لا أحد يعرف ما في أرحام أبجديات اللغات من كلمات الاّ
الله. ومن يتأمّل الكلمات لا يجدها تختلف كبير اختلاف عن أرحام النساء من حيث
احتفاظها بالأسرار. ايّ امرأة تعرف ماذا يخبىء لها رحمها من أفراح أو أحزان قبل
الزواج أو عدد الأولاد؟
هكذا اللغة ، لا احد يمكنه ادّعاء انّه يعرف عدد كلمات
لغة ما. هذا ما خطر ببالي يوم فتحت صفحة على الفايسبوك عام 2010. من يكتب على
تويتر نصّا صغيرا يسميه " تغريدة" ، وهي ترجمة كلمة " Tweet"، ولكن ماذا نسمّي النصّ
الصغير المكتوب على صفحة الفايسبوك؟ خطر ببالي ان اسميه " فَسْبوكَة"
بهذه الصيغة العربية الشائعة، واقترحت ان يكون فعل الكتابة على الفايسبوك هو
" الفسبكة".
وما دفعني الى تجديد النظر في نصي عن "
الفسبكة" هو صدور كتابين: الاوّل للصحافيّ والكاتب رامي الأمين، الذي الف
كتابا سماه "معشر الفسابكة "، والعنوان فيه الكثير من التضاد بين أوّله
وآخره، فكلمة "معشر" عربية قحّ تحيل الى العشيرة بينما كلمة " الفسابكة " التي استلها
من الكلمة الأجنبية المركبة وأعطاها ملامح عربية، وهو كتاب لطيف الحجم ولطيف
المعشر، ومنذ ايام قليلة صدر كتاب جليل لأحمد بيضون وهو كاتب له باع طويل في المعرفة
اللغوية وغير اللغوية، واختار لكتابه اسم " دفتر الفسبكة"، وفرحت
بالعنوان لأنّه يصبّ في النصّ الذي كنت قد كتبته عن احتمال انتشار كلمة "
فسبكة"، والكلمة في العنوان تشبه الجالس في الصفوف الامامية!
وأبدأ بسرد النص الذي كتبته وبقيّ طيّ مدونتي، وهو
بعنوان:
فسبك،
يُفَسْبِكُ، فَسْبَكَةً
نستعمل
" فكّس" لمن يرسل (fax )، رحم الله أيّامه، ونستعمل كلمات كثيرة حروفها
ليست عربية الأم والأب مثل كلمة " تلفون " التي أنتجت فعل "
تلفن، يتلفن …إلخ" من “téléphone”. ولا ننسى كلمة
"فلسفة" التي جاءت إلى لغة الضاد من اللغة اليونانية، وللعرب القدامى
حكمة لغوية براغماتية تقول: " ما قيس على كلام العرب فهو من كلام
العرب". ومن هذه الحكمة اللغوية
الحصيفة أدخل الى كلمة " فايس بوك" التي دخلت بزخم الى حياتنتا
الاجتماعية الافتراضيّة ، بل ذهب البعض الى أنّ " ربيعنا العربيّ"
الراحل كان ابن الفايسبوك الشرعيّ او غير الشرعيّ بحسب وجهات النظر. فهل من فرق
بين صيغة "دحرج" و" فَسْبَكَ "؟ أوليس فعل
"فَسْبَكَ" من وزن فعل "حوقل" ( أي قال لا حول ولا قوّة إلا
بالله) أو "حمدل" أي قال ( الحمد لله) و" بسمل" أي قال بسم
الله؟
.
من
هنا، خطر ببالي إطلاق هذا الفعل "فَسْبَكَ" ومشتقاته: فسبك، يُفَسْبِكُ،
فَسْبَكَةً، أُفَسْبِكُ، نُفَسْبِك، يُفَسْبِكون، مُفَسْبِكٌ… وفسبوكة إلخ على
مستخدم الـ "face book"، هل يلقى رواجا، أنا مؤمن بأن الاعمار بيد الله، نادرة هي
الكلمات التي تنتحر، وحياة الكلمات كحياة الناس، منهم من يموت وهو في بطن أمه، ومنهم
من يعمّر إلى أرذل العمر، ومنهم من يمون في عزّ الشباب. لا أحد يستطيع أن يحدّد لا
متى يولد ولا متى يموت، وهذا هو شأن الكلمات تماما.
ولهذا
الفعل ميزة تحوله إلى الصيغة العامية بسهولة فليس فيه أحرف عربية ميتة كحرف الظاء
مثلاً أو حرف الثاء، فمن السهل أن أقول: عَمْ فَسْبِكْ" أو " حَ فَسْبِكْلَكْ"…
أو" فسبك لي فسبوكة" وفي العامية " فَسْبِكْلي فَسْبُوكي"،
كما قرأت على الانترنت من استعمل "المفسبكون" على الذين يستخدمون "
الفايس بوك ". وأنا من المؤمنين أن من سوف يحدّد مصائر الكلمات هو الانترنت
لا مجامع اللغة إلاّ إذا انصاعت لأمر الانترنت، وراحت ترصد حركة الكلمات على مواقع
البحث كـ"غوغل" وغيره من المواقع، من جهة، وراحت تفتح أبواب المعاجم
وشبابيكها على المستطرف والمستجدّ، من جهة أخرى. فمعاجمنا كسولة وجبانة وتمشي على
بيض في زمن السرعةُ فيه هي التي تحدّد مواقع الشعوب على خارطة الحضارة.
وعليه،
فإنني لست أكثر من "طبيب نسائيّ" أخرج هذه المفردة بصياغتها العربية من
رحم “face book”، وحاول " تعريبها " لا ترجمتها، أمّا حياتها فهي بيد
مستعمليها ومربّيها، بل، بالأحرى، بأفواه مستعمليها وناطقيها.
كلّ
ما أرجوه هو أن " تُفَسْبكوا " لي رأيكم ، مؤيّداً أو مفنّداً،
فالـ"مُفَسْبِكون " يساهمون ، من غير أن يدروا، في توليد كلمات جديدة
تخرج من كبسات أصابعهم على لوحات مفاتيحهم الإلكترونية.
وكلّ
" فَسْبَكَةٍ " وأنتم بخير. كما أرجو أن لا تعتبر " فسبوكتي"
هذه من قبيل الهزل.
الكتاب الورقيّ
والكتاب الرقميّ
يوم توقيع كتابي الورقيّ " لعنة بابل" في مركز
الصفدي الثقافيّ منذ أشهر، سألني الإعلامي منذر مرعبي مقدّم برنامج "مرايا
الشمال" على "تلفزيون لبنان" عن شعوري أمام موجة التكنولوجيا التي تبلّل
الكتاب الورقيّ وتبلبل حضوره، فقلت له ما يلي: في حال خيّرت بين الكتاب الورقيّ والكتاب
الرقميّ أختار الرقميّ دون تردّد، رغم ان كتابي ورقيّ لا رقميّ.
باغته قليلاً جوابي، ولكني قلت قناعتي. وقلت ما قلت رغم علم
من يعرفني بولعي الشديد بالكتاب الورقي بل عشقي له، وإدماني على اقتنائه وفلفشة أوراقه.
ولكني لست من هواة الحنين الى الماضي ، بل انا من هواة الحنين
الى المستقبل. ولا إكراه في الحنين.
والسبب هو أنّ علاقتي مع الكتاب ليست علاقة مع الورق والحبر
وانّما علاقة مع المقروء، والمقروء لا يحبس في حامل واحد، يمتعني أن أقرأ ما يكتب
على الحيطان، وعلى زجاج السيّارات، وعلى الملصقات الإعلانيّة، بل حتّى تمتعني
قراءة النعوات وما يكتب على شواهد القبور!
أحبّ القراءة ، والقراءة طير لا يحطّ على غصن واحد أو
ورقة، أو جلد أو حجر.
احب القراءة، والقراءة نحلة لا تمصّ رحيق زهرة واحدة.
القراءة شيء والكتاب شيء آخر.
وحين نعرف ان الكتاب
وسيلة واحدة من عشرات وسائل القراءة المحتملة تتغيّر علاقتنا مع القراءة.
القراءة قد تكون بالأذن، أليس سماع كتاب منطوق هو قراءة لهذا
الكتاب؟
أيّهما أفضل مثلا، أن تقرأ رواية على الورق أم أن تقرأها
بصوت من كتبها؟
تخيّل نفسك تسمع كتاب مارسيل بروست " البحث عن الزمن
الضائع" بصوته ، ونبرة صوته، ونغمات صوته، وتنويعات صوته؟
ستتغيّر علاقتك بالنصّ حكماً.
ادخل الى موقع " يوتيوب" واقرأ قصيدة لنزار قبّاني
بصوته، هل ستكون القصيدة هي نفسها؟ أليس الصوت مثلا جزءا من روح النصّ؟
أليس الصوت جزءا من المعنى؟
يقولون لي: الكتب الورقيّ حارّ، دافىء.
أجيب: الكتاب الرقميّ أكثر حرارة عمليا، الاّ إذا أردنا
أن نضحك على حاسّة اللمس. ألا " يسخن" الكتاب الرقميّ بين يديك؟ ألا تشعر
بأنفاس الحاسوب الحارة؟
الحاسوب ليس بارداً، ولا أعرف لماذا نريد تشويه سمعته
الحارّة! فهو يمشي على البطارية او الكهرباء بل من فرط حرارته تجد على زاوية منه مخرجاً
أو منفسا أو منفذاً لتسهيل الزفير حتّى لا يسخن زيادة عن اللزوم.
لا تهتمّ كثيرا بالوسيلة المهمّ أن تقرأ.
وأعرف ان الوسائل رسائل! كما قال مارشال ماكلوهان (1911 ـ 1980م). " فيلسوف الميلتيميديا"، مع الاعتذار من كلّ
عشّاق الكتاب الورقفيّ وأنا واحد من معشرهم!
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق