النسْخ والسلْخ والمسْخ
حين تتغيّر النظرة إلى
الأشياء تتغيّر الأشياء. وحين نكتشف وظيفة جديدة في ما هو قديم نمدّ، بفضل هذه
الوظيفة، في عمره، ونمنحه حياة فتيّة. فالإنسان، غالب الأحيان، لا يكتشف شيئاً
جديدا، وانما يكتشف وظائف أو علائق جديدة للأشياء القديمة.
سأحكي عن نقطة مستوحاة من النظرة النقدية والبلاغية
لناقد عربيّ قديم هو ابن الأثير( 556هـ- 637هـ)، وهو مؤلّف " المثل السائر في
ادب الكاتب والناثر". يعتبر هذا الكتاب من أمّهات كتب النقد والبلاغة في
اللغة العربية. وأعتقد أنه من واجب كلّ متخصّص في شؤون الأدب العربيّ أن يقرأه من
الجلدة إلى الجلدة، وإن كنت أعرف للأسف من هو حائز على إجازة في الأدب العربيّ ولم
يعلق اسم الكاتب او كتابه في ذاكرته أو يطرق سمعه، واكتفى من الإجازة بالـ"كورات".
وليس بالـ"كور" وحده يحيا طالب العلم. ولكن ثمّة فرق جوهري بين من يطلب
العلم وبين من يطلب " شقفة" ورقة اسمها شهادة.
النقطة التي أريد معالجتها هي
"السرقات الأدبيّة" بالمعنى الإيجابي للكلمة. وهناك قول صينيّ ورد في
كتاب الفيلسوف الطاويّ الكبير ليه تزه Lie Zi، يقول فيه: كل الناس يسرقون، ولكن هناك سرقة حلال
وسرقة حرام. ويقصد بالسرقة الحلال، سرقة البيضة من الدجاجة، وسرقة الثمرة من
الشجرة، وسرقة القطرة من المطرة. ومن يتأمّل القول الصيني يجد ان السرقة الحلال! ضرورة
حياتية ، فلا تخلو كلمة من جانب ايجابي مهما تعاظمت سلبياتها، وقد تستخرج الإيجابيّ
من مشتقّات ما هو سلبيّ ، فالـ"عقم" سلبيّ، والـ"يتم" سلبيّ،
ولكن الثعالبيّ استخرج من اليتم ايجابية حين سمّى كتابه الهامّ "يتيمة
الدهر" بل رفع من شأن كتابه حين قرن يتمه بالدهر. وكذلك أمر العقم، حين تحوّل
في عبارة " حليب معقّم" مثلاً الى حامل لمعنى إيجابيّ.
تغيّرت النظرة الى "
السرقات الأدبية" كمصطلح أدبيّ حين نظر اليه من باب " التناصّ intertextualité " أي تفاعل
النصوص وتداخلها. فليس هناك نصّ مقطوع من شجرة مهما بلغ شأنه. والتناصّ لا يكون
فقط ضمن لغة واحدة، بل قد يكون بين مجموعة من اللغات. على سبيل المثال يمكن دراسة
كتاب ألف ليلة وليلة من باب التناصّ، فتذهب الى الشعر الفرنسيّ أو الانكليزيّ أو
الالمانيّ لترى حضور شهرزاد، وقد تذهب الى الرواية الإيطالية " اسم
الوردة" لامبرتو ايكو مثلاً لترى حضور نصّ" ألف ليلة وليلة" في تضاعيفها. والتناصّ ليس بالضرورة ان يكون ضمن
مجال واحد، فيمكنك مثلا دراسة التناصّ بين لوحة ونصّ. وهنا أحيل الى التناصّ
القائم بين الرسم والكلمة في مخطوطات مقامات الحريري عبر منمنمات الواسطيّ. وهناك
كتاب لطيف ألّفه عبد الغفّار مكاوي ونشر في سلسلة عالم المعرفة بعنوان "قصيدة
وصورة"، وهو عن كيف تولد قصيدة من رحم صورة او تولد لوحة من رحم قصيدة؟
الفكرة التي أريد تناولها
هنا، هي: كيف يمكن للمرء أن يستوحي من فكرة "السرقات الأدبية" بحسب
المصطلحات الثلاث التي اعتمدها ابن الأثير في كتابه: "النسخ والسلخ
والمسخ" فكرة في عالم التجارة أو الابتكار أو الإعلان مثلا. الكلمات الثلاث
التي اعتمدها الكاتب تحمل الكثير من المعنى السلبيّ، ولكن ذكرت في البداية ان السلبيّ
يحمل في تضاعيفه جوانب إيجابيّة.
من الظلم ان نحبس العلوم
البلاغيّة في حدود البلاغة، وتحريرها ممكن، بل ان تحريرها من القيود البلاغية
يمنحها حياة جديدة. وكلّ من له إلمام بسيط بالبلاغة يعرف ان من موادّ البلاغة
الاستعارة والتشبيه. الاستعارة من حيث المبدأ تشبيه يقوم على الحذف، حذف بعض اركان
التشبيه، وهذا ما يصعّب لقط معنى الاستعارة البعيدة. الحذف ضرب من ضروب الإيجاز. وكنت
قد شبهت، ذات يوم، الحليب السائل بالإطناب، والحليب المجفّف بالإيجاز! وعلاقة
المآكل باللغة ليست علاقة وافدة أو افتراضية، فكلامها على علاقة ودّية و"
طيّبة " مع الفم واللسان، مستقرّ اللغة. فاللسان هو التسمية التي اختارها
الله سبحانه في قرآنه الكريم للتعبير عن اللغة، وهو مستقرّ حاسّة الذوق أي مستقرّ "
تذوّق" الطعام! وكلمة الفصاحة بحسب علماء اللغة دخلت – في أي حال- عالم
اللسان من باب الحليب!
نعيش اليوم، بشكل من
الأشكال، في زمن التخصّصات العابرة للتخصصات ( transdisciplinaire/
Interdisciplinaire)، او ما نسميه " فتح المسارات
والعلوم" على بعضها البعض، فلم يعد بإمكان العالم اللغوي اليوم ان يقول لا
علاقة لي بالرياضيات، ونحن نعرف ان تشومسكي صاحب أهمّ نظرية نحوية دخل الى بهو اللغة
من باب الرياضيات ، وهناك من اتى الى اللغة من باب البيولوجيا او دلف من باب الجغرافيا
او أروقة الكومبيوتر، وهناك من عبر الى عالم الأصوات اللغوية من باب الفيزياء.
انقل النصّ الذي قاله ابن
الأثير عن أنماط السرقات الأدبية، يقول:
" أما النسخ فهو أخذ اللفظ
والمعنى برمته من غير زيادة عليه مأخوذا ذلك من نسخ الكتاب. أما السلخ فهو أخذ بعض المعنى مأخوذا ذلك من سلخ الجلد الذي
هو بعض الجسم المسلوخ. وأما المسخ فهو إحالة المعنى إلى ما دونه مأخوذا ذلك من
مسخ الآدميين قردة ".
سأكتفي بالكلام على النقطة
الثانية التي يسمّيها ابن الأثير " السلخ"، والسلخ ينقسم في نظره إلى
عدّة ضروب:
فالأول أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه ولا
يكون هو إيّاه، وهذا من أدقّ السرقات مذهباً وأحسنها صورة ولا يأتي إلاّ قليلاً. الضرب
الثاني من السلخ أن يؤخذ المعنى مجرّداً من اللفظ، وذلك ممّا يصعب جدا ولا يكاد
يأتي إلا قليلا ". ثم يعلق عليه بالقول: وهذا
الضرب في سرقات المعاني من أشكلها وأدقّها وأغربها وأبعدها مذهبا، ولا يتفطن له
ويستخرجه من الأشعار إلاّ بعض الخواطر دون بعض.الضرب الثالث من السلخ، وهو أخذ
المعنى ويسير من اللفظ، وذلك من أقبح السرقات وأظهرها شناعة على السارق.الضرب الرابع
من السلخ وهو أن يؤخذ المعنى فيعكس، وذلك حسن يكاد يخرجه حسنه عن حدّ السرقة.الضرب
الخامس من السلخ، وهو أن يؤخذ بعض المعنى.الضرب السادس من السلخ، وهو أن يؤخذ
المعنى فيزاد عليه معنى آخر. الضرب السابع من السلخ، وهو أن يؤخذ المعنى فيكسى عبارة
أحسن من العبارة الأولى ، وهذا هو المحمود الذي يخرج به
حسنه عن باب السرقة.الضرب الثامن من السلخ، وهو أن يؤخذ المعنى ويسبك سبكاً موجزاً،
وذلك من أحسن السرقات لما فيه من الدلالة على بسطة الناظم في القول وسعة باعه في
البلاغة.
الضرب
التاسع من السلخ، وهو أن يكون المعنى عاما فيجعل خاصا أو خاصا فيجعل عامّا، وهو من
السرقات التي يسامح صاحبها.الضرب العاشر من السلخ، وهو زيادة البيان مع المساواة
في المعنى، وذلك بأن يؤخذ المعنى فيضرب له مثال يوضحه. الضرب الحادي عشر من السلخ
وهو اتحاد الطريق واختلاف المقصد ومثاله أن يسلك الشاعران طريقاً واحدة فتخرج بهما
إلى موردين او روضتين، وهناك يتبين فضل أحدهما على الآخر.
مساحة المقال لا تسمح
بالتفصيل، لذا أنهي بالقول: في حال تمّ سحب كلمة المعنى في كلام ابن الأثير ووضع
مكانها أيّ شيء من عالم الأعمال ألا يتغيّر مجال الأعمل عند رجال الأعمال؟ أليس
هناك علاقة ما خفيّة بين مفهوم السلخ ومفهوم الإبداع أو الابتكار والتجديد؟ أليس من الممكن أن يستفيد صاحب صنعة حتّى
ولو كان بيّاع فلافل إذا نظر الى صنعته بعيني ابن الأثير وهو يتكلم على مفهوم
السرقات الأدبية؟
البلاغة، أيضا، بلوغ أهداف!
تعليق وملاحظات وشذرات ورؤوس افكار:
ما لفت نظري ان ابن الأثير ترك دراسة السرقات الأدبية الى الفصل الأخير من كتابه، وهذا دالّ لأن معرفة السرقة تتطلب أدوات كثيرة وقراءات كثيرة وخبرات أيضا كثيرة.
وهنا أشير الى كتابات جبران خليل جبران، فرأي قارئه قبل قراءته لكتاب التوراة لن يكون هو نفسه بعد قراءته للتوراة، اشياء كثيرة من كتابات جبران تجد جذورا لها في التوراة، وقراءتك لجبران قبل قراءتك للأدب الهندي والبوذي لن تكون هي نفسها بعد قراءتك للأدب الهندي المطعّم بالفكر البوذي.
والتناص نوعان: خفيّ ومرئيّ. والخفيّ بالتأكيد يشبه الاستعارة بينما المرئي يماثل التشبيه!
بعد ان كتبت مقالي هذا وهو محدود بعدد كلمات معين لا يمكن تخطيها بسبب حجم الزاوية، وجدت انه يحتاج الى ان يكون بحثا لا مقالا. فكل ضرب من ضروب السلخ يحتاج الى مثال من مجال الاعمال لتوضيحه وتبيان مقاصده، وصل مقالي في الأوّل الى حوالي الفي كلمة، ثم اختصرته الى النصف تقريبا، ولا بدّ ان اعود اليه في تدوينتي لإعطائه حقه من التفصيل.
فهنا لست مضغوطا بالوقت ولا بالحجم.
ولكن وخلال كتابتي له تبيّن لي غزارة ما في الفصل المخصص للسرقات في كتاب المثل السائر.
وأظن ان ما قاله ابن الاثير يمكن ان يكون مادة لرسالة ماجستير ليس في قسم العربيّ وانما في قسم ادارة الاعمال، ولا بدّ من ان يقع ذات يوم نظر احد اساتذة قسم ادارة الاعمال على هذا النص ويدرسة كمادة تجارية وابتكارية ليس في ادارة الاعمال وانما في توليد الاعمال.
عندي يقين في ان الكتب البلاغية والنحوية مواد دسمة لكتابات لا علاقة لها بالادب قدر علاقتها بالحياة اليومية والمنتوجات اليومية.
- والبحث الذي انوي العمل عليه، هو الانطلاق من الشواهد الشعرية التي اعتمدها الكاتب والبحث عن مطابقات لها من عالم الاعمال.
والحقيقة ان الموضوع لم يخطر ببالي الا بعد قراءة كتب عديدة عن التجارة وادارة الاعمالل والتسويق والترويج والاعلان والتفكير بالمقلوب وهو نمط من التفكير بديع جدا، ولكنه بمفرده لا يكفي ، اذ لا بدّ من أن يؤازره نمط ثان وثالث من التفكير، كالتفكير التشعبي، والتفكير بالدمج، والتفكير المقعر. الخ
تعليق وملاحظات وشذرات ورؤوس افكار:
ما لفت نظري ان ابن الأثير ترك دراسة السرقات الأدبية الى الفصل الأخير من كتابه، وهذا دالّ لأن معرفة السرقة تتطلب أدوات كثيرة وقراءات كثيرة وخبرات أيضا كثيرة.
وهنا أشير الى كتابات جبران خليل جبران، فرأي قارئه قبل قراءته لكتاب التوراة لن يكون هو نفسه بعد قراءته للتوراة، اشياء كثيرة من كتابات جبران تجد جذورا لها في التوراة، وقراءتك لجبران قبل قراءتك للأدب الهندي والبوذي لن تكون هي نفسها بعد قراءتك للأدب الهندي المطعّم بالفكر البوذي.
والتناص نوعان: خفيّ ومرئيّ. والخفيّ بالتأكيد يشبه الاستعارة بينما المرئي يماثل التشبيه!
بعد ان كتبت مقالي هذا وهو محدود بعدد كلمات معين لا يمكن تخطيها بسبب حجم الزاوية، وجدت انه يحتاج الى ان يكون بحثا لا مقالا. فكل ضرب من ضروب السلخ يحتاج الى مثال من مجال الاعمال لتوضيحه وتبيان مقاصده، وصل مقالي في الأوّل الى حوالي الفي كلمة، ثم اختصرته الى النصف تقريبا، ولا بدّ ان اعود اليه في تدوينتي لإعطائه حقه من التفصيل.
فهنا لست مضغوطا بالوقت ولا بالحجم.
ولكن وخلال كتابتي له تبيّن لي غزارة ما في الفصل المخصص للسرقات في كتاب المثل السائر.
وأظن ان ما قاله ابن الاثير يمكن ان يكون مادة لرسالة ماجستير ليس في قسم العربيّ وانما في قسم ادارة الاعمال، ولا بدّ من ان يقع ذات يوم نظر احد اساتذة قسم ادارة الاعمال على هذا النص ويدرسة كمادة تجارية وابتكارية ليس في ادارة الاعمال وانما في توليد الاعمال.
عندي يقين في ان الكتب البلاغية والنحوية مواد دسمة لكتابات لا علاقة لها بالادب قدر علاقتها بالحياة اليومية والمنتوجات اليومية.
- والبحث الذي انوي العمل عليه، هو الانطلاق من الشواهد الشعرية التي اعتمدها الكاتب والبحث عن مطابقات لها من عالم الاعمال.
والحقيقة ان الموضوع لم يخطر ببالي الا بعد قراءة كتب عديدة عن التجارة وادارة الاعمالل والتسويق والترويج والاعلان والتفكير بالمقلوب وهو نمط من التفكير بديع جدا، ولكنه بمفرده لا يكفي ، اذ لا بدّ من أن يؤازره نمط ثان وثالث من التفكير، كالتفكير التشعبي، والتفكير بالدمج، والتفكير المقعر. الخ
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق