الثلاثاء، 8 مايو 2018

أصواط أو المماثلة الصوتية


أَصْواط ...

جاءت وسائل التواصل الاجتماعيّ فغيّرت أشياء كثيرة، وستغيّر أشياء كثيرة، فنحن اليوم لا نرى منها إلاّ رأس جبلها الجليديّ. الهاتف الذكيّ يشبه فانوس علاء الدين السحريّ! إلى حدّ ما، فوجوده جعل من الواقع الافتراضيّ واقعاً حقيقياً من لحم ودم وأعصاب.  ومن الأشياء التي غيّرها هذا الفانوس الرقميّ الذي يعتمد على حاسّة اللمس كما اعتمد سلفه الساحر، وفتح بابها على مصراعيه الكتابة وأيضاً القراءة. قد يقول قائل: إنّ نسبة القراءة انخفضت، وسوق الكتاب الكاسد أكبر برهان. هذا كلام يُرمى في نظري على عواهنه. سأدخل على عالم القراءة من خلال طرح السؤال التالي: هل زادت نسبة الكلمات التي يقرأها المرء يومياً أم انخفضت؟ من دون أن أقيّد السؤال بكتاب أو مجلّة أو جريدة. القراءة وجدت قبل الكتاب، وستبقى بعد الكتاب الورقي الذي اعتدنا عليه.  لننظر في أمر الوتسأب، والفايسبوك، وتويتر، وغيرهم من وسائل الاتصال، وننظر إلى عدد القرّاء والكتّاب أو " الكتبة"، ويمكن هنا اللعب على مستويات الجمع، فاللغة العربية أعطتنا فرصة تحويل صيغ الجمع إلى ملعب دلاليّ. وهذا ما نراه في حالات متعدّدة، فالسهم مثلاً جمعه سهام وأسهم، ولكننا، في الاستعمال - والاستعمال، من الوجهة اللغوية المحض هو المعيار والميزان - ميّزنا بين أسهم البورصة وسهام القوس، كما ميّزنا بين بيوت الناس وبيوتات الناس، صيغ الجموع تلوّن المعنى.
باب الكتابة مفتوح لكلّ الناس، ولم يعد التعبير عن الرأي حكراً على أهل الرأي. صارت الكتابة لمن يعرف أن يكتب ولمن لا يعرف أن يكتب. صارت الكتابة تشبه حقّ التصويت الانتخابيّ الذي لا يميّز بين من يعرف ومن لا يعرف. الصوت الانتخابي لا يعترف بطبقات ومستويات وأغنياء وفقراء، وهكذا الكتابة. جاءت وسائل التواصل على حين غرّة ، وفاجأت كثيرين كانوا قد نسوا الكتابة، ونفروا من القراءة، وجدوا أنفسهم بغتةً في خضمّ وسائل التواصل، فاستيقظت رغبات مكبوتة، أو نائمة أو غير مكتملة، رغبات في التعبير عن مكنون النفس أو عن أحداث الساعة، وأحداث الساعة جذّابة، تغري الأصابع بلمس أزرار لوحة المفاتيح، وتغري النفس بالمشاركة في التعليق على الأحداث، فصار من لا يحبّ أن يكتب يحبّ أن يكتب. والكتابة في العصر الرقميّ كالتثاؤب تعدي.
والناس هنا نوعان: نوع خجول، ونوع جريء، والكتابة في أي حال تتطلّب جرأة، ان لم تكن جرأة فكرية ففي الأقلّ جرأة لغوية. هناك من وجد في استخدام "لغة النتّ" ملاذا لغوياً آمناً، فلغة النتّ تستر عيوبا لغوية كثيرة وإن كانت نمّامة عن أمور كثيرة. اللغة أصوات، والحروف صور رمزيّة للأصوات، وحين انتقل من نظام الفبائي الى نظام الفبائي آخر أغيّب أخطاء، وأخدع عين القارىء، في أي حال، كنت قد كتبت اكثر من مرّة عن  ظاهرة "لغة النت"، وليس هنا مجال تفصيل هذه الظاهرة ذات الدلالات المتعددة والثريّة، وإنما عرضت لها لأنها تحجب خصيصة صوتية عربية هي التفخيم والترقيق. لا تخلو لغة من مجموعة من الثنائيات، كلّ لغة هي عبارة عن تناوب بين الصوامت والصوائت أو ما يسمى بالحروف والحركات، وكذلك ثنائية المهموس والمجهور، وهذا ما نراه بين " زار" و "سار" مثلا، وثنائية التفخيم والترقيق أيضاً من ظواهر اللغة العربية، فثمّة فرق بين " طين" و " تين"، وبين " سار" و " صار" . ولكن عالم الأصوات غير عالم الكتابة، نادراً ما تجد كتابة أمينة للصوت، وأذكر عبارة قالها اللغوي الفرنسي جوزيف فندريس " الكتابة الفرنسية كارثة وطنية" ويقصد بذلك أنّ الكتابة خيانة صوتية، فحرف “s”  ليس s” دائما فهو يلفظ طورا “z”  كما في maison”  وطورا آخر  “t” كما في “nation” وطوراً تكتبه ولكن ممنوع عليك أن تلفظه،  والأمثلة في الانكليزية لا تقلّ كارثية. وما نراه في الفرنسية أو الانكليزية يمكن أن نراه في العربية، يكفي النظر الى الحروف الشمسية لنرى كيف تلعب بحرف اللام في "ال" التعريف ، نكتبها رغم غيابها صوتيا، بل والهزء ممّن يرتكب فمه اثم التلفّظ بها، ولننظر إلى ظاهرة التنوين، حيث تطلّ النون صوتيّاً برأسها من كلمات كثيرة ولكن ممنوع عليها أن تسفر عن وجهها المكتوب الذي يبدو إن ظهر كما لو أنّه عورة خطّيّة!، ولننظر إلى الأصوات المفخّمة والأصوات المرقّقة لنرى الفارق بين ما ينطق به الفم وبين ما تخطّه اليد.
أتوقف هنا عند الكلمة التي اخترتها عنوانا لهذا المقال، وهي كلمة " أصواط" . العين تندّد بها، ولكن هل هذا رأي الأذن؟ واللغة سماع. أين الصواب هنا؟ هل أسمع كلمة أذني؟ أم أسمع كلمة عيني؟ ولمن يخضع قلمي الحائر بين العين والأذن؟ هل يستجيب للمنطق الصوتي أم يستجيب للمنطق الإملائي؟ مشكلة من لم يتمرّس بالكتابة أو القراءة هي الارتباك، ترتبك الكلمات على طرف أصابعه، فكثيرون تواجههم صعوبات كتابية بين حرفَي الـ " ذ" والـ "ز"، وبين الـ " ت" والـ " ط". واليوم قرأت  عبارة " إطقان العمل" ولم تكن التاء هنا إلاّ ضحية " القاف" ، كما قرأت اليوم أيضا، وبمحض المصادفة كلمة " أصواط" حيث التاء هنا كانت ضحية حرف الصاد، وكثيرا ما تقع الحروف ضحيّة بعضها البعض في عالم الكتابة او في عالم النطق.  ومن طريف الأمور ان بعض المفردات كان حظّها يفلق الصخر واعتبرت صوابا رغم أنّها عند التدبّر لا بدّ من أن تكون جميعها صوراً لصوت واحد أو حرف واحد، وسأكتفي بمثال واحد هو الزعتر الذي يجوز أن تكتبه سعتر ويجوز أن تكتبه صعتر، لأنّ المعجم قد اعترف بالأشكال الثلاثة.
في اللغة العربية، وفي لغات كثيرة أخرى هناك قانون صوتيّ يسمّى " المماثلة الصوتية" أي ان يتخلى صوت ما عن خصائصه الصوتية كرمى لعيني حرف آخر. وفي عالم الأصوات كما في عالم الناس تنازلات! وسأعطي بعض الأمثلة التي على ضوئها يمكن أن نفهم ظاهرة الأخطاء الكتابية المتفشية على وسائل التواصل لدى من أجبرته " الظروف الرقمية" على الكتابة، فكلمة " أصوات " لا تختلف ، صوتيا، عن كلمة " صراط" التي تكتب أيضا " سراط"، ولكن الغلبة في الكتابة للصاد وليس للسين، فالتفخيم أقوى من الترقيق، والانتصار، أغلب الأحيان، للأقوى، لهذا انتصرت الصاد على السين في كلمة " صراط"، ومن يحسن الأصغاء لما تنبس به شفتاه يدرك أنّ التلفّظ بكلمة " أصوات" يميل إلى تفخيم " التاء" لتصير قريبة من نطق حرف الصاد، وهنا تكمن " قشرة الموزة"  التي تتعثّر بها أصابع من يكتب، فهو يثق بصوته، وصوته يميل إلى الصاد، ولكنه لا يعرف أنّ قوانين الكتابة لها مبّررات لغوية وغير لغوية عديدة تبيح لها أن لا تأخذ بعين الاعتبار ما يمليه صوتك.
قواعد الإملاء تثير غيظ الأصوات، ولكن الصوت عبد مأمور في بلاط جلالة المكتوب!
بلال عبد الهادي