السرب الطائر
من الممتع أن يتعلّم المرء لغات الآخرين وذلك
ليعرف كيف تتمّ التسميات؟ وكيف تتمّ الاختيارات؟ وما تحمله الأسماء من الدلالات؟
الصوت يخفي الاسم، يعطيك الصوت ويجرّدك من معناه، ولعلّ لهذا السبب تكثر الكتب
التي تتناول معاني الأسماء المتوارية ليس في العربية فقط بل تجد هذا النوع من الكتب
في لغات أخرى، بل قد ترى كتاباً في لغة أجنبية يدرس طريقة التسمية، فعندي كتاب حلو
جدّا بالفرنسية عن تسمية الإنسان العربيّ، وآخر بالفرنسية أيضا عن تسمية الصينيّ. كما أحبّ وأنا أقرأ رواية ما أن أرى الدور الذي
يلعبه الاسم في السرد، وهو دور يستخدم كلّ الأساليب البلاغية لتعزيز صلابة السرد
أو لتشكيل منعطفات السرد. الاسم وهم ربّما، بل هو، عند التعمّق، وهم مراءٍ، ولكن
هل بمكنة الدنيا أن تقوم على قدميها بلا أسماء؟
ولعلّ ولع الصين باختيار الأسماء يبلغ مستوى
عالياً جدّا، فطقوس الأسماء عندهم لها طنّة ورنّة.
مدخلي الاسمي هذا على شرف امرأة صينية بلغت
من النجاح في الأعمال مكانة عالمية، اسمها " تشون في" ويمكن أن يترجم الاسم إلى"
السرب الطائر"، هل أسماؤنا إرهاص بقدر ما؟ وهي امرأة حلّقت عالياً في مجال الأعمال.
انطلقت من الصفر، لا تملك إلاّ أحلامها التي ولدت من رحم القهر والحاجة والعوز.
أعشق أولئك الذين يبدأون من الصفر، يكونون أحراراً من الإرث، والإرث عبء، وكثيراً
ما ناء الورثة بحمل ميراثهم فتراهم يتساقطون، لعلّ للفقر ميزة لا تتوفّر
للأغنياء! هي ميزة الاعتماد على النفس،
حين تمرّ معي حكاية شخصية من هذه الشخصيّات تظلّ قابعة في ذاكرتي، وتطاردني، إلى أن
أحكي عنها أو أكتب عنها. وكتبت عن أكثر من خمسين شخصية وصلت إلى أعلى السلّم بكفاح
مرير، أو بسبب فكرة كانت منعطفاً في مسارهم ومصيرهم، شاهدت بداية فيلما قصيراً لا
تتعدّى مدّته الدقائق العشر، عن امرأة لقبها " ملكة الزجاج"، ولدت في
العام 1970، وبعد خمس سنوات فقدت والدتها، فعانت من اليتم وشظف العيش، كما أن
والدها كان جنديّا فأصيب، قبل مولدها، بعشر سنوات في معركة تسببت بضعف نظره، فراح
يعمل في صنع سلال الخيزران وكراسي الخيزران ليعيل عائلته، ليست هي الوحيدة التي تعيش ظروفا مشابهة من حيث
الفقر ، ولكن من يسيرون على غرارها قلّة، ومن يتمرّدون على واقعهم ذلك النوع من
التمرّد النبيل والذكيّ قلّة. كانت، وهي صغيرة، ترعى البطّ لإضافة مدخول بسيط على
مدخول والدها، ويبدو انها امتازت من أخوتها بشغف المعرفة، فكانت هي الوحيدة التي
دخلت الى المدرسة حتى السادسة عشرة من عمرها، ثمّ تركتها ودخلت ميدان العمل. قد
تحرمك ظروفك من المعرفة ولكن ليس بمقدور أي ظرف أن يحرمك من الأحلام، لا أحد يمكنه
أن يسرق أحلامك منك، أحلامك تخسرها فقط حين تتبرع بها للآخرين، أو حين تسأم منها
فترميها بعيدا. الأحلام لا تخذل أحداً. تحتفظ إحدى معلّماتها بانطباع عنها وهو
أنها كانت "نشيطة وموهوبة". النشاط يبثّ الروح والدم في جسد الأحلام.
بعض الناس يملكون أحلاما مدعية، أحلام كالحمل الكاذب، هذه ليست أحلاما، حتى الأحلام
تحتاج إلى من يغربلها. غادرت " تشون في" وهي في السادسة عشرة من عمرها
بيت ذويها وهاجرت الى بيت خالها لتعمل في المنطقة الاقتصادية في مدينة شن تشن، القرية
التي صارت مدينة عملاقة بفضل رؤية الرئيس الصيني الراحل دنغ شياو بنغ. كانت تنوي
أن تتوظّف في سلك الدولة، وتعيش حياة هادئة، ولكنها عزفت عن ذلك بعد أن وجدت انها
لا تملك الشروط المطلوبة، عمدت إلى العمل في شركة على مقربة من جامعة المدينة لتتمكّن
من متابعة دراستها في أوقات الفراغ، وانتسبت الى الجامعة وصارت تتابع محاضرات في
المحاسبة والاجراءات الجمركية ثمّ نجحت في مادة المحاسبة، كما تعلمت قيادة السيّارة،
ومن الأمور التي ندمت عليها هي انها لم تختر تعلّم اللغة الإنكليزية. وعملت فترة
من الزمن عند ساعاتي حيث كانت تقوم بصقل زجاج الساعات لقاء أجر زهيد لا يتجاوز
الدولار في اليوم، وبعد ثلاثة أشهر تقدمت بطلب استقالة، أثارت صياغة الطلب
اللغويّة رئيس الشركة فعرض عليها الترقية وزيادة الراتب فبقيت في الشركة إلى العام
1993 حيث تعرّضت الشركة للإفلاس. قرّرت بعد ذلك أن تفتح شركتها الخاصة، شركة بسيطة
يساعدها في إدارتها شقيقها وشقيقتها، كانت كلّ مدّخراتها لا تزيد عن ثلاثة آلاف
دوار. كان عملها في معمل الساعات قسم الزجاج قد أكسبها خبرة، ليس خبرة فقط، بل هي
كانت تحاول أن تكتشف عالم الزجاج، قدراته، طاقاته الكامنة. هل يتخيل المرء، اليوم،
حياته من دون المادة الزجاجيّة؟ وراحت تطوّر في قدراتها حتّى توصلت الى صنع الزجاج
المطلوب للهواتف الذكية، وحاسة اللمس كانت نقلة نوعية في عالم الهواتف وشاشات
الحواسيب.
في العام 2003 أسّست شركتها الجديدة المتخصّصة
في صنع الزجاج الذي يعمل على اللمس، وبدأت كبرى الشركات تتعامل معها من قبيل
موتورولا وسامسونغ ونوكيا. وكانت شاشة أوّل أيفون من صنع شركتها في العام 2007،
وكذلك زجاج هواتف الهواوي والسامسونغ.
وصل عدد العاملين في مصانعها إلى تسعين ألف
موظّف يصنعون أكثر من مليار شاشة للهواتف والحواسيب من الزجاج موزعين على أكثر من أربعين
مصنعاً.
تحولت سيرة حياتها إلى نموذج للنجاح. وهي
تلخّص سيرة حياتها في كلمات معدودات: العمل بالنسبة لها، تقول، ليس عملا، إنّه
ترفيه، نوع من التسلية، وتضيف من ناحية ثانية، أّن الرغبة في التعلّم لم تفارقها
لحظة من حياتها تفارقها، فهي تسعى، في كلّ يوم، إلى تعلّم شيء جديد، لتحسين وتجويد
ما تقوم به.
تذكّر أنّ " تْشو تْشْوِن في" هي
التي ساهمت في تحويل إصبعك إلى قلم يكتب على شاشة الهاتف، وهي التي ساهمت في جعل
الزجاج يتعامل بذكاء مع حاسة اللمس، ويفهم لغة اللمس! وقد تكون شاشة حاسوبك أو
هاتفك الذي تقرأ من خلاله هذه الكلمات خارجة من مصانع " تشون في".
تدوينة رائعة جدا ومفيدة
ردحذفأحببت مشاركتك اللطيفة هذه
شكرا لاهتمامك
حذف