلم، لم اكن افكر في مادة، ولم احلم بما يعيقني عن العلم، بين العلم والمال، أميل دون ادنى تردد إلى جانب العلم. كنت اعمل الى الحد الذي يسمح لي هذا العمل بممارسة العلم، قراءة، كتابة، استزادة تحصيل علمي، اكتساب معارف لا تدخل مباشرة في باب تخصصي، وهو اللغة العربية.
ذهبت ذات يوم، في باريس، الى معهد اللغات الشرقية، للتسجيل في قسم اللغة اليابانية، كنت اريد ان ازيل الغبار اللغوي عن ذهني. فهذه اللغة التي لا تعرف كيف تتعامل مع حروفها يشدني اليها، ثم نهضتها العظيمة، كانت تثير دهشتي كما تثير دهشة العالم، وصلت ، فيما يبدو، متأخرا، عن موعد التسجيل، كانت الاماكن اليابانية محجوزة كلها. لم اتراجع. كنت اريد تعلم شيء ما اضافي.
في هذه اللحظة، لم تكن الصين حاضرة في ذهني، لسبب لا أعرفه، على دنوها من اليابان. فالتفت الى ما هو بجوار اللغة العربية، رحت الى قسم العبري وتسجلت في القسم العبري. درستها لمدى سنتين، كان عملي وتحضيري للدكتوراه، لا يسمح لي بالمواظبة المستمرة، ولكن عشت مع العبرية اياما خصبة، وجميلة، لأنني كنت اكتشف وانا ادرس العبرية لغتي العربية.
وقلت: ان العبرية هي لاوعي اللغة العربية. ما يدلف الى اللاوعي العربي يمكن ان تقطفه من الوعي العبري. وهنا اتكلم بمسائل لغوية محض.
عدت الى لبنان، وكانت علاقتي بالصينية مغمورة في رغبات مستقبلية. كنت اكتب في جريدة الشرق الأوسط، مراجعات كتب، كنت انتقي الكتاب، المثير، المثير فكريا، الذي يعلمني اشياء لم اكن اعرفها، سواء في مجال اللغة، او اي مجال آخر، وكنت اقف امام كتب فرنسية عن الصين واكتب عنها، ومن هنا بدأ وعيي يتفتح على اللغة الصينية.
وصرت اكرس الكثير من وقتي لمعرفة هذه الحضارة، ديانات، أدب، شعر، حكماء، وكنت في كل يوم ازداد تعلقا بهذا الشعب. كانت علاقتي مع الصين الماضية، الصين التي لم تعد موجودة الان. اسرة سونغ واسرة تانغ، واسرة الهان. الخ.
شعرت ان الحضارة لا تكفي، او ان معرفة حضارة دون معرفة لغتها امر غير ممكن تماما. تبقى ثغرات كثيرة. ثغرات لا تستطيع ردمها الا باللغة. اللغة مثل جلد الحضارة، بشرتها، تخيل جسدا بلا جلد، هكذا اتخيل معرفتي بحضارة ما ان كنت اجهل لغتها. ورحت اشتغل على الجلد الصيني اذا صح التعبير.
في مكان ما من هذا المقال، قلت ان الاقدار تلبي لك رغباتك، او ما في معناه.
كيف لي ان ادرس الصينية وانا في طرابلس لبنان. ولم يكن في كل لبنان معهد لتعليم اللغة الصينية.
الصين في نظر العالم بضاعة.
الصين في نظري حكمة، افكار، حضارة.
شاءت الأقدار ان لا تعارض رغبتي، بل ان تسهّل لها الدرب. سمعت ذات يوم ان جامعة الجنان في طرابلس احضرت استاذا من الصين لتعليم الصينية في قسم الترجمة.
وصلت اللغة الصينية الى باب بيتي، فهل ثمة تسهيل أكثر؟
كما قامت جامعة الجنان بفتح دورات مكثفة وخاصة لتعليم الصينية خارج الدوام الرسمي، للراغبين، فتسجلت وتابعت مع عدد قليل من الآخرين، بعض زملائي اكتفى بدورة واحدة، البعض انسحب من الدورة الأولى، البعض سجّل اسمه ولم نر وجهه.عشر ساعات اسبوعيا على مدى سنتين ونصف السنة.
كنت اتعلم الصينية لوجه العلم، البعض يتعلمها لاسباب اقتصادية أو تجارية.
ولم يبق الى اليوم الأخير من الدورة الخامسة ، الا انا وزميل آخر لي اسمه عمّار حداد.
لا تزال الى اليوم تواجهني صعاب لغوية، متعددة من طبيعة اللغة نفسها، فنحن ندرس الكتابة المبسطة، ولكن كل المكتوب قبل عام 59 هو بالكتابة المعقدة. وفي تايوان وهونغ كونغ الى اليوم يستعملون الكتابة المعقدة. وهناك كتابة البين يين( أي الكتابة الصوتية بنغماتها الأربعة) ولا بد من اتقانها ايضا ولكنها عكاز لا اكثر للغة الصينية. والعكاز ضروري لمن لا تحمله اقدامه اللغوية الطريّة.
اعرف ان مشواري معها طويل، وطويل جدا، لكنه مشوار يستحق الجهد والمشقة والتعب.
مشوار في حضارة، في فكر. مشوار في امبراطورية الحكمة.
هل قلت لماذا اتعلم الصينية؟
ربما لا!
كل ما اعرفه اني لن اقول: تعلمت اللغة الصينية، وانما أقول :"اتعلم اللغة الصينية"، الفعل الماضي مع الصينية ليس سهلا. تماما كالتعامل مع الماضي نفسه.
ولكن من اسباب تعلمي لها هو ان العرب لا يعرفون شيئا عن الصين، واقصد العرب القدامى، عرفوا الهند، واليونان، والفرس، عرفوا كل الحضارات القديمة الا الحضارة الصينية. تعلمتها لأني اكتشفت ايضا في الحضارة الصينية تسامحاً دينيّا، لا يتصوّره من ينتمي إلى ديانة من الديانات السماوية، حيث التكفير في متناول كل فم!
ما العائق؟ دينيّ ؟ لا أظن!
لو كان العائق الديني سببا لانطبق على الفرس واليونان عبدة الآلهة المتعددة.
هل هو لغويّ؟
ربما
العلاقة العربية مع الصين القديمة تجارية محض.
واكبر خطأ يرتكبه العرب اليوم ان يكتفوا بالمنحى التجاري في العلاقة مع الصين الناهضة اقتصاديا وباندفاعة نحو تبؤء المكانة الاقتصادية الأولى.
على العرب قراءة الصين الروحية، الفكرية، فهي مخزون هائل من الحكمة، حكمة معمّرة، حوالي اربعة آلاف سنة من الحكمة المتواصلة.
من الخطأ الجسيم أن نتعامل مع الصين كما تعاملنا مع اليابان. اكتفينا ببضاعتها ورغبنا عن التعامل مع روحها، فلم نلمس سرّ نهضتها الحقيقية.
للحديث تتمة.
فحديث الصين لا ينتهي، ورحلتي معها لا تزال في البدايات!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق