في البدء كانت الكلمة،
وفي مبتدإ البدايات كانت التسمية، ولا شيء يعلو على فعل التسمية فهي في جوهر علاقة
الإنسان بالوجود، لأنها قناة الفعل ورد الفعل بين عالمه الداخلي والعوالم الخارجية
من حوله. والاسم الذي هو أداة بيد الإنسان ينجز بواسطتها فعل التعيين في كامل
تفاصيل حياته يُمْسِي – بيد رجل السياسة – الوسيلة المتحتمة التي بها ينجز فعل
"الإدارة" ولا سياسة بلا سلطة، ولا سلطة بلا عزم، ولا عزم بلا
"إرادة".
من شاء أن يدون قصة البلاغة تحت ظلال السياسة أو يتصفح دفاتر السياسة على ضفاف البلاغة لم يكن له غنى عن التأمل مليا في آليات إنتاج الألقاب وأدوات صنع ولكنه - وهو يقلب الأمر على أوجهه – سينتبه جيدا إلى اطراد الناموس اللغوي القاهر: ما تبتكره الألفاظ من دلالة وإيحاء يخبو وهجه بمرور الزمن فيندرج ضمن رصيد اللغة الطبيعي، تماما كما يحدث عند كل مجاز في التعبير: إذا طال عليه الزمن واستقر في التداول اللغوي العام غاب عن المستعملين أنّه مجاز فيغدو حقيقة عرفية جديدة.
فمن ذا الذي إذا سمع كلمة واشنطن تذكر أن الاسم الحقيقي هو(مدينة جورج واشنطن)؟ لا سيما وأن اسم المدينة مع اسم من تتم نسبتها إليه قد تتحقق في نمط آخر من اللغات تعتمد التركيب المزجي كما في إسلاماباد وحيدرباد وكما في لينينغراد أو ستالينغراد قبل أن تقضي تقلبات السياسة بإلغاء الاسمين والعودة إلى التسمية الأولى؟ قصة السياسة مع التسمية ليست جديدة، وشيء غير قليل منها يعود إلى قصة التسمية مع آليات الشهرة، ومعنى الشهرة أن تكف الذات عن كونها ملكا لنفسها لتصبح ملكا مشاعا لدى الناس بحيث يصبح صاحبها "شخصيّة عامة" كما يقال، والنجوميّة هي الدرجة القصوى من الشهرة. ومن مستجدات العصر أن هذه كتلك تصنع صنعا، وتدار لها آليات محددة لإنتاجها، والذي يعنينا من ذاك جله أمران: أن الشهرة تدور قبل كل شيء على الاسم فيتراءى للجميع أن الاسم هو المتقدم على مسماه والأمر الثاني أن مصنع إنتاج الشهرة، وورشة صناعة الإجماع حول الشهرة، لا مادة لهما إلا اللغة.
تبدأ القصة في مجال "عالم الرمز" نعني مجال الفكر والثقافة والإبداع والقناعات الحميمة... فمن قال عميد الأدب العربي لا يحتاج إلى إضافة طه حسين، والذي يتحدث عن أمير الشعراء يستغنى عن ذكر أحمد شوقي. وقد لا يكون الأمر على نفس الدرجة من البداهة – في مجال الجمهور الواسع – لو تحدثت عن علي أحمد سعيد ولم يردفه للتوّ بالاسم الشائع لهذا الشاعر المتمرد أدونيس وهو اسم اختاره بنفسه لنفسه. ولكن المسألة أدق في مجال الفن لأن الشهرة فيه كثيرا ما تكون قرينة اصطلاح جديد يقيم الاسم الفني مقام الاسم المدون في دفاتر الحالة المدنية، وإذا بالاسم الطارئ يلتصق بالمسمى إلى حد التماهي فيوشك أن يلغي أحقية الاسم الشرعي، بل لو تعمّد المتحدث عن بعض المشاهير بإحياء اسمهم الشرعي وتغييب اسمهم الرائج – الذي هو اسم الشهرة بمعنى اسم النجومية – لجانب الصواب وأخل بسلامة التواصل، وقد يتأول الناس موقفه على أساس الاستخفاف بما حقه الإجلال.
لا مجال لدرس موضوع الأسماء والألقاب في عالم السياسة إذن دون استذكار قوانين الشهرة باستدعائها من ميادين الشهرة الفنية بعامة. فكثير من القرائن التي تحكم آليات السياسة إن هي إلا مظاهر تتجلى في الأداء اللغوي العام. فكم من الناس يمكنهم أن يجيبوك – لو سألتهم – عن محمّد عبد الرحمان القدوة الحسيني من يكون ؟ أو عن الذي اسمه محمّد بوخروبة من هو؟ والحال أنك تتحدث إليهم عن شخصين مشهورين لا يمكن لأي عربي أن يقول إني لم أسمع بهما، فالأول هو ياسر عرفات والثاني ما هو إلا هواري أبومدين وكلاهما عرف النضال وخاض غمار مقاومة الاستعمار، وكان لزاما عليه أن يتخذ "اسما حركيا". فالأول اختار لقب (ياسر) وألحق به اسم جدّه، والثاني ألف لنفسه اسما ثنائيا كل طرف من طرفيه هو اسم لأحد الأولياء الصالحين في الجزائر: الولي الهواري والولي أبو مدين. واحتفظ الرئيس الجزائري بالاسم الاصطلاحي لأن المغرب العربي لم يألف التكنية في التنادي الاجتماعي، أمّا في المشرق حيث التخاطب بالكنية علامة على الألفة والود والتصافي فقد تناضد اسم ( ياسر عرفات) مع الكنية فشاع اللقب (أبو عمار) حتى غدا طقسا من طقوس المراسم التراتبيّة في السياسة العربية.
لعلاقة رجل السياسة باللقب الذي يرتديه أطياف تتموج بحسب المزاج والسياق، إذا خرجت الأمور عن إرادته حينا فهي ممسوكة بيده أحيانا أخرى.
فعبد العزيز بوتفليقة لم ينسج على منوال رئيسه هواري بومدين منذ فجر استقلال بلدهما في (1962) ففي حين آثر هذا استبقاء اسمه الحركي والتخلي عن اسم الدفاتر المدنية فضل ذاك استرداد اسمه "الشرعي" – عبد العزيز بوتفليقة – والتخلي عن اسمه الحركي – عبد القادر المالي – حسب ما تخبرنا به جون أفريك (ع 2249 بتاريخ 15 – 02- 2004 ) ولكن رئيس الوزراء في الحكومة العراقية المؤقتة (2005) آثر الارتقاء إلى منازل السياسة على سلم اسمه الحركي إبراهيم الجعفري متخليا عن اسمه الشرعي إبراهيم الأشيقر (الشرق الأوسط: 22-10- 2005) وقد نرى في النعت الثاوي وراء الاسم (الجعفري) ما يكفي لشرح هذا الاختيار.
وللقادة العرب قصة أخرى تتصل بالألقاب التي تتولد من صفتهم أمدنيّة هي أم عسكريّة؟ ففي الغرب تجد الذي تخرّج من المؤسسة العسكري فخورا بانتمائه إليها فشارل دي غول هو أحرص الناس على أن يزدان اسمه بلقب الجنرال حتى ليكاد الاسم إذا اقترن بالصفة أن ينصهرا فيغيب عن وعي الناس أنه مركب من كنية تسبقها الصفة، وهذا ما كان ينطبق أيضا على الماريشال تيتو. أمّا في الأقطار العربية فالساسة ميالون في أغلبهم إلى الانتماء المدني ويكاد الزعيم الليبي أن يكون الاستثناء في هذا الباب، فهو الذي يرتاح جدا إلى لقب العقيد، وبناء على ذلك يسري اللقب على لسان الأجانب بانسياب تام (الكولونال). ولكن أدبيات السياسة احتشدت جمعا من الألقاب المصاحبة، لها سلطة الأعراف دون أن تكون لها سلطة الدفاتر: زعيم الثورة، الأخ العقيد، الأخ القائد، الأخ معمّر، قائد الثورة...وعلى نمط مغاير تمّ التعامل مع الألقاب العسكرية في مصر منذ ثورة (23 – 07 – 1952) فالذين قادوها هم أصحاب رتب عسكرية سموا أنفسهم بالضباط الأحرار فلم يكن لزاما أن يقترن اسمهم بالوسم العسكري، لذلك جرى العرف على افتتاح الاسم بالوسم السياسي: للرئيس جمال عبد الناصر والرئيس أنور السادات والرئيس محمد حسني مبارك، ومن كثرة التداول اشتقت من رحم تلك الصفة صيغة ثانية بدلت بنيتها المقطعية ونبرتها الصوتية في إيقاع تداولي مغاير لإيقاع العربية الفصحى: الرّايّس. وحيث ترسخ الأداء كومضة واسمة اقتفت الصحافة الأجنبية إيقاعه فأصبحت جريدة لوموند ومجلة جون أفريك – وهما من المنابر الإعلامية الرصينة الجادة – تتحدثان بذاك اللقب بإيقاعه ونبرته عن الرئيس المصري مهما كان ( Le Raïs ( .
وتظل بعض المناسبات الرسمية فرصة لأي رئيس مصري يطلع فيها على الناس بالبدلة العسكرية كرمز للانتساب فيها فخر جليّ، ومعلوم أن الانتماء إلى المؤسسة العسكرية قد مثل في مصر تحديدا درجة راقية من علو الشأن في المجتمع وعلو المجد في الدفاع عن الوطن. وهكذا نرى الرئيس محمد حسني مبارك – حين حاورته السي آن آن بمناسبة الذكرى الأولى لأحداث (11-09-2001) – يستدعى ذاكرة الصفات مؤكدا بافتخار أنّه ذو خبرة تامة بالطيران العسكري، ولم يتردد في مصارحة جمهور السي آن آن قائلا (هذه الهجمات التي استهدفت الولايات المتحدة صعبة بعض الشيء على طيارين درسوا في فلوريدا (...) أتكلم بصفتي طيارا فقد قدت طائرات كبيرة جدا، وقدت طائرات مطاردة، أعرف ذلك تماما، وليس الأمر سهلا، لذلك لا أعتقد أنه علينا الاستنتاج بشكل سريع، إذا كانت إدارة بوش قد لفقت الهجوم على البنتاجون لتخفي مشاكل داخلية ألم تحجب كذلك بعض الأمور فيما يتعلق بالهجمات التي استهدفت مركز التجارة العالمي؟ وقد ورد نص الحديث في (أخبار الأدب: 01-09-2002).
في المملكة العربية السعودية قضت الأعراف بأن يطلق على صاحب الأمر لقب الملك، وكانت الملكيات العربية الأخرى تردف هذا اللقب بنعت تمجيدي تضعه في صدراته فيتثنى الوصف (جلالة الملك) ثمّ يأتي الاسم بعد ذلك على البدليّة. والسبب دقيق يدخل ضمن لطائف الشروح، فالقائمون على أمر السياسة في المملكة حريصون على تطبيق المذهب التأويلي بامتثال يستوفي كل أشراط السلامة باتقاء الشبهات، وبناء عليه تعاملوا مع ألفاظ اللغة بصرامة متناهية فلم يستسهلوا التوسل بالمجاز، ولذلك تراهم يتفردون بخصائص في التسمية، فتاريخ 23 سبتمبر هو ذكرى اكتمال توحيد المملكة (1932) ويحتفلون به كل عام ولكنهم لا يسمونه (العيد الوطني) كسائر الشعوب وإنّما (اليوم الوطني) فلا عيد إلاّ ما تمّ التنصيص عليه أنّه عيد، وليس لأمة الإسلام إلا عيدان.
ومن جراء هذه الصرامة في التحري، والامتناع عن التصرف في الألفاظ بالمجاز، تناهوا إلى الحذر الأقصى واستجابوا إلى مظنة الارتياب، فاستجازوا التصرف في الأسماء كما لو أنّهم يشذبونها تطهيرا لها من بعض أدران المظنات. كان الناقد السوري عبد النبي اصطيف أرسل مقالة إلى الكتاب الدوري (علامات في النقد الأدبي) (المجلد 1، الجزء 3، مارس 1992) الذي يصدره النادي الأدبي الثقافي بجدة فإذا باسم الباحث يصبح عند النشر (عبد رب النبي اصطيف) أمّا الشاعر الناقد اللبناني محمّد علي شمس الدين فحين بعث بمقالته "قوّة الصورة وضعف العبارة" إلى جريدة الرياض نشرته له تحت اسم محمّد علي شمس (الرياض: 02-11-2000) ولست تدري ماذا كانت تفعل الجريدة له ورد عليها في بعض موادها الصحفية اسم القرية المصرية (شمس الدين) الواقعة في بني مزار من محافظة المنية.
لم يستعمل أهل المملكة اللفظ الشائع مع اسم الملك وهو (جلالة) في الوقت الذي تجوّزه الناس على مجازات واسعة، فمصطفى أمين كتب منذ زمن بعيد روايته التي يتحدث فيها عن الصحافة من حيث هي سلطة، فألف (في بلاط صاحبة الجلالة) ولما تأسست في الإمارات لأول مرّة جمعية الصحافيين رفع الإعلام شعار "شعلة الحرية في بلاط صاحبة الدلالة" (الاتحاد: 01-10-2000) وخطر للروائي التونسي عبد القادر الحاج نصر أن يكتب إحدى رواياته متخذا دار الإذاعة مسرحا لأحداثها فسمى روايته "صاحبة الدلالة"
(1981).
ولكن حادثة حصلت فأنتجت خصيصة جديدة طالت فعل التسمية، فقد تألب جمع من المتشددين العتاة أوغلوا في مضائق التأويل إلى حد التيه فأقدموا على اقتحام المسجد الحرام وحوّلوه إلى ساحة من الفتنة والاقتتال، وكانوا يلوّحون بأنهم ينتصرون إلى الدين بعد أن وهموا أن أمره قد تاه، فحسم أولو الأمر بمباركة علماء الدين القضية حسما فاصلا في (31-07-1987) انطلق عندئذ مشروع توسعة الحرمين وكان لزاما أن يترتب الخطاب المضاد ردا على المزاعم الواهمة، فأطلق الملك فهد على نفسه – من خلال كل الأجهزة الرسمية – لقب (خادم الحرمين الشريفين)، وبمجرد اعتلاء الملك عبد الله سدة الحكم (03-08-2005) سحبت أجهزة الإعلام السعودية اللقب نفسه عليه بشكل آلي في تواتر تلقائي، فخرج الاسم من دلالة الخصوص إلى دلالة العموم: كان حين أطلق اسما تعيينا للملك فهد بن عبد العزيز فصار لقبا مصاحبا لاسم الملك السعودي كأنما هو من لوازمه. لم تمض أشهر ثلاثة حتى طلع الملك عبد الله على الناس بخطاب جديد كان مداره على المراسم والألقاب، فقد أمرهم بترك ما ألفوه من بعض العادات، أمر بترك تقبيل اليدين، وجعل ذلك وقفا على أيدي الوالدين، وفي ( 29-10-2005) أمر الناس بالتخلي عن الألقاب التي يميلون إلى مخاطبته بها ولا سيما(مولاي) و(جلالة الملك).
لا تنفك قصة السياسة والألقاب تشوق راصدها وتروقه ففيها تقبع من وراء أصواتها ومقاطعها، منهم من ينسدل عليه اللقب كمعطف يهبه إليه الآخرون فيستريح إليه مستشعرا أنّه على مقاسه، وليس من شأن الناس أن يتشككوا إن كان هو الذي أوحى إليهم به أم هم الذين زرعوا في نفسه حبه.
كان لأنور السادات حسّ مرهف بالأسماء، وكان يتوجس من إبحار الدلالات في موج المقاصد المضمرة، وكان لا تتوانى عن التدخل في إيضاح المعاني واستبدال ما يتعين الاستبدال به من الكلمات، فحين وقعت الأحداث الاجتماعية الثائرة على غلاء المعيشة (17- 01-1977) انبرى فعل التسمية سلاحا حادا ينضاف إلى ضغط المظاهرات، وشاع الحديث عنها بأنها انتفاضة الفقراء، وإذا بالرئيس يستغل ما تخللت به تلك الأحداث من سطو على المحلات ونهب لبضائع المتاجر وتهشيم لواجهات المغازات، وإذا به يرسلها صفعة مضادة عن طريق فعل التسمية فيصيح غاضبا (بل هي انتفاضة الحراميّة) ثمّ كان لغضبته تلك نتائج، قرر أن يخرج بعاصمة مصر من القاهرة، وأن يؤسس لها عاصمة أخرى في مكان مّا من أرض الكنانة، فكتب جمال حمدان – ذاك العالم الجليل الذي اختط نهجا في البحث على خط التماسّ بين التاريخ والجغرافيا بتأليفه عن شخصية مصر ولم يمهله القدر – مقالا في الأهرام غيّر به وجهة القرار، ساءل الكاتب أنور السادات بأسلوبه هو فيما مؤداه: أفإن تخلينا أنّنا سنفكك الأهرامات قطعة قطعة كي ننقلها إلى مشارف العاصمة الجديدة ترى كيف سنفعل مع وادي النيل؟ (أورد ذلك مفصلا الأديب يوسف القعيد في حوار له مع الشاعر الملهم أحمد فؤاد نجم على قناة الأحلام: دريم 13-12-2005 ).
ستسعد روح عمر المختار لو بلغه أن الناس أجمعوا بعد موته على تسميته (أسد الصحراء) وان اسمه هذا قد كرسه مصطفى العقاد حين أخرج فيلمه عنه بذات الاسم: عمر المختار أسد الصحراء. (1980) بعد أن أخرج فيلم الرسالة (1976) معتمدا فيهما على شخصية النجم العالمي أنتوني كوين، وقبل أن يسقط تحت أشلاء السقوف المتفجرة في عمان (09-11-2005) دون أن يحقق حلما سينمائيا آخر عن صلاح الدين. وسيسعد الشيخ زايد آل نهيان لو علم أن مناسبة إحياء ذاكراه قد أجْلت له لقبا مضيئا هو (حكيم العرب).
للألقاب سحرها لأنها تختزل الزمن والأحداث، وقد تختزل في الاسم بحروفه المعدودة صفحات من أدبيات الفكر والجدل وربما الصراع، فالعالم الباكستاني عبد القادر خان ألبسوه اسما في مضمّنات دلالته فخر عظيم من جهة وبلاء ليس بعده بلاء من جهة ثانية، قالوا عنه – وقد صدقوا – (أبو القنبلة الذرية الإسلامية). الاسم ليس كمثله مجْلى لمسماه، ولكن الغائب عن الوعي أنه في مجال الشهرة مرآة يجتلي عليها المرء وجوده لا من تتالي الأحقاب حلقة الوصل بين الاسم والمسمى في غفلة عن حقيقة التاريخ، فمن من جموع العرب يتذكر أن أشهر الشعراء في تاريخ أدبنا هو ذاك الذي لا نذكره له ليحملوا به إليه زعما زعمه بعضهم عليه فاستنكف وتغاضى، إنه (المتنبي) هذا الاسم الذي لم يكن اسما له، ولا حتى كنية ينادي بها، بل ما كان أحد يذكره أمامه ولو على سبيل المجاز أو الدعابة. لم يكن له من اسم ولقب وكنية إلا (أو الطيب) وكفى.
مغرية جدا هي قصة الأسماء، وأكثر إغراء منها استقراء تاريخ الثقافة من خلال نشأة الأسماء، ثمّ تطوّرها وتقلبها، على حين انسلاخها أو توالدها. وتزداد اللوحة جاذبية كلما امتزج الأمر بإدارة شؤون الناس لتصريف حياتهم ومعاشهم وصون آمالهم ورؤاهم.
شباب المغرب العربي يتنقل بأزرار التلفاز بين القنوات العربية والقنوات الفرنسية، ومن بين محطاته المحببة إلى ذائقته فضائية فرنسية تسمى نفسها تسمية مختصرة: حرف الميم يليه الرقم 6، فتنطق على السجية (آم سيس = M6 ) وتقدم إلى الشباب منوعات تجمع إلى الإمتاع والترفيه شيئا غير قليل من الإفادة والتثقيف. في (23-07-1999) توفي الحسن الثاني فاعتلى ولي عهده محمّد السادس سدة العرش، وما لبث أن تجاورت معه طبقات الشباب لأنها رأت فيه امتدادا لطموحاتها، وسرعان ما سرت على الألسنة تسمية على غاية من التورية والتجريد، أطلقوا عليه الاسم الاختزالي المشتق من اسمه: (الميم) من محمّد و (ستة) من السادس ونطقوا به بالفرنسية لأنه يتماهى مع اسم تلك الفضائية الشبابية (آم سيس = M6 ) ولم يبق فعل التسمية حبيس الكواليس ولا فضفاضا في أفق الأدبيات، لقد ارتقى إلى منزلة الظاهرة حتى احتضنته الصحافة الرصينة الجادة وجعلته عنوان ملف تحليلي مستفيض بمناسبة مرور خمس سنوات على اعتلاء الملك محمّد السادس سدة الحكم (جون أفريك: 25-07-2004).
من أقدار الكائن البشري أن ألصق شيء به طوال عمره هو اسمه وأن هذا الاسم كثوب يلبسونه إياه ولا رأي له فيه، وربما لهذا السبب غدا السمة الملازمة لهويّة ننشأ عليها قبل أن نعيها أو نختارها، ولئن كانت التسمية حوارا صامتا بين الاسم والذي يختاره ليصنع به فعل التسمية، ثمّ بين الاسم والذي نختاره له ليتسمى به، وبناء على ذلك كانت حوار مع الوجود، فإنها في مجال السياسة تسمي حوارا مع التاريخ، ومن أجل هذا لم تتقيد بزمن النشأة فقد تأتي لاحقة على مواقيت الأحداث.
التسمية في السياسة وصف ناعت يشيع فيطرد ويتواتر حتى يستقر اسما على مسماه. لما شاخت الإمبراطورية العثمانية وهرمت تحت كلكل الزمن والتاريخ شاع عنها أنها كالرجل المريض، وهو تصوير للحالة التي تطور فيها الشيخوخة فيكون الموت منقذا من الهوان. ولكن عملية الإنقاذ قد تتأخر عن موعدها كما يفترضه الحس الأمين. وهكذا تأرجح الاسم، ثمّ لما قضت الإمبراطورية كرسّ خطاب المؤرخين شرعية الاسم، وأصبحت عبارة (الرجل المريض) قرصا مضغوطا فيه كل خزائن التفاصيل التاريخية. إن إطلاق هذا الاسم على مسمّاه كان من باب المجاز ثمّ تحول إلى استعارة بلاغية، وبمرور الأيام تبددت وروائح التخييل، وتبخرت ملامح التشبيه البلاغي، وأصبح الاسم متماهيا مع المسمى، فانقلب المجاز إلى حقيقة عرفية يقال لها حقيقة لغوية جديدة.
الاسم هذا هو في ذاكرة كل البشر، في مشرق الأرض ومغربها لأن الإمبراطورية العثمانية كانت طرفا فاعلا في الصراعات الدولية الكبرى منذ أواخر القرن الثامن عشر إذا تدبرنا مليا بعض أسرار حملة نابليون على مصر. وفي يوم من أيام نهاية القرن العشرين، مع مطلع شهر جانفي – يناير من عام 2000، تنحى رجل الكرملين الأول عن منصبه بتدبير مشترك لم يخل من امتثال أليم، وكان هذا الرجل بوريس يلتسين قد بدت عليه أعراض من الخلل الصحي أخافت كل السياسيين وأهل الشأن الدولي تخصيصا، وكان الأغلب من الأعراض مقترنا بالإدمان، ولم يعد مصير القرارات الكبرى ولاسيما العسكرية منها في أمان، ومن الغد بادرت منابر الإعلام بأقلام المحللين الكبار إلى إطلاق معالم الابتهاج بتنحي هذا الذي أطلقت عليه اسم (الرجل المريض).
إن آليات التلقي في مجال البلاغة السياسية ذات مراتب متناضدة، فالأولى هي التي تتقبلها الجموع الغالبة فتقف بها عند الصور الغربية التي كانت تعرضها بعض الفضائيات فتكشف من حالات يلتسين ما يثير العجب والاستغراب. والثانية تذهب شوطا آخر فتستدعي شيئا من ذاكرة التاريخ فتدرك التشبيه الذي حذفت فيه جل عناصره – من الشبه ووجه الشبه وأداة التشبيه – واكتفي بذكر المشبه به، على أن هذا المشبه به هو في أصل نشأته صورة تشبيهية تمّ فيها التقريب بين الإمبراطورية العثمانية وحالة الرجل المريض. وأما المنضدة الثالثة فهي التي تتفتح على أفق التأويل فتتذكر طبيعة الصراع الذي حكم مراحل الحرب العالمية الأولى ثمّ الحرب العالمية الثانية وكيف كانت تركيا في صراع مع أوروبا على أرض دول البلقان، عندئذ يتفتح التأويل على محامل دلالية أخرى في استعمال عبارة (الرجل المريض) إذ يصل بها السياق إلى تخوم الإغاظة باللفظ والتنكيل عبر ذاكرة الكلمات.
قد لا يكون خطر ببال المختصين بالعلوم السياسية أن يفردوا لسطة اللغة بابا في جدول علمهم، ولا حتى بابا للبلاغة السياسية التي من ضمنها سياسة البلاغة، ولكن الأجلى هو أن رجال السياسة أنفسهم لا يمكنهم أن يستشعروا بأن اللغة على ألسنتهم تغدو مرآة كاشفة، وأحيانا تبلغ طاقة تضاهي طاقة المرايا السينية في التشخيص الطبي. عندما زار جاك شيراك الأراضي الفلسطينية في (22-10-1996) نصبت له السلط الإسرائيلية فخا عن طريق رجال البوليس، إذ منعوه من الاقتراب والمصافحة بأسلوب انفضحت معه تعلّة الحماية الأمنية، واحتدام الموقف، وداهم بنفسه بعض أعوان البوليس مخاطرا بهيبة مقامه، ثمّ احتج... وتحدثت موسوعة كرونيك عن ذلك ناعته إياه بالأزمة الدبلوماسية بين فرنسا وإسرائيل.
يومئذ أطلقت مجلة جون أفريك على جاك شيراك اسما بارزا فسمته بالحرف والصورة (البطل العربي) وذلك في عددها (1869 بتاريخ 30-10-1996) وتمضي سنوات، وتندلع بين سوريا والولايات المتحدة الأزمة الخاصة بلجنة التحقيق القضائية المكلفة بتقصّي الحقيقة لتحديد الجناة في مقتل رفيق الحريري، ويحتد الموقف وتلوّح أمريكا بأضرب من الزجر تريد أن تتخذ من مجلس الأمن جسرا لها فتطلب سوريا من المملكة السعودية ترشيد بعض أركان مجلس الأمن من ذوي العضوية الدائمة، ويكون وسيط الخير هو فرنسا، ويتلطف قرار مجلس الأمن ويعتدل متوازنا، ثمّ يبوح الملك عبد الله بن عبد العزيز ببعض التفاصيل مصرحا (إن شيراك يتصرف كعربي أصيل) كما جاء في (الحياة: 27 – 11- 2005) فإذا الليلة كالبارحة وإذا اليوم كالأمس.
سيكون من المشروع أن يقود هذا المبحث على ضفتي اللغة والسياسة إلى تأسيس ثقافة جديدة هي ثقافة الأسماء، لا من حيث هي قيمة تعيينية أو جمالية، ولكن بوصفها دائرة للكشف والاختبار تندرج ضمنها معالق للبرهنة والاستدلال. فالزعيم الفياتنامي هوشيمنة يحمل لقبا دالا بنفسه خارج أي سياق، إنّها جملة تعني في اللغة الفياتنامية (الذي يضيء الطريق) ولكن دلالة الاسم تتوارى فيها اللغة تحت حجاب العلميّة، ومنذ القديم كانت المقاصد الأولى تتبخر تحت وقع حرارة الزمن ورتابة المقامات، ولم نقرأ في التاريخ أن ألقاب الخلفاء كانت كالمواثيق الملزمة لأصحابها: المستنصر بالله، والواثق به، والمتوكل على الله، والمنصور به، ناهيك أن التداول يسقط من أفواه الناس الجار والمرور فتأتي العبارة بتراء في نظر اللغة ولكنها تصبح بهيّة ناصعة في نظر السياسة: المستنصر، والواثق، والمتوكل، والمنصور!
وكان هوشيمنه إذا خطب استهل خطبته إلى شعبه بنداء رباعي لا يحيد عنه، كان يقول: ابني، شقيقي العزيز، ابنتي، شقيقتي العزيزة، ولم يعرف مثل هذا عند غيره حتى من الزعماء الذين على مذهبه وملّته، وليس أمرا هينا أن اللغة حقيبة لمقاصد السياسة، وأن فعل النداء جزء من فعل التسمية سواء أجاءت على الحقيقة أم على المجاز. وقد نستطرف أن يلج المؤرخ لتركيا الحديثة من نافذة محددة دقيقة، هي اليوم الذي سمي فيه مصطفى كمال بلقب آتاتورك، ولم يكن مجازفة ولا اتفاقا، انتخب الرجل رئيسا لتركيا في (30 – 10- 1923) وظل رئسا إلى أن مات في (10-11-1938) ولكنه بعد أحد عشر عاما من الحكم اختار أن يلقب آتاتورك (24-11-1934).
ومن أهم ما طرأ على فعل التسمية استغلال العدد لتحويله لقبا واسما للوقائع ثمّ للأنظمة أحيانا. كان المؤرخون يتحدثون عن سنة الأخماس (555 للهجرة) للتدليل ما رافقها من وقائع وأحداث وبدأ الحديث قبلها عن (عام الفيل) ثمّ (عام الهجرة) وكل ذلك على تخوم الدوائر بين التاريخ والسياسة، وليست آليات اللغة بغائبة عن شيء من ذلك. نحن أمام فضاء فسيح من مشاهد القراءة وأفق التأويل. ولنا أن نحدد اختيارا في زاوية النظر، وكلما ضاق منفذه اتسعت مشارفة القصوى في الكشف والاستنباط: في أي لحظة ينجر الإنسان فعل التسمية؟ أواقعة هي قبل مولد المسمى؟ أم بعده؟ أم إنّها تتخلق مع فضاء نشأته؟ وكله وارد ومحتمل ولنعتبر ذلك في تسمية الآباء والأمهات لمواليدهم.
سنضع تصورا مبدئيا نسوقه على وجه المناولة المنهجية دون أن نعلق ثمرة البحث على صديقته: كلما جاء الاسم لاحقا للمسمى في الزمن كان ذلك من مشمولات التاريخ، وكلما صيغ الاسم قبل ميلاد المسمى جاء مرافقا له في النشأة كان ذلك من فعل السياسية. إذا قلت (مصر) كان الاسم تاريخا وحين سميت مصر- غداة انفصال الوحدة مع سوريا – بجمهورية مصر العربية كان الاسم سياسة، وكذا الأمر في اسم (الجزائر) كما هو الآن وفي اسم (ليبيا) كما آلت صيغته إثر القصف العدواني على طرابلس. ونرى بعد التأمل كيف خرج من الصيغ المتنوعة: الجزيرة العربية، والحجاز، ونجد، اسم (المملكة العربية السعودية) الذي يتضمن شهادة الاعتراف لمن حول الكيان التاريخي إلى كيان سياسي متوحد متماسك. وتطول قائمة الشواهد لتبوح بأسرار المكتوم السياسي.
ومهما يكن جوابنا عن السؤال السالف: أيهما الحقيقة وأيهما المجاز، تسميّة الكائنات الحية أم تسمية الأشياء والواقعات؟ فإن السمة السياسية تطبع فعل التسمية حين يأتي بسابق تدبير وصوب مقاصد على مقدس الغايات المضمرة، وكثيرا ما يكون جلاء الاسم أقرب منالا من تأويله، فقد لا يكون شائعا بين الناس سبب تسمية إحدى الجامعات المغربية (جامعة الأخوين) كما هو معروف هو وذلك لأن التداول فرض اقتضاب الاسم الذي هو (جامعة الأخوين الحسن الثاني وفهد بن عبد العزيز) ولكن جامعة أخرى بعثت في جمهورية كازاخستان جاءت تحكي صدى فعل التسمية على نفس المنوال، ففي (2001) تم الاتفاق بين الرئيس الكازاخستاني (نور سلطان نزاربياف) والرئيس المصري (محمّد حسني مبارك) على بعث جامعة مشتركة على أرض كازاخستان عهد بتأسيسها إلى الدكتور محمود فهمي حجازي وتمّ الاتفاق على تسميتها (جامعة نور مبارك) أليست التسمية فعلا سياسيا كامل الأشراط؟ أفلا تكون ذخيرة من أهمّ الذخائر وكلّ من اهتدى إلى منافذها الخلفية استطلع من كوامنها ما لا يستطلعه لا السياسي إذا لم يتسلح بمعرفة اللغة ولا اللغوي إذا لم يتدرع بالوعي السياسي؟
فعل التسمية حمال دلالات ولكن صوغه اللغوي جلاب غوايات. فهل نرى إلى العدد كيف ينتقل من وظيفة " تمييز" المعدود إلى وظيفة الوسم القائم بذاته فينخرط تماما في آليات البلاغة السياسية؟ من أشهر لحظات الاستخدام العددي وأمكنها يوم (الرابع عشر من جويلية) أو (الرابع عشر من يوليو) ولكن وقع الصدى يدركه من يتناغم سمعه مع إيقاعه الأصلي:
Le 14 juillet
وبديهي أن يسقط من التداول – بحكم قانون الاقتصاد في الأداة اللغوي – أهم مكون دلالي في تأثيث المعنى وهو التنصيص على العام المقصود (1789) تاريخ الثورة الفرنسية. لم يعد التاريخ تاريخا وإنما غدا اسما، ومسماه هو التاريخ بدءا، ثمّ هو ما حمله التاريخ من نسق أتت به الوقائع الحاصلة في لحظة التاريخ. ولم يتردد صانعو التاريخ ولا كاتبوه في أن يصونوا اللفظ الذي يعلن عن الزمن، وهو لفظ (الثورة) لأنه كان (دالا) وكان (مدلوله) متحينا في التاريخ، فثورة الشعب قد صنعت الحدث. وتحضر إلى ذاكرتنا التسمية ثانية ولكن في نسق دلالي آخر. ما حصل في الثالث والعشرين من يوليو 1952 هو فعل تاريخي أنجزته المؤسسة العسكرية لإنقاذ البلاد المصرية من مأزق عويص فكان (انقلابا) سرعان ما اصطلح عليه بلفظ (حركة) ثمّ أرسل لاحقا لفظ (الثورة ) بناء على الإنجازات التي حققتها (الحركة) وكان أن انبثق متألقا بعد ذلك الوقت مصطلح (الضباط الأحرار) فائتلف من اللغة نسيج تركيبي يكشف (فاعل الفعل) ويحدد (المفعول لأجله) وهو غاية المرام ومرمى المقاصد: هي حركة قادها ضباط عزموا على تحرير وطنهم مما تردى إليه. على المنوال ذاته، وبناء على تجاوب الجماهير العربية وتعاطفها مع الثورة في مصر، فإن العسكريين العراقيين الذين قاموا بانقلاب (13-07-1958) بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف قد سموا أنفسهم أيضا (الضباط الأحرار) وإذ أجهزوا على الملك فيصل الثاني ثمّ على نوري السعيد هيأوا انسحاب العراق من (حلف بغداد) وذلك في (24 -03-1959) وإذا بدلالة (الأحرار) تجد في الوقائع ما يسوّغ المحاكاة اللغوية بين الحدثين العربيين.
كان قد بدا من بعض السياق أن يكتفي التداول اللغوي بذكر (الثالث والعشرين من يوليو) مستغنيا عن التذكير بالسنة كما حصل مع الأداء في تاريخ الثورة الفرنسية على لسان أهلها وبلسان أهلها، ثمّ بدت ملامح سياق آخر يستغنى عن ذكر اليوم والشهر ويكتفي بذكر العام، وذلك حين يكون مجال النظر السياق الأكبر لا السياق الأصغر، ويتعين الوقوف عند حدود الأعوام كلما تراءت ملامح المقارنة الضمنية: ثورة (اثنين وخمسين) بالنطق الجماهيري قبالة ثورة (تسعْتاشرْ) وهذا ضرب من التعالق خصوصا عندما نذكر ريادة الوفد وزعامة سعد زغلول في المطالبة بالاستقلال واستنهاض الهمم لمجابهة (الإنجليز) وذلك عام 1919.
ويظل من المقطوع به – حدسا أو رصدا – أن التحول "الميتامورفوزي" من تاريخ الحدث إلى ذات الحدث، ثمّ من تعيين الحدث إلى ما يرمز إليه النطق باسم الحدث، ثمّ من ذلك كله إلى اتخاذ جاءت به الوقائع الحاصلة في نيويورك يوم (11-09-2001) فمنذ البدء يتعطل الحديث عن ذلك دون إحساس بحتمية الانخراط داخل سياج الدلالة. قل (أحداث الحادي عشر من سبتمبر) أو (تفجيرات...) أو (جرائم...) أو (العمليات الإرهابية...) فلن تفلت من قبضة اللغة لأنك محمول حملا على "اتخاذ موقع" داخل سياج الخطاب حتى ولو قلت فقط (تفجير الأبراج). تتنوع لوحة الرسوم التعبيرية بحسب خصوصيات اللسنة الطبيعية: في العربية غلبت تسمية ذاك الشهر باسم (سبتمبر) حتى في الأقطار التي تتداول تسمية أخرى (أيلول) لأن الأداء الصوتي بالنطق أصبح من مصاحبات القصد الدلالي.
وتجرد التاريخ من ذلك العام حتى بدأت ذاكرة الناس تتلكأ في أنه (2001) وبقي الاكتفاء بأسلوب تعيين التواريخ. تقول الفرنسية (الحادي عشر من سبتمبر) وكأنها تسمية ترسل على كائن مجسد أو مشخص:
Le onze septembre
وقلما يفوه الناس عند التداول بأن يقولوا (الحادي عشر من الشهر التاسع).
Le onze neuf
وتقول الإنجليزية التاريخ بترتيب مغاير: الشهر بدءا ثمّ يتلوه اليوم من ذلك الشهر (أحداث التاسع – الحادي عشر) لقد أصدر نوام تشومسكي كتابا جمع فيه حوارا ته حول الحدث فكان عنوانه مقتصرا على الأرقام مكتوبة دونما حروف لغوية تترجمها فجاء:
11/9
وترجم إلى الفرنسية فجاء عنوانه على سفر الكتاب:
11/9
وأنتج ميكاييل موور فيلمه الشهير
Fahrenheit 9/11
الذي حصد الجائز الذهبية في مهرجان السينما في مدينة كان الفرنسية (2004).
كان التكريس قد بلغ مداه الأوفى عبر توظيف السياسة للآلة اللغوية بتضمين رمزي مكين: فرقم هاتف النجدة في الولايات المتحدة – لأي استنجاد كان – أصبح (911) والإدارة الأمريكية اتخذت في (18- 12-2001) قرارا بجعل يوم (الحادي عشر من سبتمبر) من كل عام (يوم إجازة) يحتفى به على مبدإ أنه (يوم الوطنيين).
إنّها سلطة اللغة داخل شباك السياسة، وإنّها سلطة السياسة داخل قلعة اللغة، فأي بلاغة هي تلك نتحدث عنها شعرا وأدبا إن نحن غفلنا عن البلاغة تحت أخبية السياسة؟
من شاء أن يدون قصة البلاغة تحت ظلال السياسة أو يتصفح دفاتر السياسة على ضفاف البلاغة لم يكن له غنى عن التأمل مليا في آليات إنتاج الألقاب وأدوات صنع ولكنه - وهو يقلب الأمر على أوجهه – سينتبه جيدا إلى اطراد الناموس اللغوي القاهر: ما تبتكره الألفاظ من دلالة وإيحاء يخبو وهجه بمرور الزمن فيندرج ضمن رصيد اللغة الطبيعي، تماما كما يحدث عند كل مجاز في التعبير: إذا طال عليه الزمن واستقر في التداول اللغوي العام غاب عن المستعملين أنّه مجاز فيغدو حقيقة عرفية جديدة.
فمن ذا الذي إذا سمع كلمة واشنطن تذكر أن الاسم الحقيقي هو(مدينة جورج واشنطن)؟ لا سيما وأن اسم المدينة مع اسم من تتم نسبتها إليه قد تتحقق في نمط آخر من اللغات تعتمد التركيب المزجي كما في إسلاماباد وحيدرباد وكما في لينينغراد أو ستالينغراد قبل أن تقضي تقلبات السياسة بإلغاء الاسمين والعودة إلى التسمية الأولى؟ قصة السياسة مع التسمية ليست جديدة، وشيء غير قليل منها يعود إلى قصة التسمية مع آليات الشهرة، ومعنى الشهرة أن تكف الذات عن كونها ملكا لنفسها لتصبح ملكا مشاعا لدى الناس بحيث يصبح صاحبها "شخصيّة عامة" كما يقال، والنجوميّة هي الدرجة القصوى من الشهرة. ومن مستجدات العصر أن هذه كتلك تصنع صنعا، وتدار لها آليات محددة لإنتاجها، والذي يعنينا من ذاك جله أمران: أن الشهرة تدور قبل كل شيء على الاسم فيتراءى للجميع أن الاسم هو المتقدم على مسماه والأمر الثاني أن مصنع إنتاج الشهرة، وورشة صناعة الإجماع حول الشهرة، لا مادة لهما إلا اللغة.
تبدأ القصة في مجال "عالم الرمز" نعني مجال الفكر والثقافة والإبداع والقناعات الحميمة... فمن قال عميد الأدب العربي لا يحتاج إلى إضافة طه حسين، والذي يتحدث عن أمير الشعراء يستغنى عن ذكر أحمد شوقي. وقد لا يكون الأمر على نفس الدرجة من البداهة – في مجال الجمهور الواسع – لو تحدثت عن علي أحمد سعيد ولم يردفه للتوّ بالاسم الشائع لهذا الشاعر المتمرد أدونيس وهو اسم اختاره بنفسه لنفسه. ولكن المسألة أدق في مجال الفن لأن الشهرة فيه كثيرا ما تكون قرينة اصطلاح جديد يقيم الاسم الفني مقام الاسم المدون في دفاتر الحالة المدنية، وإذا بالاسم الطارئ يلتصق بالمسمى إلى حد التماهي فيوشك أن يلغي أحقية الاسم الشرعي، بل لو تعمّد المتحدث عن بعض المشاهير بإحياء اسمهم الشرعي وتغييب اسمهم الرائج – الذي هو اسم الشهرة بمعنى اسم النجومية – لجانب الصواب وأخل بسلامة التواصل، وقد يتأول الناس موقفه على أساس الاستخفاف بما حقه الإجلال.
لا مجال لدرس موضوع الأسماء والألقاب في عالم السياسة إذن دون استذكار قوانين الشهرة باستدعائها من ميادين الشهرة الفنية بعامة. فكثير من القرائن التي تحكم آليات السياسة إن هي إلا مظاهر تتجلى في الأداء اللغوي العام. فكم من الناس يمكنهم أن يجيبوك – لو سألتهم – عن محمّد عبد الرحمان القدوة الحسيني من يكون ؟ أو عن الذي اسمه محمّد بوخروبة من هو؟ والحال أنك تتحدث إليهم عن شخصين مشهورين لا يمكن لأي عربي أن يقول إني لم أسمع بهما، فالأول هو ياسر عرفات والثاني ما هو إلا هواري أبومدين وكلاهما عرف النضال وخاض غمار مقاومة الاستعمار، وكان لزاما عليه أن يتخذ "اسما حركيا". فالأول اختار لقب (ياسر) وألحق به اسم جدّه، والثاني ألف لنفسه اسما ثنائيا كل طرف من طرفيه هو اسم لأحد الأولياء الصالحين في الجزائر: الولي الهواري والولي أبو مدين. واحتفظ الرئيس الجزائري بالاسم الاصطلاحي لأن المغرب العربي لم يألف التكنية في التنادي الاجتماعي، أمّا في المشرق حيث التخاطب بالكنية علامة على الألفة والود والتصافي فقد تناضد اسم ( ياسر عرفات) مع الكنية فشاع اللقب (أبو عمار) حتى غدا طقسا من طقوس المراسم التراتبيّة في السياسة العربية.
لعلاقة رجل السياسة باللقب الذي يرتديه أطياف تتموج بحسب المزاج والسياق، إذا خرجت الأمور عن إرادته حينا فهي ممسوكة بيده أحيانا أخرى.
فعبد العزيز بوتفليقة لم ينسج على منوال رئيسه هواري بومدين منذ فجر استقلال بلدهما في (1962) ففي حين آثر هذا استبقاء اسمه الحركي والتخلي عن اسم الدفاتر المدنية فضل ذاك استرداد اسمه "الشرعي" – عبد العزيز بوتفليقة – والتخلي عن اسمه الحركي – عبد القادر المالي – حسب ما تخبرنا به جون أفريك (ع 2249 بتاريخ 15 – 02- 2004 ) ولكن رئيس الوزراء في الحكومة العراقية المؤقتة (2005) آثر الارتقاء إلى منازل السياسة على سلم اسمه الحركي إبراهيم الجعفري متخليا عن اسمه الشرعي إبراهيم الأشيقر (الشرق الأوسط: 22-10- 2005) وقد نرى في النعت الثاوي وراء الاسم (الجعفري) ما يكفي لشرح هذا الاختيار.
وللقادة العرب قصة أخرى تتصل بالألقاب التي تتولد من صفتهم أمدنيّة هي أم عسكريّة؟ ففي الغرب تجد الذي تخرّج من المؤسسة العسكري فخورا بانتمائه إليها فشارل دي غول هو أحرص الناس على أن يزدان اسمه بلقب الجنرال حتى ليكاد الاسم إذا اقترن بالصفة أن ينصهرا فيغيب عن وعي الناس أنه مركب من كنية تسبقها الصفة، وهذا ما كان ينطبق أيضا على الماريشال تيتو. أمّا في الأقطار العربية فالساسة ميالون في أغلبهم إلى الانتماء المدني ويكاد الزعيم الليبي أن يكون الاستثناء في هذا الباب، فهو الذي يرتاح جدا إلى لقب العقيد، وبناء على ذلك يسري اللقب على لسان الأجانب بانسياب تام (الكولونال). ولكن أدبيات السياسة احتشدت جمعا من الألقاب المصاحبة، لها سلطة الأعراف دون أن تكون لها سلطة الدفاتر: زعيم الثورة، الأخ العقيد، الأخ القائد، الأخ معمّر، قائد الثورة...وعلى نمط مغاير تمّ التعامل مع الألقاب العسكرية في مصر منذ ثورة (23 – 07 – 1952) فالذين قادوها هم أصحاب رتب عسكرية سموا أنفسهم بالضباط الأحرار فلم يكن لزاما أن يقترن اسمهم بالوسم العسكري، لذلك جرى العرف على افتتاح الاسم بالوسم السياسي: للرئيس جمال عبد الناصر والرئيس أنور السادات والرئيس محمد حسني مبارك، ومن كثرة التداول اشتقت من رحم تلك الصفة صيغة ثانية بدلت بنيتها المقطعية ونبرتها الصوتية في إيقاع تداولي مغاير لإيقاع العربية الفصحى: الرّايّس. وحيث ترسخ الأداء كومضة واسمة اقتفت الصحافة الأجنبية إيقاعه فأصبحت جريدة لوموند ومجلة جون أفريك – وهما من المنابر الإعلامية الرصينة الجادة – تتحدثان بذاك اللقب بإيقاعه ونبرته عن الرئيس المصري مهما كان ( Le Raïs ( .
وتظل بعض المناسبات الرسمية فرصة لأي رئيس مصري يطلع فيها على الناس بالبدلة العسكرية كرمز للانتساب فيها فخر جليّ، ومعلوم أن الانتماء إلى المؤسسة العسكرية قد مثل في مصر تحديدا درجة راقية من علو الشأن في المجتمع وعلو المجد في الدفاع عن الوطن. وهكذا نرى الرئيس محمد حسني مبارك – حين حاورته السي آن آن بمناسبة الذكرى الأولى لأحداث (11-09-2001) – يستدعى ذاكرة الصفات مؤكدا بافتخار أنّه ذو خبرة تامة بالطيران العسكري، ولم يتردد في مصارحة جمهور السي آن آن قائلا (هذه الهجمات التي استهدفت الولايات المتحدة صعبة بعض الشيء على طيارين درسوا في فلوريدا (...) أتكلم بصفتي طيارا فقد قدت طائرات كبيرة جدا، وقدت طائرات مطاردة، أعرف ذلك تماما، وليس الأمر سهلا، لذلك لا أعتقد أنه علينا الاستنتاج بشكل سريع، إذا كانت إدارة بوش قد لفقت الهجوم على البنتاجون لتخفي مشاكل داخلية ألم تحجب كذلك بعض الأمور فيما يتعلق بالهجمات التي استهدفت مركز التجارة العالمي؟ وقد ورد نص الحديث في (أخبار الأدب: 01-09-2002).
في المملكة العربية السعودية قضت الأعراف بأن يطلق على صاحب الأمر لقب الملك، وكانت الملكيات العربية الأخرى تردف هذا اللقب بنعت تمجيدي تضعه في صدراته فيتثنى الوصف (جلالة الملك) ثمّ يأتي الاسم بعد ذلك على البدليّة. والسبب دقيق يدخل ضمن لطائف الشروح، فالقائمون على أمر السياسة في المملكة حريصون على تطبيق المذهب التأويلي بامتثال يستوفي كل أشراط السلامة باتقاء الشبهات، وبناء عليه تعاملوا مع ألفاظ اللغة بصرامة متناهية فلم يستسهلوا التوسل بالمجاز، ولذلك تراهم يتفردون بخصائص في التسمية، فتاريخ 23 سبتمبر هو ذكرى اكتمال توحيد المملكة (1932) ويحتفلون به كل عام ولكنهم لا يسمونه (العيد الوطني) كسائر الشعوب وإنّما (اليوم الوطني) فلا عيد إلاّ ما تمّ التنصيص عليه أنّه عيد، وليس لأمة الإسلام إلا عيدان.
ومن جراء هذه الصرامة في التحري، والامتناع عن التصرف في الألفاظ بالمجاز، تناهوا إلى الحذر الأقصى واستجابوا إلى مظنة الارتياب، فاستجازوا التصرف في الأسماء كما لو أنّهم يشذبونها تطهيرا لها من بعض أدران المظنات. كان الناقد السوري عبد النبي اصطيف أرسل مقالة إلى الكتاب الدوري (علامات في النقد الأدبي) (المجلد 1، الجزء 3، مارس 1992) الذي يصدره النادي الأدبي الثقافي بجدة فإذا باسم الباحث يصبح عند النشر (عبد رب النبي اصطيف) أمّا الشاعر الناقد اللبناني محمّد علي شمس الدين فحين بعث بمقالته "قوّة الصورة وضعف العبارة" إلى جريدة الرياض نشرته له تحت اسم محمّد علي شمس (الرياض: 02-11-2000) ولست تدري ماذا كانت تفعل الجريدة له ورد عليها في بعض موادها الصحفية اسم القرية المصرية (شمس الدين) الواقعة في بني مزار من محافظة المنية.
لم يستعمل أهل المملكة اللفظ الشائع مع اسم الملك وهو (جلالة) في الوقت الذي تجوّزه الناس على مجازات واسعة، فمصطفى أمين كتب منذ زمن بعيد روايته التي يتحدث فيها عن الصحافة من حيث هي سلطة، فألف (في بلاط صاحبة الجلالة) ولما تأسست في الإمارات لأول مرّة جمعية الصحافيين رفع الإعلام شعار "شعلة الحرية في بلاط صاحبة الدلالة" (الاتحاد: 01-10-2000) وخطر للروائي التونسي عبد القادر الحاج نصر أن يكتب إحدى رواياته متخذا دار الإذاعة مسرحا لأحداثها فسمى روايته "صاحبة الدلالة"
(1981).
ولكن حادثة حصلت فأنتجت خصيصة جديدة طالت فعل التسمية، فقد تألب جمع من المتشددين العتاة أوغلوا في مضائق التأويل إلى حد التيه فأقدموا على اقتحام المسجد الحرام وحوّلوه إلى ساحة من الفتنة والاقتتال، وكانوا يلوّحون بأنهم ينتصرون إلى الدين بعد أن وهموا أن أمره قد تاه، فحسم أولو الأمر بمباركة علماء الدين القضية حسما فاصلا في (31-07-1987) انطلق عندئذ مشروع توسعة الحرمين وكان لزاما أن يترتب الخطاب المضاد ردا على المزاعم الواهمة، فأطلق الملك فهد على نفسه – من خلال كل الأجهزة الرسمية – لقب (خادم الحرمين الشريفين)، وبمجرد اعتلاء الملك عبد الله سدة الحكم (03-08-2005) سحبت أجهزة الإعلام السعودية اللقب نفسه عليه بشكل آلي في تواتر تلقائي، فخرج الاسم من دلالة الخصوص إلى دلالة العموم: كان حين أطلق اسما تعيينا للملك فهد بن عبد العزيز فصار لقبا مصاحبا لاسم الملك السعودي كأنما هو من لوازمه. لم تمض أشهر ثلاثة حتى طلع الملك عبد الله على الناس بخطاب جديد كان مداره على المراسم والألقاب، فقد أمرهم بترك ما ألفوه من بعض العادات، أمر بترك تقبيل اليدين، وجعل ذلك وقفا على أيدي الوالدين، وفي ( 29-10-2005) أمر الناس بالتخلي عن الألقاب التي يميلون إلى مخاطبته بها ولا سيما(مولاي) و(جلالة الملك).
لا تنفك قصة السياسة والألقاب تشوق راصدها وتروقه ففيها تقبع من وراء أصواتها ومقاطعها، منهم من ينسدل عليه اللقب كمعطف يهبه إليه الآخرون فيستريح إليه مستشعرا أنّه على مقاسه، وليس من شأن الناس أن يتشككوا إن كان هو الذي أوحى إليهم به أم هم الذين زرعوا في نفسه حبه.
كان لأنور السادات حسّ مرهف بالأسماء، وكان يتوجس من إبحار الدلالات في موج المقاصد المضمرة، وكان لا تتوانى عن التدخل في إيضاح المعاني واستبدال ما يتعين الاستبدال به من الكلمات، فحين وقعت الأحداث الاجتماعية الثائرة على غلاء المعيشة (17- 01-1977) انبرى فعل التسمية سلاحا حادا ينضاف إلى ضغط المظاهرات، وشاع الحديث عنها بأنها انتفاضة الفقراء، وإذا بالرئيس يستغل ما تخللت به تلك الأحداث من سطو على المحلات ونهب لبضائع المتاجر وتهشيم لواجهات المغازات، وإذا به يرسلها صفعة مضادة عن طريق فعل التسمية فيصيح غاضبا (بل هي انتفاضة الحراميّة) ثمّ كان لغضبته تلك نتائج، قرر أن يخرج بعاصمة مصر من القاهرة، وأن يؤسس لها عاصمة أخرى في مكان مّا من أرض الكنانة، فكتب جمال حمدان – ذاك العالم الجليل الذي اختط نهجا في البحث على خط التماسّ بين التاريخ والجغرافيا بتأليفه عن شخصية مصر ولم يمهله القدر – مقالا في الأهرام غيّر به وجهة القرار، ساءل الكاتب أنور السادات بأسلوبه هو فيما مؤداه: أفإن تخلينا أنّنا سنفكك الأهرامات قطعة قطعة كي ننقلها إلى مشارف العاصمة الجديدة ترى كيف سنفعل مع وادي النيل؟ (أورد ذلك مفصلا الأديب يوسف القعيد في حوار له مع الشاعر الملهم أحمد فؤاد نجم على قناة الأحلام: دريم 13-12-2005 ).
ستسعد روح عمر المختار لو بلغه أن الناس أجمعوا بعد موته على تسميته (أسد الصحراء) وان اسمه هذا قد كرسه مصطفى العقاد حين أخرج فيلمه عنه بذات الاسم: عمر المختار أسد الصحراء. (1980) بعد أن أخرج فيلم الرسالة (1976) معتمدا فيهما على شخصية النجم العالمي أنتوني كوين، وقبل أن يسقط تحت أشلاء السقوف المتفجرة في عمان (09-11-2005) دون أن يحقق حلما سينمائيا آخر عن صلاح الدين. وسيسعد الشيخ زايد آل نهيان لو علم أن مناسبة إحياء ذاكراه قد أجْلت له لقبا مضيئا هو (حكيم العرب).
للألقاب سحرها لأنها تختزل الزمن والأحداث، وقد تختزل في الاسم بحروفه المعدودة صفحات من أدبيات الفكر والجدل وربما الصراع، فالعالم الباكستاني عبد القادر خان ألبسوه اسما في مضمّنات دلالته فخر عظيم من جهة وبلاء ليس بعده بلاء من جهة ثانية، قالوا عنه – وقد صدقوا – (أبو القنبلة الذرية الإسلامية). الاسم ليس كمثله مجْلى لمسماه، ولكن الغائب عن الوعي أنه في مجال الشهرة مرآة يجتلي عليها المرء وجوده لا من تتالي الأحقاب حلقة الوصل بين الاسم والمسمى في غفلة عن حقيقة التاريخ، فمن من جموع العرب يتذكر أن أشهر الشعراء في تاريخ أدبنا هو ذاك الذي لا نذكره له ليحملوا به إليه زعما زعمه بعضهم عليه فاستنكف وتغاضى، إنه (المتنبي) هذا الاسم الذي لم يكن اسما له، ولا حتى كنية ينادي بها، بل ما كان أحد يذكره أمامه ولو على سبيل المجاز أو الدعابة. لم يكن له من اسم ولقب وكنية إلا (أو الطيب) وكفى.
مغرية جدا هي قصة الأسماء، وأكثر إغراء منها استقراء تاريخ الثقافة من خلال نشأة الأسماء، ثمّ تطوّرها وتقلبها، على حين انسلاخها أو توالدها. وتزداد اللوحة جاذبية كلما امتزج الأمر بإدارة شؤون الناس لتصريف حياتهم ومعاشهم وصون آمالهم ورؤاهم.
شباب المغرب العربي يتنقل بأزرار التلفاز بين القنوات العربية والقنوات الفرنسية، ومن بين محطاته المحببة إلى ذائقته فضائية فرنسية تسمى نفسها تسمية مختصرة: حرف الميم يليه الرقم 6، فتنطق على السجية (آم سيس = M6 ) وتقدم إلى الشباب منوعات تجمع إلى الإمتاع والترفيه شيئا غير قليل من الإفادة والتثقيف. في (23-07-1999) توفي الحسن الثاني فاعتلى ولي عهده محمّد السادس سدة العرش، وما لبث أن تجاورت معه طبقات الشباب لأنها رأت فيه امتدادا لطموحاتها، وسرعان ما سرت على الألسنة تسمية على غاية من التورية والتجريد، أطلقوا عليه الاسم الاختزالي المشتق من اسمه: (الميم) من محمّد و (ستة) من السادس ونطقوا به بالفرنسية لأنه يتماهى مع اسم تلك الفضائية الشبابية (آم سيس = M6 ) ولم يبق فعل التسمية حبيس الكواليس ولا فضفاضا في أفق الأدبيات، لقد ارتقى إلى منزلة الظاهرة حتى احتضنته الصحافة الرصينة الجادة وجعلته عنوان ملف تحليلي مستفيض بمناسبة مرور خمس سنوات على اعتلاء الملك محمّد السادس سدة الحكم (جون أفريك: 25-07-2004).
من أقدار الكائن البشري أن ألصق شيء به طوال عمره هو اسمه وأن هذا الاسم كثوب يلبسونه إياه ولا رأي له فيه، وربما لهذا السبب غدا السمة الملازمة لهويّة ننشأ عليها قبل أن نعيها أو نختارها، ولئن كانت التسمية حوارا صامتا بين الاسم والذي يختاره ليصنع به فعل التسمية، ثمّ بين الاسم والذي نختاره له ليتسمى به، وبناء على ذلك كانت حوار مع الوجود، فإنها في مجال السياسة تسمي حوارا مع التاريخ، ومن أجل هذا لم تتقيد بزمن النشأة فقد تأتي لاحقة على مواقيت الأحداث.
التسمية في السياسة وصف ناعت يشيع فيطرد ويتواتر حتى يستقر اسما على مسماه. لما شاخت الإمبراطورية العثمانية وهرمت تحت كلكل الزمن والتاريخ شاع عنها أنها كالرجل المريض، وهو تصوير للحالة التي تطور فيها الشيخوخة فيكون الموت منقذا من الهوان. ولكن عملية الإنقاذ قد تتأخر عن موعدها كما يفترضه الحس الأمين. وهكذا تأرجح الاسم، ثمّ لما قضت الإمبراطورية كرسّ خطاب المؤرخين شرعية الاسم، وأصبحت عبارة (الرجل المريض) قرصا مضغوطا فيه كل خزائن التفاصيل التاريخية. إن إطلاق هذا الاسم على مسمّاه كان من باب المجاز ثمّ تحول إلى استعارة بلاغية، وبمرور الأيام تبددت وروائح التخييل، وتبخرت ملامح التشبيه البلاغي، وأصبح الاسم متماهيا مع المسمى، فانقلب المجاز إلى حقيقة عرفية يقال لها حقيقة لغوية جديدة.
الاسم هذا هو في ذاكرة كل البشر، في مشرق الأرض ومغربها لأن الإمبراطورية العثمانية كانت طرفا فاعلا في الصراعات الدولية الكبرى منذ أواخر القرن الثامن عشر إذا تدبرنا مليا بعض أسرار حملة نابليون على مصر. وفي يوم من أيام نهاية القرن العشرين، مع مطلع شهر جانفي – يناير من عام 2000، تنحى رجل الكرملين الأول عن منصبه بتدبير مشترك لم يخل من امتثال أليم، وكان هذا الرجل بوريس يلتسين قد بدت عليه أعراض من الخلل الصحي أخافت كل السياسيين وأهل الشأن الدولي تخصيصا، وكان الأغلب من الأعراض مقترنا بالإدمان، ولم يعد مصير القرارات الكبرى ولاسيما العسكرية منها في أمان، ومن الغد بادرت منابر الإعلام بأقلام المحللين الكبار إلى إطلاق معالم الابتهاج بتنحي هذا الذي أطلقت عليه اسم (الرجل المريض).
إن آليات التلقي في مجال البلاغة السياسية ذات مراتب متناضدة، فالأولى هي التي تتقبلها الجموع الغالبة فتقف بها عند الصور الغربية التي كانت تعرضها بعض الفضائيات فتكشف من حالات يلتسين ما يثير العجب والاستغراب. والثانية تذهب شوطا آخر فتستدعي شيئا من ذاكرة التاريخ فتدرك التشبيه الذي حذفت فيه جل عناصره – من الشبه ووجه الشبه وأداة التشبيه – واكتفي بذكر المشبه به، على أن هذا المشبه به هو في أصل نشأته صورة تشبيهية تمّ فيها التقريب بين الإمبراطورية العثمانية وحالة الرجل المريض. وأما المنضدة الثالثة فهي التي تتفتح على أفق التأويل فتتذكر طبيعة الصراع الذي حكم مراحل الحرب العالمية الأولى ثمّ الحرب العالمية الثانية وكيف كانت تركيا في صراع مع أوروبا على أرض دول البلقان، عندئذ يتفتح التأويل على محامل دلالية أخرى في استعمال عبارة (الرجل المريض) إذ يصل بها السياق إلى تخوم الإغاظة باللفظ والتنكيل عبر ذاكرة الكلمات.
قد لا يكون خطر ببال المختصين بالعلوم السياسية أن يفردوا لسطة اللغة بابا في جدول علمهم، ولا حتى بابا للبلاغة السياسية التي من ضمنها سياسة البلاغة، ولكن الأجلى هو أن رجال السياسة أنفسهم لا يمكنهم أن يستشعروا بأن اللغة على ألسنتهم تغدو مرآة كاشفة، وأحيانا تبلغ طاقة تضاهي طاقة المرايا السينية في التشخيص الطبي. عندما زار جاك شيراك الأراضي الفلسطينية في (22-10-1996) نصبت له السلط الإسرائيلية فخا عن طريق رجال البوليس، إذ منعوه من الاقتراب والمصافحة بأسلوب انفضحت معه تعلّة الحماية الأمنية، واحتدام الموقف، وداهم بنفسه بعض أعوان البوليس مخاطرا بهيبة مقامه، ثمّ احتج... وتحدثت موسوعة كرونيك عن ذلك ناعته إياه بالأزمة الدبلوماسية بين فرنسا وإسرائيل.
يومئذ أطلقت مجلة جون أفريك على جاك شيراك اسما بارزا فسمته بالحرف والصورة (البطل العربي) وذلك في عددها (1869 بتاريخ 30-10-1996) وتمضي سنوات، وتندلع بين سوريا والولايات المتحدة الأزمة الخاصة بلجنة التحقيق القضائية المكلفة بتقصّي الحقيقة لتحديد الجناة في مقتل رفيق الحريري، ويحتد الموقف وتلوّح أمريكا بأضرب من الزجر تريد أن تتخذ من مجلس الأمن جسرا لها فتطلب سوريا من المملكة السعودية ترشيد بعض أركان مجلس الأمن من ذوي العضوية الدائمة، ويكون وسيط الخير هو فرنسا، ويتلطف قرار مجلس الأمن ويعتدل متوازنا، ثمّ يبوح الملك عبد الله بن عبد العزيز ببعض التفاصيل مصرحا (إن شيراك يتصرف كعربي أصيل) كما جاء في (الحياة: 27 – 11- 2005) فإذا الليلة كالبارحة وإذا اليوم كالأمس.
سيكون من المشروع أن يقود هذا المبحث على ضفتي اللغة والسياسة إلى تأسيس ثقافة جديدة هي ثقافة الأسماء، لا من حيث هي قيمة تعيينية أو جمالية، ولكن بوصفها دائرة للكشف والاختبار تندرج ضمنها معالق للبرهنة والاستدلال. فالزعيم الفياتنامي هوشيمنة يحمل لقبا دالا بنفسه خارج أي سياق، إنّها جملة تعني في اللغة الفياتنامية (الذي يضيء الطريق) ولكن دلالة الاسم تتوارى فيها اللغة تحت حجاب العلميّة، ومنذ القديم كانت المقاصد الأولى تتبخر تحت وقع حرارة الزمن ورتابة المقامات، ولم نقرأ في التاريخ أن ألقاب الخلفاء كانت كالمواثيق الملزمة لأصحابها: المستنصر بالله، والواثق به، والمتوكل على الله، والمنصور به، ناهيك أن التداول يسقط من أفواه الناس الجار والمرور فتأتي العبارة بتراء في نظر اللغة ولكنها تصبح بهيّة ناصعة في نظر السياسة: المستنصر، والواثق، والمتوكل، والمنصور!
وكان هوشيمنه إذا خطب استهل خطبته إلى شعبه بنداء رباعي لا يحيد عنه، كان يقول: ابني، شقيقي العزيز، ابنتي، شقيقتي العزيزة، ولم يعرف مثل هذا عند غيره حتى من الزعماء الذين على مذهبه وملّته، وليس أمرا هينا أن اللغة حقيبة لمقاصد السياسة، وأن فعل النداء جزء من فعل التسمية سواء أجاءت على الحقيقة أم على المجاز. وقد نستطرف أن يلج المؤرخ لتركيا الحديثة من نافذة محددة دقيقة، هي اليوم الذي سمي فيه مصطفى كمال بلقب آتاتورك، ولم يكن مجازفة ولا اتفاقا، انتخب الرجل رئيسا لتركيا في (30 – 10- 1923) وظل رئسا إلى أن مات في (10-11-1938) ولكنه بعد أحد عشر عاما من الحكم اختار أن يلقب آتاتورك (24-11-1934).
ومن أهم ما طرأ على فعل التسمية استغلال العدد لتحويله لقبا واسما للوقائع ثمّ للأنظمة أحيانا. كان المؤرخون يتحدثون عن سنة الأخماس (555 للهجرة) للتدليل ما رافقها من وقائع وأحداث وبدأ الحديث قبلها عن (عام الفيل) ثمّ (عام الهجرة) وكل ذلك على تخوم الدوائر بين التاريخ والسياسة، وليست آليات اللغة بغائبة عن شيء من ذلك. نحن أمام فضاء فسيح من مشاهد القراءة وأفق التأويل. ولنا أن نحدد اختيارا في زاوية النظر، وكلما ضاق منفذه اتسعت مشارفة القصوى في الكشف والاستنباط: في أي لحظة ينجر الإنسان فعل التسمية؟ أواقعة هي قبل مولد المسمى؟ أم بعده؟ أم إنّها تتخلق مع فضاء نشأته؟ وكله وارد ومحتمل ولنعتبر ذلك في تسمية الآباء والأمهات لمواليدهم.
سنضع تصورا مبدئيا نسوقه على وجه المناولة المنهجية دون أن نعلق ثمرة البحث على صديقته: كلما جاء الاسم لاحقا للمسمى في الزمن كان ذلك من مشمولات التاريخ، وكلما صيغ الاسم قبل ميلاد المسمى جاء مرافقا له في النشأة كان ذلك من فعل السياسية. إذا قلت (مصر) كان الاسم تاريخا وحين سميت مصر- غداة انفصال الوحدة مع سوريا – بجمهورية مصر العربية كان الاسم سياسة، وكذا الأمر في اسم (الجزائر) كما هو الآن وفي اسم (ليبيا) كما آلت صيغته إثر القصف العدواني على طرابلس. ونرى بعد التأمل كيف خرج من الصيغ المتنوعة: الجزيرة العربية، والحجاز، ونجد، اسم (المملكة العربية السعودية) الذي يتضمن شهادة الاعتراف لمن حول الكيان التاريخي إلى كيان سياسي متوحد متماسك. وتطول قائمة الشواهد لتبوح بأسرار المكتوم السياسي.
ومهما يكن جوابنا عن السؤال السالف: أيهما الحقيقة وأيهما المجاز، تسميّة الكائنات الحية أم تسمية الأشياء والواقعات؟ فإن السمة السياسية تطبع فعل التسمية حين يأتي بسابق تدبير وصوب مقاصد على مقدس الغايات المضمرة، وكثيرا ما يكون جلاء الاسم أقرب منالا من تأويله، فقد لا يكون شائعا بين الناس سبب تسمية إحدى الجامعات المغربية (جامعة الأخوين) كما هو معروف هو وذلك لأن التداول فرض اقتضاب الاسم الذي هو (جامعة الأخوين الحسن الثاني وفهد بن عبد العزيز) ولكن جامعة أخرى بعثت في جمهورية كازاخستان جاءت تحكي صدى فعل التسمية على نفس المنوال، ففي (2001) تم الاتفاق بين الرئيس الكازاخستاني (نور سلطان نزاربياف) والرئيس المصري (محمّد حسني مبارك) على بعث جامعة مشتركة على أرض كازاخستان عهد بتأسيسها إلى الدكتور محمود فهمي حجازي وتمّ الاتفاق على تسميتها (جامعة نور مبارك) أليست التسمية فعلا سياسيا كامل الأشراط؟ أفلا تكون ذخيرة من أهمّ الذخائر وكلّ من اهتدى إلى منافذها الخلفية استطلع من كوامنها ما لا يستطلعه لا السياسي إذا لم يتسلح بمعرفة اللغة ولا اللغوي إذا لم يتدرع بالوعي السياسي؟
فعل التسمية حمال دلالات ولكن صوغه اللغوي جلاب غوايات. فهل نرى إلى العدد كيف ينتقل من وظيفة " تمييز" المعدود إلى وظيفة الوسم القائم بذاته فينخرط تماما في آليات البلاغة السياسية؟ من أشهر لحظات الاستخدام العددي وأمكنها يوم (الرابع عشر من جويلية) أو (الرابع عشر من يوليو) ولكن وقع الصدى يدركه من يتناغم سمعه مع إيقاعه الأصلي:
Le 14 juillet
وبديهي أن يسقط من التداول – بحكم قانون الاقتصاد في الأداة اللغوي – أهم مكون دلالي في تأثيث المعنى وهو التنصيص على العام المقصود (1789) تاريخ الثورة الفرنسية. لم يعد التاريخ تاريخا وإنما غدا اسما، ومسماه هو التاريخ بدءا، ثمّ هو ما حمله التاريخ من نسق أتت به الوقائع الحاصلة في لحظة التاريخ. ولم يتردد صانعو التاريخ ولا كاتبوه في أن يصونوا اللفظ الذي يعلن عن الزمن، وهو لفظ (الثورة) لأنه كان (دالا) وكان (مدلوله) متحينا في التاريخ، فثورة الشعب قد صنعت الحدث. وتحضر إلى ذاكرتنا التسمية ثانية ولكن في نسق دلالي آخر. ما حصل في الثالث والعشرين من يوليو 1952 هو فعل تاريخي أنجزته المؤسسة العسكرية لإنقاذ البلاد المصرية من مأزق عويص فكان (انقلابا) سرعان ما اصطلح عليه بلفظ (حركة) ثمّ أرسل لاحقا لفظ (الثورة ) بناء على الإنجازات التي حققتها (الحركة) وكان أن انبثق متألقا بعد ذلك الوقت مصطلح (الضباط الأحرار) فائتلف من اللغة نسيج تركيبي يكشف (فاعل الفعل) ويحدد (المفعول لأجله) وهو غاية المرام ومرمى المقاصد: هي حركة قادها ضباط عزموا على تحرير وطنهم مما تردى إليه. على المنوال ذاته، وبناء على تجاوب الجماهير العربية وتعاطفها مع الثورة في مصر، فإن العسكريين العراقيين الذين قاموا بانقلاب (13-07-1958) بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف قد سموا أنفسهم أيضا (الضباط الأحرار) وإذ أجهزوا على الملك فيصل الثاني ثمّ على نوري السعيد هيأوا انسحاب العراق من (حلف بغداد) وذلك في (24 -03-1959) وإذا بدلالة (الأحرار) تجد في الوقائع ما يسوّغ المحاكاة اللغوية بين الحدثين العربيين.
كان قد بدا من بعض السياق أن يكتفي التداول اللغوي بذكر (الثالث والعشرين من يوليو) مستغنيا عن التذكير بالسنة كما حصل مع الأداء في تاريخ الثورة الفرنسية على لسان أهلها وبلسان أهلها، ثمّ بدت ملامح سياق آخر يستغنى عن ذكر اليوم والشهر ويكتفي بذكر العام، وذلك حين يكون مجال النظر السياق الأكبر لا السياق الأصغر، ويتعين الوقوف عند حدود الأعوام كلما تراءت ملامح المقارنة الضمنية: ثورة (اثنين وخمسين) بالنطق الجماهيري قبالة ثورة (تسعْتاشرْ) وهذا ضرب من التعالق خصوصا عندما نذكر ريادة الوفد وزعامة سعد زغلول في المطالبة بالاستقلال واستنهاض الهمم لمجابهة (الإنجليز) وذلك عام 1919.
ويظل من المقطوع به – حدسا أو رصدا – أن التحول "الميتامورفوزي" من تاريخ الحدث إلى ذات الحدث، ثمّ من تعيين الحدث إلى ما يرمز إليه النطق باسم الحدث، ثمّ من ذلك كله إلى اتخاذ جاءت به الوقائع الحاصلة في نيويورك يوم (11-09-2001) فمنذ البدء يتعطل الحديث عن ذلك دون إحساس بحتمية الانخراط داخل سياج الدلالة. قل (أحداث الحادي عشر من سبتمبر) أو (تفجيرات...) أو (جرائم...) أو (العمليات الإرهابية...) فلن تفلت من قبضة اللغة لأنك محمول حملا على "اتخاذ موقع" داخل سياج الخطاب حتى ولو قلت فقط (تفجير الأبراج). تتنوع لوحة الرسوم التعبيرية بحسب خصوصيات اللسنة الطبيعية: في العربية غلبت تسمية ذاك الشهر باسم (سبتمبر) حتى في الأقطار التي تتداول تسمية أخرى (أيلول) لأن الأداء الصوتي بالنطق أصبح من مصاحبات القصد الدلالي.
وتجرد التاريخ من ذلك العام حتى بدأت ذاكرة الناس تتلكأ في أنه (2001) وبقي الاكتفاء بأسلوب تعيين التواريخ. تقول الفرنسية (الحادي عشر من سبتمبر) وكأنها تسمية ترسل على كائن مجسد أو مشخص:
Le onze septembre
وقلما يفوه الناس عند التداول بأن يقولوا (الحادي عشر من الشهر التاسع).
Le onze neuf
وتقول الإنجليزية التاريخ بترتيب مغاير: الشهر بدءا ثمّ يتلوه اليوم من ذلك الشهر (أحداث التاسع – الحادي عشر) لقد أصدر نوام تشومسكي كتابا جمع فيه حوارا ته حول الحدث فكان عنوانه مقتصرا على الأرقام مكتوبة دونما حروف لغوية تترجمها فجاء:
11/9
وترجم إلى الفرنسية فجاء عنوانه على سفر الكتاب:
11/9
وأنتج ميكاييل موور فيلمه الشهير
Fahrenheit 9/11
الذي حصد الجائز الذهبية في مهرجان السينما في مدينة كان الفرنسية (2004).
كان التكريس قد بلغ مداه الأوفى عبر توظيف السياسة للآلة اللغوية بتضمين رمزي مكين: فرقم هاتف النجدة في الولايات المتحدة – لأي استنجاد كان – أصبح (911) والإدارة الأمريكية اتخذت في (18- 12-2001) قرارا بجعل يوم (الحادي عشر من سبتمبر) من كل عام (يوم إجازة) يحتفى به على مبدإ أنه (يوم الوطنيين).
إنّها سلطة اللغة داخل شباك السياسة، وإنّها سلطة السياسة داخل قلعة اللغة، فأي بلاغة هي تلك نتحدث عنها شعرا وأدبا إن نحن غفلنا عن البلاغة تحت أخبية السياسة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق