استشارني أحد الطلاّب بخصوص اختيار موضوع لرسالة دكتوراه في الأدب العربيّ ينوي تحضيرها. بحكم معرفتي أنّه على علاقة وطيدة وودّية مع السيجارة، قلت له: اختر موضوعاً طريفاً وجديداً وغير مألوف في التصنيفات العربية الراهنة، وليكنْ "السيجارة في الرواية العربيّة"، ظنّاً منّي أنّ خبرته وتجربته مع السيجارة قد تكون عوناً له على كشف أسرارها النيكوتينيّة والنفسيّة والاجتماعيّة. استغرب اقتراحي، واعتقد أنّني أمزح، أو أستخفّ بمقدرته في البحث العلميّ، ولعلّه ظنّ أيضاً أنّني أسخر منه. نظرات عينيه حسمت الجواب فوراً، إذ اعتبر من السخف تكريس سنوات من العمر في التنقيب والقراءة كرمى لعيني سيجارة، معتقداً أنّ مصير هكذا أطروحة لنْ يكونَ مصيرها أفضل حظّاً من المصير الذي ينتظر أعقاب السجائر، هذا مع استبعاده الكلّي احتمال إيجاد أستاذ يشرف على أطروحة تفوح من كلماتها رائحة النيكوتين.
قد يكون ردّ فعل بعض القرّاء
مشابهاً لردّ فعل الطالب، ولكنّي اعتقد أنّ الموضوع يستحقّ الدرس من منطلق أنّ كلّ
شيء، ما دام جزءاً من الحياة الاجتماعيّة للناس، يستحقّ المعالجة. كلّ شيء دالّ،
يحكي، الكلام لا يخرج فقط من الأفواه. الأشياء كيانات رمزيّة ناطقة بطريقتها
الخاصّة، ونحن "نستنطقها" بحسب المقام. الإنسان يعيش في محيط رمزي،
مجازيّ أكثر ممّا يعيش في محيط "حقيقيّ"، بين المعنى المعجميّ والمعنى
الفعليّ المعاش كمّ من الفروقات الدلالية . أعرف أنّ الموضوع ليس سهلاً لأنّه
يتطلّب قراءة روايات كثيرة ليقمّش الطالب مادّة أطروحته. والتنقيب والحفر في نصوص
الروايات باحثاً عن السيجارة ولوازمها من منفضة، و"بزّ" سيجارة (مبسم)
وبقايا من رماد وأعقاب سجائر، وقدّاحة، أو خيط كبريت. إضافة إلى قراءات متشابكة
تتناول السيجارة من منظور نفسيّ واجتماعيّ ورمزيّ. فهي لا تقوم فقط بإشباع أنفاس
المدمن على نيكوتينها اللعوب. كنت قد قرأت كتاباً بالفرنسيّة عن السيجارة من وجهة
علم النفس، ولفتني تشبيه دخان السيجارة الدافىء الذي يغمر المدخّن برحم الأم!
ولعلّ الفاتن في الغرب هو أنّه لا
يترك قضيّة خارج دائرة اهتماماته الإنسانيّة، لا يستسخف أيّ قضيّة ولا يستخفّ بأيّ
مسألة، بل وقع مرّة بين يديَّ كتاب في الفرنسيّة وهو دراسة لغويّة واجتماعيّة عن
كتابات الطلاّب في حمّامات المدارس خصوصاً أنّها مكان مثاليّ، قبل زمن الانترنت،
وجدران "الفايسبوك" الافتراضيّة، لتفريغ كلّ شيء بما في ذلك الاحتباس
النفسيّ والجنسيّ والسياسيّ. كانت الدراسة شيّقة وعميقة، ولا أنسى بعض ردود
الأفعال المستهجنة لخبريّة حكي الحمّامات منها: أتستحقّ خربشات طلاّب بلا تربية
على جدران الحمّامات عناء البحث والتقصّي والتحليل؟ أو إيجاز الجواب بعبارة
"الجنون فنون".
قلت للطالب: إنّ السيجارة تدخل كلّ
بيت تقريباً، ودخانها لا يترك أنفاً من شرّه، ورائحتها تملأ الأمكنة بل أنّ بعض
الدول تضع قوانين لتقليص نفوذها. ويكفي تأمّل عبارة "ممنوع التدخين"
وأماكن حضورها الطاغي لإدراك ممارسة النبذ والفصل التبغيّ بين الناس وليس الجنسيّ
أو العنصريّ. هنا، الهويّة الجامعة بين الأعراق والأجناس هي "التدخين".
لا أدافع عن السيجارة، بل ألعن
نبتتها الأمريكيّة الماكرة، فلا السُّعال ينكر ضررها القاتل ولا اللهاث المتقطّع،
والكلّ مجمع على أنّ التدخين ضرب من الانتحار البطيء، ولكن ثمّة علماء نفس كرّسوا
للسيجارة جزءاً من أعمارهم وأفكارهم لتفكيك وقراءة مكنونها الرمزيّ. وهي أي نبتة
التبغ كانت في جذورها الهندية الحمراء تُستعمل طقساً دينيّاً شأنها شأن عبق البخور
في بعض المعابد، وكان دخانها الصاعد نحو السماء أشبه بجسر بين السماء والأرض أو
بورقة تحمل رغبات المؤمنين إلى علّيين.
قلت للطالب: يمكن درس السيجارة في
الروايات وعلاقتها بأحوال الشخصيّات وتحوّلاتها وأزماتها، فبعض الروائيّين يلتفت
إلى السيجارة، وبعضهم لا يعيرها أيّ اهتمام، منهم من تقوم السيجارة لديه بوظيفة
"الحشو"، ولكنّها تقوم عند آخرين بوظيفة مجازيّة عالية النبرة تدنو
دلالاتها من "علامات الترقيم" أو مقصّ "المونتاج". كيفيّة
تناول السيجارة في الرواية لن يكون واحداً، فبعضهم يركّز على السيجارة في علاقتها
مع الفم، وآخرون على علاقتها مع المنفضة، والبعض على غيمتها الطالعة من الشفتين،
ومنهم من يستهويه تصوير علاقة أصابع الشخصيّة في مداعبة السيجارة. كلّ هذه، من
منظور علم السيمياء، جمل ٌوتركيبات وضعيّة مختلفة الدلالات، وأردفت قائلاً للطالب:
تخيّل مثلاً حالة امرأة تعود إلى بيتها وترى عقب سيجارة ملطّخة بأحمر الشفاه في
منفضة الصالون أو في غرفة أكثر حميميّة! ثمّ تصوّر ماذا سيكون تأثير هذا الدليل
الحسّيّ الأحمر الفاقع النمّام على مخيّلتها وعلى زوجها؟ خصوصاً إذا كانت شفتا
زوجته ليست على صحبة طيبة مع السيجارة. قد تكون المنفضة فخّاً متعاطفاً مع طرف ضدّ
طرف.
قلت للطالب: يمكن تشعيب الموضوع
وإغناؤه بإدخال كلّ أشكال استهلاك التبغ أو مترادفات التبغ وأكسسواراته ومستويات
المقامات من سيجارة وسيجار وغليون وأركيلة ونُشوق! ( كما في بعض قصص مارون عبّود)
وطقوس استخدامها من قبل الشخصيّات. وتعرض- قلت له- لتفنّن الكتّاب في توظيف
السيجارة من منطلق كلام لغوغول فيما أظنّ يقول فيه: إنّ الإتيان، في رواية، على
ذكر مسمار مغروز في حائط يعني أنّ له وظيفة مؤجّلة في إنماء الأحداث أو تلوينها
وتظليلها وإلاّ فهو حشو مضرّ بعافية السرد.
أشير إلى أنّ المخرجين
السينمائيّين التفتوا إلى السيجارة، ومنحوها حيّزاً لا يستهان به في شرائطهم
المصوّرة، كأنْ يقومَ مخرج بتسليط عدسة الكاميرا على المنفضة وهي فارغة، ثم يغيّر
اللقطة ويعود بعد لحظات إلى المنفضة نفسها وقد امتلأ بطنها بالرماد والأعقاب (
هناك سجائر ينقصف عمرها في عزّ الشباب بحركة عصبية من أصابع المدخّن أي أنّها تموت
ميتة غير طبيعية مثلاً) ليعبّر بذلك عن الحالة النفسيّة للشخصيّة وعن الإحساس
بالوقت الذي قضته هذه الشخصيّة في عزلتها أو كآبتها أو فرحها أي أنّ للمنفضة، هنا،
الوظيفة نفسها التي تقوم بها ساعة الحائط حين تحتلّ حيّز الصورة في مشهدين للتعبير
عن مرور الوقت مع مطابقة أو مفارقة الدلالة بين عقارب الساعة وأعقاب السجائر.
الرماد في المنفضة مثل تراب ساعة الرمل القديمة، هنا "ترمّد" الوقت
والأحداث والشخصيّات. رماد السيجارة وقت في إناء.
لا أعرف هل سيغامر الطالب بكتابة
أطروحة عن السيجارة أمْ أنّه سيقرّر توقيف التدخين لينسى كليّاً موضوعاً قد يكون
مقرّه الطبيعيّ، في رأيه، منفضة السجائر.
ثمّة أناس تغويهم العناوين
الرنّانة، والكلمات الطنّانة، والرنّة ليست في أي عنوان، الرنّة الفعليّة هي في
طريقة تناول هذا الأمر أو ذاك، وتسليط الضوء على ما لا تراه العين العجول أو
الكسول.