الملك ميداس |
بين الأسطورة
والتاريخ صلة نسب، وهذا ما تشير إليه كلمة "أسطورة" نفسها في العربيّة.
فثمّة لغويّون عرب يعتبرون أنّ كلمة "أسطورة" ذات جذور دخيلة حتّى ولو
كانت لها، من فرط العشرة والألفة، ملامح عربيّة تخدع العين بسبب شبه جذرها بالجذر
العربيّ " سطر"، وهذا ما يسببّ التباساً قد يقع في شراكه حتّى كبار
اللغويين كما حصل مع العالم اللغويّ الفذّ ابن جنّي الذي ربط كلمة " مِسْك "
بالجذر العربيّ "مَسَك" رغم عدم وجود أيّة قرابة دلاليّة بين الجذرين،
بسبب أنّ المِسْك مفردة وفدت، كما يقول أغلب اللغويّين، من بلاد الهند. وبالنسبة
لكلمة "أسطورة" فهي دخلت منذ زمن قديم إلى العربية عن طريق اللغة الإغريقيّة،
وهي مفردة انتشرت أغصانها في لغات غربية كثيرة وأخذت شكل " histoire" في الفرنسيّة. ولا تخلو، في أيّ حال، الصلة بين
الأسطورة والتاريخ من تلاحم. فأغلب التواريخ الانسانيّة القديمة كانت فاتحتها أسطورةً
من الأساطير. ولكن من حنكة الأسطورة أنّها استطاعت أن تستمرّ على قيد الحياة بعد
تخلّصها من عبء تاريخ بفضل اندساسها في ثياب الرمز. والرمز سيّال، مرن، له ليونة
الأفعى، وله قدرتها، أيضاً، على تبديل جلدها. وهذا ما سمح لفرويد، على سبيل المثال،
أن يستعين بأسطورة أوديب لبناء نظريّته حول منابت العقد النفسية، وهذا ما سمح أيضاً
لكثيرين من شعراء الحداثة أن يتقمّصوا شخصيّاتٍ أسطوريةً مثل أسطورة سيزيف أو
بروميثيوس اللذين يحملان دلالات وارفة.
وكثيرة هي الشخصيات الأسطوريّة التي لا تزال ترافقنا في حياتنا اليومية، فالانسان
كائن لا يتحمّل حياة خلواً من تلاوين الأساطير، ولا يزال المرء ينتج، إلى اليوم، أساطيره
الذاتيّة، وإلاّ ما سبب النجاح الباهر لأفلام ليس لها صلابة الحقائق من أمثال
" الرجل الوطواط"، و "الرجل العنكبوت"، و "الرجل
الطائر"، و "هاري بوتر" و" أفاتار" والتي حققت لشبابيك
التذاكر مداخيل خياليّة؟ من السخف اعتبار أنّ السخف البشريّ وحده هو السبب وراء
نجاح هذه الأفلام الماتعة.
ومن الأساطير التي أتصوّر أنّها لا تزال تصيب كاللوثة بعض الأشخاص، "أسطورة
ميداس" اليونانيّة، وهي تحكي عن ملك كان يعشق الذهب، يموت في امتلاك الذهب.
وهنا أحبّ الإشارة إلى كون الذهب المحبوب والنفيس في عالم اليقظة هو معدن خسيس
وكريه في عالم الأحلام، فمفسّروا المنامات العربية كابن سيرين يستعيذون بالله من
رؤية الذهب لأنّه يحمل دلالة سلبيّة في المنامات، وذلك بسبب ربط اسمه بالجذر
العربي "ذ- ه - ب" الذي يعني الذهاب والأفول والرحيل، بمعنى أنّ الذهب
يحمل في وهجه دلالة الموت، كما يحمل دلالات أخرى في العالم الاسلاميّ، بسبب تحريمه
على الذكور، فهو معدن يخصّ الأنثى، ممّا يعني أنّ التزيّن به هو، بشكل من الأشكال،
انتقاص من الرجولة.
أعود إلى الحكاية اليونانيّة التي تروي سيرة الملك ميداس. كان الملك ميداس
ذا سلطان عظيم، ولكنّه كان يشعر أنّ شيئاً ما ينقصه ليتكرّس كسلطان أوحد ذي قدرات
خارقة فتمنّى ذات يوم لو أنّ الآلهة تمنحة قدرة سحريّة تحوّل كلّ شيء يلمسه بيديه إلى
ذهب، وفيما كان الملك غارقاً في أمانيه الذهبيّة إذ يتنزّل إليه ملاك من السماء،
ويقول له: طبْ نفساً يا ميداس، استُجيبت رغبتك، وسيكون لك ، بدءاً من اليوم، القدرة
على تحويل كلّ ما تلمسه يداك إلى ذهب، ثمّ تلاشى الملاك كما يتلاشى الضباب. طار ميداس من الفرح، وأخيراً سيصير السلطان
الأعظم، والآمر الناهي في هذا العالم، وضع الملك يده على عرشه الأبنوسيّ وما هي
إلاّ لحظات حتّى تحوّل العرش الى قطعة من الذهب الإبريز، وراح ميداس من فرط فرحه
يلمس كلّ قطعة من أثاث بيته وإذ بها تتحوّل تحت عينيه إلى ذهب وهّاج. كلّ شيء في
القصر تحوّل إلى ذهب خالص، حيطان القصر وسلالم القصر وأعمدة القصر الرخاميّة تحوّلت
إلى ذهب. خرج من القصر مبهوراً بقدراته الخارقة، وراح يتجوّل في الحديقة ويلمس الأزهار
والأشجار التي راحت تتحوّل أمام ناظريه الى أشجار من ذهب وأزهار بلون قرص الشمس.
وبينما هو في تجواله إذ بابنته تصل إليه حاملة بيدها وردة من الذهب قائلة
له: ما لهذه الوردة قد أمست يابسة لا حياة فيها ولا جمال؟ لقد ادنيتها من أنفي
لاستنشق رائحتها فشاكتني وآذتني ولم أجد فيها تلك الرائحة الطيبة التي ألفتها. قال
لها والدها ميداس: إنّك واهمة يا حبيبة قلبي، إنّ هذه الوردة أجمل من الوردة التي
ترغبين، هذه وردة لا تعرف الذبول، ولا يقتحم الفناء أوراقها؟ فلما سمعت والدها
صمتت وأطرقت برأسها في الأرض. ثم جاء وقت الطعام، فأحسّ ميداس بالجوع، فصعد مع
ابنته وجلسا إلى المائدة فأمسك ميداس قطعة من الخبز فانقلبت إلى ذهب، ورفع كأساً
ليشرب فتحوّلت الكأس مع الشراب إلى ذهب، فأقبل ميداس نحو ابنته ذاهب العقل، ووضع يده
على شعرها الأسود فانقلب إلى خيوط ذهبية، فرفعت الفتاة صوتها بالعويل وهي ترى
خصلات الذهب تتدّلى من رأسها، ثم وضع الملك يده على جبينها ليسكن روعها فتحوّلت إلى
تمثال ذهبيّ لا حياة فيه، وانقلبت ابتسامتها الفضّيّة إلى ابتسامة صفراء، فنهض
ميداس كمن أصابه مسّ من جنون وأخذ يئنّ من شدّة البؤس والحزن؟ أتكون رغبتي لعنةً عليّ؟ وأمنيتي مصدر منيّتي؟ قال ميداس. وما إنْ حلّ الليل حتّى أتاه الملاك
وخاطبه قائلاً: ألم تقنع بما أوتيت من قوة وسلطان؟ فراح الملك الذي كان يموت في
الذهب يستلطف الملاك أن يأخذ منه هذه المقدرة الملعونة ويعيده إلى سابق عهده. فقال
له الملاك: خذ إناء واغتسل في النهر، ورشّ الماء على الأشياء التي تحوّلت إلى ذهب
ترجع في الحال إلى أصلها، فأخذ الملك الإناء وذهب إلى النهر فاغتسل ثمّ أسرع إلى
ابنته فرشّ عليها الماء لينقذها من براثن الذهب، ثمّ ذهبا إلى الحديقة معاً وراحا
يرشّان الأزهار والأشجار بماء النهر.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق