قد يولد نصّ ما من مشهد عاديّ، بسيط، مؤلم أو
مفرح، كما نصّ نجيب محفوظ القصير هذا، لمّا رأى طفلاً يبيع الحلوى عند إشارة المرور،
فبكى ثمّ كتب :
"وأحلامُ الأطفالِ قطعة حلوى، وهذا طفلٌ يبيع حُلمه!"
نجيب محفوظ بارع في التقاط لحظات مرئيّة من هذا
القبيل، وإدراجها في نصوصه الكبرى، أو إبقائها منفردةً كخواطر عوابر تشبه تلك التي
كان يلتقطها المصوّر الفرنسيّ ( روبير دوانو Robert Doisneau ) من وراء عدسته البسيطة والأخّاذة.
كان الجاحظ يقول: " المعاني مطروحة في الطريق
يعرفها العجميّ والعربيّ والبدويّ والقرويّ، وإنّما الشأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللفظ،
وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحّة الطبع، وجودة السبك. فإنّما الشعر صناعة، وضرب
من النسج، وجنس من التصوير". وكلام الجاحظ، هنا، يسمح لي أن أجمع بين الكاتب
والمصوّر، بين نجيب محفوظ الذي صوّر القاهرة وعوالمها بقلمه، وبين دوانو الذي صوّرعوالم
باريس بعدسته المبدعة. فالجاحظ لم يغب عن باله (التصوير) وهو يحكي عن المعاني والكتابة
وصياغة الشعر. ولا ننسى عبارة ( "الصورة" الشعريّة).
قد يكون خبر صغير من عدّة سطور في جريدة ضمن
زاوية أخبار متفرقة كنزاً تقع عليه عين أديب متمّكن فيصير رواية. ويقال إنّ غوستاف
فلوبير استوحى من خبر في جريدة قصّة مدام بوفاري. وكثير من الكتّاب عبر مقابلات معهم
يروون فضل الأخبار المتفرقة على إبداعاتهم
وتدفّق خواطرهم. وقد تقع عين مخرج حصيف على
هذه الرواية الخارجة من وحي الخبر فتصير فيلماً أو مسلسلا تلفزيونيا طويلا عريضا، أو
تلفت نظر مخرج مسرحيّ فتصير حياة نابضة تمشي على خشبة مسرح، بل قد لا يكون نواة قصّة ما غير منام خارق
رآه الكاتب في نومه. من أشياء صغيرة تنبثق أحياناً الأعمال الكبيرة. والكتابة لا تختلف، في
أحيان كثيرة، عن بناء مدينة قرطاجة بحسب ما تقوله الأساطير!
ومن طرائف الأخبار المتفرّقة ما كتبه ألبير
كامو في روايته "الغريب" عن قصاصة من جريدة، صارت فقرة من الرواية، سردها
ألبير كامو على لسان بطل الرواية مرسو. وهي الفقرة التالية: " الواقع أنّي
عثرت، ما بين فراشي من القشّ وخشب السرير، على قصاصة جريدة قديمة ملصقة تقريباً بالقماش،
وقد اصفرّ لونها وشفّت. وكانت تسرد حادثاً كانت بدايته ناقصة، ولكن لا بدّ أنّه جرى
في تشيكوسلوفاكيا. إنها قصة رجل غادر قرية تشيكية سعيا وراء الثروة. وبعد خمس وعشرين
سنة عاد غنيا بصحبة زوجة وابن. وكانت أمه تدير فندقا مع اختها في مسقط رأسه، ولكي يفاجئهما.
فإنه ترك زوجته وابنه في مؤسسة أخرى، وقصد أمّه التي لم تستطع أن تتعرف عليه حين دخل
عليها. وعلى سبيل المزاح، خطر له أن يأخذ غرفة في الفندق، فأراها ماله. في الليل قتلته
أمّه وأختها بمطرقة حديدية لتسرقاه، ورمتا بجسمه في النهر. في الصباح ، أقبلت الزوجة،
وكشفت ، من غير أن تعرف بالحادث، عن هوية المسافر، فشنقت الأم نفسها، وألقت الأخت بنفسها
في بئر. كان لا بدّ لي من أن أقرأ هذه القصة آلاف المرّات. لقد كانت، من جهة غير محتملة
الوقوع، وكانت من جهة أخرى طبيعية. وأياً ما كان، فقد كنت أجد أنّ المسافر قد استحقّ
ما أصابه بعض الاستحقاق، وأنّ على المرء ألا يمثّل أبدا". ( الغريب، ترجمة عايدة
مطرجي إدريس ، دار الآداب، ص ١٠٠-١٠١).
لم يكتف ألبير كامو بما ورد على لسان مرسو. ظلّ ذلك
الخبر الفاجع يراوده ويقضّ مضجع أفكاره إذ وجد فيه ضالّته العبثية المنشودة، فلقد
قرأ القصّة آلاف المرّات كما ورد في نصّ "الغريب". كان كامو يعيش في
أجواء الحرب العالمية الثانية، ومن عبث الحرب الحارق نبتت وترعرعت فكرة العبث التي
تناولها في ثلاثيّته ( الغريب، سوء تفاهم، وغاليغولا). وكانت مسرحيته "سوء
تفاهم" هي الامتداد للخبر الذي التقفه من الجريدة، موسّعا فيه، وواضعاً فيه
جوهر فلسفته العبثية الدامية. وصارت هذه المسرحية حمّالة دلالات وأفكار على غرار
الأساطير التي عاشت في كنف التحليل النفسيّ والأدب من قبيل أسطورة نرجس، أو أسطورة
عوليس ( أوليس/ Ulysse)،
أو أسطورة أوديب، أو أسطورة بروميثيوس، أو أسطورة سيزيف الذي كرّس ألبير كامو له كتابا
في فلسفة العبث. فـ"سوء تفاهم" صارت بمثابة صورة عن القدر الأرعن
والعابث الذي لا يمكن إيقافه أو تعديل وجهة سيره. وهناك من يقول ، ربّما، لتبرئة
اميركا إن إلقاءها للقنبلة النووية على اليابان كان وليد "سوء تفاهم" ظهر
من سوء فهم في الترجمة. وهنا أتوقف قليلاً عند كلمة سوء تفاهم الفرنسية malentendu
التي يمكن أن نلعب بمعناها ونحولّها إلى كلمتين
بمعنى مختلف mal entendu ، وكلمة mal الفرنسية تحمل من جملة ما تحمل معنى الشرّ،
وعليه يمكن أن نضمر معنى " الشرّ المسموع (الكلمة)" في تضاعيف معنى سوء
التفاهم!. وفي رقبة "سوء التفاهم" الكثير من الدم بحيث يمكن أن يكتب
المرء " تاريخ سوء التفاهم الدامي" عبر الأزمنة والأمكنة المختلفة وما
خلّفه من منعطفات تاريخيّة حادّة. والقدر يستخدم " سوء التفاهم" كمحبرة
يغمس ريشته في حبرها الأحمر ليكتب سيناريوهات المصائر القانية.
ولقد تلقّفت مسرحية " سوء تفاهم " السينما
العربية أيضاً، فظهر فيلم "المجهول" الذي مثّلته نجلاء فتحي مع عزّت العلايلي وسناء جميل
وعادل أدهم في العام 1884.
ولم تنته قصّة
تلك القصاصة التي التقطها ألبير كامو من خبر عابر في جريدة، وجعلها علامة على عبث
الأقدار والأعمار. فمن يدري ما هو عدد الأفلام والنظريّات التي قد تخرج من رحمها
المنجاب.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق