الثلاثاء، 15 أغسطس 2017

داعش

#داعش تمثال أميركيّ منحوت في صخر عربيّ؟!

العجر والبجر

استغناء المرء عن السياسيين بعجرهم وبجرهم أجمل نعمة يمنحها الله لعباده.

العلاج بالألوان


الإنسان يعيش في عالم من الألوان حتّى العميان ! لا يمكنك أن تمنع أثر الألوان عنهم أو عليهم، حقيقة لا مجازاً. وثمّة عدّة مؤلفات حول الصورة الشعرية عند الشعراء العميان، والصورة الشعرية اللونية تحديداً. الإنسان لغروره وطيشه يظنّ أنّه يعرف، وفي كل يوم يكتشف كم هو جاهل، وكم أنّه لا يعرف من جمل المعرفة إلاّ أذنه. ومن الممتع في اي حال دراسة رأي العميان بالألوان. فاللون لونان : لون علاقتي به ثقافية، ولون علاقتي به بيولوجية. يلتبس الأمر أحيانا على العين العجول فتظنّ الثقافيّ بيولوجيّا، أو تظنّ البيولوجيّ مسألة ثقافيّة.
كنت قد قرأت، ذات يوم، عن أعمى يعرف كيف يميّز بين الألوان! حين أروي حكايته يظنّ السامع أني أختلق الحكايات أو أنّي أتكلم عن الكرامات والمعجزات، رغم أن ما أقوله هو مسألة علمية محض، وبعض العلم له هيئة الأساطير، أو هيئة الخرافات.
كيف يستطيع أعمى أن يعرف اللون، والحاسة التي تتعامل مع الألوان هي حاسة النظر؟  هكذا يردّ عليّ أغلب من أكلمه عن ذلك الأعمى الماهر في معرفة الألوان. مشكلة هذا السؤال أنه لا يرى الأمور إلاّ من منظور واحد، والمنظور الواحد أيا كانت صوابيته هو عرضة للخطأ.
من المعروف ان خسارة حاسّة تغني بقية الحواسّ، وهذا ما اكتشفه مؤخرا وبشكل مدهش علم الأعصاب وخصوصا الفرع الذي يتناول ما يسمّى " لدونة الدماغ أو ليونة الدماغ". كيف بمقدور أعمى أن يعرف الألوان؟ عن طريق حاسّة اللمس! وحاسة اللمس فريدة من نوعها بين الحواس، ولكلّ حاسّة طاقات عجيبة غريبة. حاسة النظر مستقرها الرأس، وكذلك الأمر فيما يخصّ حاسة السمع، وحاسة الشمّ وحاسّة الذوق. وحدها تتفرّد حاسة المس بأنها منتشرة على سطح الجسد كلّه، لا توجد نقطة في ظاهر الجسد ليست بمنأى عن حاسة اللمس. وما أقوله أحيانا أن حاسّة اللمس قسمت  العالم الإسلامي قسمين، وذلك من خلال تفسير فعل " لامس" في القرآن الكريم. ويمكن لمن أحب أن يعود إلى كتب التفاسير ليرى هذا الانقسام اللمسيّ .
كيف كان الأعمى يتعامل لمسيّا مع الألوان؟  نقول عن الأعمى إنّه مرهف الأذن، سِمِّيع من طراز فريد. ولكن، فيما يبدو، ثمّة عميان لهم حاسة لمسية مذهلة. فاللون له علاقات مميزة ليس فقط مع العين وإنما أيضا مع اللمس. فاللون باعث حرارة، ولكلّ لون درجة حرارة مختلفة عن الثانية. كان ذلك الأعمى ذا مقدرة فذّة على معرفة اللون من حرارته، فما إن يضع يده على اللون حتّى يعلن بنجاح خلاّب اسمه. وما هو أغرب من ذلك ربّما أن البعض يسمع صوت اللون، ويعرف اللون من صوته. نحن نعرف أن في عالم المجاز تعبيرا دالا، وهو:" الألوان الصاخبة"، وصخب الألوان تعبير مقطوف من حقل الأصوات. أيمكن أن يكون للون صوت؟ هذا ما يقوله الكاتب جان غبريال غوس في كتابه " السلطان المدهش للألوان  l'étonnant pouvoir des couleurs" . كيف يمكن للمرء أن يسمع اللون؟ يقول الكاتب إنّ للون ذبذبات، والذبذبة حركة. ثمّة اليوم علاج بالألوان باستخدام البذبات اللونيّة. كما هناك موجة صوتية، هناك موجة لونيّة. والطريف علاقة المرء بالمعرفة المائية. فالموجة بنت البحر. والباحث عن المعرفة في الفضاء السيبرنيّ هو " بحّار" على ما تقول اللغة الإنكليزية. ليس هناك موجة خرساء. الأمواج ثرثارة، زبدها نصوص. فلا مفرّ من هدير أو خرير! والحواس تتبادل الأدوار، وكان ابن الفارض سلطان العاشقين قد كتب عن ذلك في لحظة كشف مذهلة عددا من الأبيات هي جواب شعري، وجواب صوفي، ولكن العلم ، فيما يبدو، قد أثبت ما قاله ابن الفارض في الأبيات التالية:
عيني ناجت، واللسان مشاهدٌ،
وينطق منّي السمعُ، واليدُ أصغتِ
وسمْعي عينٌ تجتلي كلَّ ما بدا،
وعيني سمْع، إن شدا القومُ تنصتِ
كذاك يدي عين ترى كلّ ما بدا،
وعيني يدٌ مبسوطةٌ عند بسْطتي
وسمعي لسانٌ في مخاطبتي، كذا
لساني، في إصغائه، سَمْعُ مُنْصتِ.
فذلك الشخص الذي يسمع الألوان، كان قد وُضع في مكان يتعذّر عليه فيه رؤية الألوان ، ولكن ما هي الا هنيهات حتى يكتشف اللون، عن طريق صوته. قلت ان اللون موجة أي حركة، ولا تخلو حركة من صوت. كان ابن سينا قد لخّص مصدر الصوت في عبارة واحدة، قال: "الصوت وليد القلع والقرع". والقلع حركة مثلما القرع! ولكلّ لون طول موجة مختلف عن الألوان الأخرى. وكان من طول الموجة يعرف اللون، ويسمع صوته تماما كما يسمع الموجة الصوتية!
اللون عالم مفتوح على كل مناحي الحياة الإنسانيّة. والعلماء ، اليوم، يحاولون اكتشاف دور الألوان في حياة الانسان النفسية والعقلية والجسدية. يدرسون الدور الذي يمكن أن يؤديه في المدارس. وبعض المدارس في ألمانيا قامت بتجارب متعددة حول قدرة اللون على رفع مستوى التعليم، ورفع مستوى الاستيعاب لدى الطلاب، فللألوان علاقة مذهلة مع الذاكرة!
المدارس عادة تخصص لكل مرحلة تعليمية قاعة واحدة من أول العام الدراسي إلى آخره. حاول بعض علماء التربية تبيان خطورة ذلك على مستوى التعليم نفسه. راحوا يدرسون عيوب القاعة الواحدة عيبا عيبا، وخصوصا في الصفوف الابتدائية. أوّل العيوب هو الرتابة، فأن تقعد في مكان واحد على امتداد ساعات وساعات مجلبة للكآبة والرتابة معا. والطفل ملول، والقاعة تغريه بالملل! ، العيب الثاني هو انك تتعامل مع كل المواد التعليمية معاملة واحدة، لأنّك تضعها كلّها في صفّ واحد. والصفّ الواحد ذو لون واحد. وأمزجة المواد اللونية مختلفة، فاللون المفضل للرياضيات هو غير اللون المفضّل للغات، وهو غير اللون المفضّل للفيزياء أو الكيمياء. راح العلماء يبحثون عن معرفة المزاج اللونيّ للمواد العلمية، واقترحوا ان يتنقل الطالب خلال اليوم الواحد من قاعة إلى أخرى تبعا للمادّة المنوي تدريسها. فهناك القاعة ذات اللون الأزرق، والقاعة ذات اللون الاخضر المصفرّ، والقاعة ذات اللون الزهريّ، والقاعة ذات اللون البرتقالي، كما استبعدوا كليا الألوان البيضاء والسوداء والبنية لأنها ألوان محبطة للأطفال، ومثبطة للهمم!  كانت نتيجة التطبيق تحسّن مستوى استيعاب الطلاّب للموادّ وتحسّن سلوكهم الاجتماعيّ.
وما يقال عن الأطفال لونيّا يمكن أن يقال أيضا عن النبات والحيوان، فللنباتات ألوانها المفضلة وكذلك للحيوانات. ولقد اكتشف أحد الباحثين ولع النبات باللون الأحمر إذ وضع عددا من النباتات المتشابهة تحت أضواء مختلفة الألوان فتبيّن له أن النباتات التي عاشت تحت الأضواء الحمراء نمت بشكل أسرع من غيرها، وطالت سيقانها أكثر من زميلاتها، وتفتحت براعمها عن أزهار أجمل!
بلال عبد الهادي




الجمعة، 11 أغسطس 2017

الجنازة كنز

جنائز وكنوز
هل من فارق بين " الكنز" و " والجنازة" ؟ ما كان خطر ببالي أن أطرح هذا السؤال لو لم أقرأ ان فعل" كنز" وفعل" "جنز" هما في الأساس فعل واحد توارت أحاديته خلف ثنائية ظاهرة للعيان. والعيان يخدع العيون.
والإبدال الصوتيّ بين الحروف ليس حالة مستحيلة ولا نادرة، بل هي من صلب القوانين الصوتية. ومن يطالع كتب " الإبدال الصوتي" يكتشف خيرات كثيرة  وكنوزاً دلاليّة طريفة السيرة. فلكلّ كلمة سيرة ذاتية، وخبرة، وتجربة.
ومن ينصت بتمعن إلى ما يخرج من بين شفتيه وشفاه من يعرف ينتبه إلى أنّ ابدال صوت بصوت مسألة عادية في اللهجات، والإبدال الصوتيّ قد يكون بين حرف وحرف، أو حركة وحركة. حدّق مثلاً الى الفتحة والضمة والكسرة في عين فعل المضارع " ينزل"، وتأمّل كيف تسمعها من اصدقائك أو معارفك.
فشخص يقول: " بدّي انزَل ع البلد" بفتح حرف الزاي، او " انزُل ع البلد" بضمّ حرف الزاي، أو " انزِل ع البلد" بكسر حرف الزاي. فحركة عين فعل المضارع لا تضارعها حركة في النطنطة! وما تراه على مستوى الحركات تراه على مستوى الحروف. الكاف لها طرائق في النطق مختلفة من بلد الى بلد، والجيم له حالات نطق تقرب من الكاف، والأمر ليس بغريب.
والكنز جاء من الجنز. كيف؟ كلّكم تسمعون بلصوص القبور. ماذا يسرق انسان من قبر؟ هل يسرق هيكلا عظميا؟بالتأكيد لن يحسن استخدام الهياكل العظمية او بقايا ، وان كان للهياكل العظمية فوائد لا تنكر في قراءة التاريخ. فالعظام أرشيف اجتماعي وسياسي ودينيّ. وكنت قد قرأت ان العلماء الاجتماع يدرسون العظام القديمة لاستخراج انواع المآطل التي تؤكل.
كان بعض الناس يلبّسون أسنانهم بالذهب، فكان السارق ينكش القبر أو ينبشه القبر  ليسرق تلبيسة الذهب، أي أنّ الجنز يحمل الذهب.
والصلة بين الكنز والجنز هي ان كلاهما مطمور تحت الأرض، ومتوار عن الأنظار. فالكنز يحبّ السترة! والاختفاء صلة الوصل الدلالية بين الكلمتين.
الحفر للحصول على الكنز كحفر القبر للحصول على تلابيس الأسنان الذهبيّة. وانا هنا اختصرت المسألة بتلابيس الذهب، ولكن نعرف ان الميت، في المعتقدات القديمة، كان يأخذ معه أشياء كثيرة، وليس فقط اسنانه الذهبية. ولا تزال الى اليوم ، في اي حال، القبور كنوز!
وهل الأهرامات غير مدافن مليئة بالكنوز والأسرار والأفكار؟ بل لا تزال الى اليوم كما قلت تعتبر الهياكل العظمية أرشيفا قابلاً للدرس بغرض معرفة كيف كان يأكل الانسان وماذا كان يأكل؟ كما أني قرأت في كتاب عن تاريخ المجاعات  ان العلماء يدرسون عظام الموتى لاستخراج أسباب المجاعات ؟

لا أحد يستهين بالعظم! فالهيكل العظميّ، من الناحية المعجميّة، منجاب ولود. في لغتنا العربية نقول الملك " المفدّى" ولكن " المعظّم"!  وهل كان لهذه الكلمة وجود لولا العظام؟ وكيف لأمرئ أن " يستعظم" أمراً من الأمور لولا العظام؟ ومن هو الإنسان " العظيم" لو لم تتبرّع له " العظْمة" بشيء من " العظَمة"؟

رتـْق الذاكرة وفحولة اللسان من مقالات كتاب #لعنة_بابل

لعنة بابل



الإنسان ذاكرة، ذهابها يحيله أشلاء إنسان. وكيف لا يحيله أشلاء إنسان وهو حين يفقدها يفقد صلته بذاته وحياته قبل فقده صلته بالآخرين؟ وما من ذاكرة إلاّ وتمكر بصاحبها مكر مخالب الهرّ بذعر الفأر. ولكن لا يمكن للإنسان أن يستسلم لمكر الذاكرة فراح يعمل على  نسخ محتوياتها حتى إذا ما نفرت منه يستعيدها عن طريق الكتاب والكتابة.

الكتابة، لغوياً، هي رتق الذاكرة المفتوقة. هذا ما تقوله اللغة العربية نفسها من خلال طبيعتها الاشتقاقيّة. ومن حسنات اللغة أنها لا تكذب وإن استُعملت، أحياناً، من قبل مستخدميها لتلفيق الكذب.( ثمّة عبارة عربية مأثورة في كتب البلاغة تربط بين الشعر والكذب فتقول: أعذب الشعر "أكذبه"!) وهذا ما دفع هايدغر الفيلسوف الألمانيّ  الوجودي  تخلّصاً من " مائيتها"، و "هوائيتها" و" حربائيّتها" إلى إطلاق لقب "المخادع" على مستعملها قائلاً:" نحن لا نستعمل اللغة لنعبّر عن أفكارنا وإنّما لإخفائها" أو طمس المقاصد الخفيّة أو خداع سامعيها للإيقاع بهم. ولكن هذه حكاية أخرى.

كيف ترتق الكتابة الذاكرة؟ الكتابة نفسها تعني، من جملة دلالاتها، الرتق ولمّ شمل ما تفرّق؟ كيف؟ الرتق بالخيط، والكتابة خياطة وتطريز ( بالمناسبة كلمات "الحقل المعجميّ للخياطة" في النقد الأدبي القديم عديدة، وطالما تعجبت من كثرة مفردات الخياطة على أسلات أقلام الكتّاب، فالكتابة وشْي وتطريز وحبْك، ونقول نسيج النصّ، ونقول "نسج" الشاعر قصيدته على "منوال"... وللـ"نول" صلة عضوية بالحياكة، ولا تخلو الحياكة من قربى صوتية مع الحكاية!).

الأصوات اللغويّة تتبادل الأدوار أحياناً. يحلّ حرف مطرح حرف، في اللغة العربية، يكفي فتح أيّ كتاب عن "الإبدال الصوتي" ككتاب "الإبدال" للّغويّ ابن السكّيت، مثلاً، لترى ما يثير الفتنة. وما كلامي هنا الا ابن شرعيّ، فيما أظنّ! لهذه الفتنة اللغويّة إذ قرأت أنّ "كتب" و"قطب" هما، في الأصل، جذر واحد. وبفعل الجغرافيا التي تلعب بأفواه الناس ومخارج أصواتهم وصفاتها نبتت (كَتَبَ) من "ضلع" (قطب) كما نبتت  حوّاء من ضلع آدم. وفعل "قطب" يعني إعادة الوصل بين منفصلين بفعل التمزق والفتوق. نرتق القميص الممزّق او المفتوق. نستعمل الخيط والإبرة لنقطب ونرتق الفتق. وما من أحد حصيف إلاّ ويحلم بمعرفة "القطبة المخفية" للأشياء!

ما هو النسيان؟ تسرب معلومة من فتوق الذاكرة تسرّب الماء من فروج الأصابع. كيف ننقذ معلومة أثيرة من ألاعيب النسيان؟ نلجأ إلى الكتابة أي إلى تقييد المعلومة، ويقول حديث شريف مأثور " قيّدوا العلم بالكتابة"، أي انّ الكتابة قيد يشلّ حركة النسيان. ومن هنا، كان "تقطيب" فتوق الذاكرة، ولكن بفعل دوران الزمان وحركات اللسان صارت الـ"طاء" تخرج من الفم كالـ "تاء"، وتحولت الـ"قاف" إلى "كاف"؟ ألا نسمع، اليوم، كيف تخرج "القاف" من  أفواه بعض الناس أقرب إلى صوت الـ"كاف"؟ وهكذا ولد فعل جديد، وما كان له أن يبصر النور لو كان لدى العرب يوم النطق به كتابة تقيّد حركات الأفواه، لأنّه كان سينبذ، سيرمى خارج أسوار المعاجم، ويعتبر لقيطاً، لا أم له ولا أب، وتستحقّ الكلمات اللقيطة في العربية الدرس والاحتضان ( هنا أحيل الى تشبيهي لولادة حواء من صلب آدم، اي لم تخرج من صلب أم ولا أب وانما( ويا للمفارقة الفردوسية! ) من صلب زوج.

وحين بدأ العرب بالتدوين أدخلوا هذا الخطأ النطقيّ في المعجم وأفردوا له قاعة خاصة ( مفتاح مادّة). وصار الخطأ النطقيّ كلمة لا غبار يشين دمها الأزرق.

وأخيرا أصل إلى سؤالي التالي: هل من علاقة بين الكتابة والممارسة الجنسية؟ لا أزال هنا أحوم حول الفكرة نفسها. كيف؟ إذا كانت الكتابة وسيلة لحفظ نسل الأفكار والذكريات ووووو… فالذكَر  بمعنى ( عضو الرجل) هو، بدوره، وسيلة لحفظ النسل و"الذكرى". الإبن ذكرى من ذَكَر أبيه. والذكرى تقاوم النسيان ( والنسيان نوع من أنواع الموت أو العدم) بالقدر نفسه الذي يحفظ فيه الولد ذكرى أبيه واسم أبيه.

هنا، أيضا تقاسم أدوار، بين الذكر والذاكرة. الذكَر يضع الانسان ( وهْماً) في صلب المستقبل. بينما الذاكرة تضع الماضي في صلب الحاضر، ومن ثمّ، لمن له حظّ بشيئ من الخلود المؤقت، تضعه في صلب المستقبل أيضاً.

الجاحظ، مثلا، ابن الماضي ولكنّه لا يزال بيننا بفضل شحم كلماته ولحم أفكاره، لا تزال كتاباته تتناسل في أرحام كتب اللأخرين (وهل مفهوم التناصّ Intertextualité يختلف عن التناسل النصّي؟)

وأقف عند النسل قائلاً: إنّ الكتاب من نسل الكاتب، كما ولده من نسله ( كان الجاحظ لا يفرّق بين الكتاب والولد) وهذا ما تقوله اللغة أيضاً، فأنا لا أحبّ أن أعصي اللغة، لا أحبّ العقوق اللغويّ، لأنه أشرس من العقوق "البنويّ" بالمفهوم الصيني، فعدم البرّ لا يختلف كثيراً، من منظور الحكيم الصينيّ كونفوشيوس، عن الكفر بمفهوم الثقافة الاسلامية.

وهنا أستعين برجل العربية الكبير ونظريته في التقليبات الصوتية، عنيت ابن جنّي، وهو بحقّ، جنّيّ لغويّ! إذ يرى أنّ "نسل" و"لسن" كما نرى لا يختلفان إلاّ بترتيب الحروف. وعليه، لا بدّ من وجود خيط دلاليّ واحد يجمع حبّات مفرداتهما. وهو جمع قام به العبقريّ اللغويّ الآخر الخليل بن أحمد الفراهيديّ في "معجم العين" إذ  لمّ شملهما في مدخل واحد. والجمع يغري بالجماع، والجماع ( قبل حبوب منع الحبل) كان يكثّر العدد. وهنا أيضا أذكر( من الذاكرة!) كيف أنّ بعض المستشرقين الفرنسيين كانوا يسمون جذر الكلمة أو حروفها الثلاثيّة بالرحم matrice ، وكنت أشعر بدهاء الفرنسيّ وهو يترجم الجذر اللغويّ أو الأصل اللغويّ إلى "رحم" ليؤكّد على أنثوية اللغة. ليتمّ، من ثمّ، التعادل بين "فحولة" الشاعر و"أنوثة" اللغة أو أنوثة القصيدة.

فاللغة العربية، من المنظور الفرنسي، لها رحم .وهي، أي اللغة العربية، من منظور الشاعر الفذّ أبي تمام، لها فرج عذراء. وهذا ما يقوله شاعر الاستعارات البعيدة بعظمة لسانه ( "العظمة" في اللغة العبرية تقوم  مقام كلمة "نفس" أو "ذات" في اللغة العربية) وهذا تبرير للتعبير العربيّ إذ ليس للسان عظم، فهو كتلة عضليّة يغيّر شكله كالعضو العضليّ الآخر الذي يغيّر، أيضاً، شكله بسبب خلوه من العظم لا من العضل! أي أنّ عضوَي النسل واللسن متشابهان، على الأقلّ، عضليّاً.

أنهي هذه العجالة ببيت أبي تمّام المثير للحيرة والتساؤل:

والشِّعْر فرْجٌ ليست خصيصتُه     طول الليالي إلاّ لمفترعه

هل تنفصل اللغة عن" الجنس"، وهي خصيصة من خصائص "الجنس" البشريّ؟

لن يقول بالانفصال بين اللغة والجنس إلاّ خصيّ أو عاقر أو ناكر لما تقوله اللغة العربيّة نفسها بلسانها وجذورها الثلاثيّة ومعاجمها الكبرى.

الفهرنت او الفهرست

الفِهْرِنْت  Webographie

مفردات اللغة أشكال ألوان. وهناك نمط من المفردات كبعض الأفراد تمتاز بالهجنة، وأقصد بالمفردات الهجينة الكلمات التي تكون على غرار الاولاد الذين يأتون من زواج مختلط، كأن تكون الأم فرنسية مسيحية مثلاً، والأب هندي سيخيّ، أو صيني بوذيّ. في اللغة كلمات لها هذه الطبيعة الهجينة. ولا تخلو لغة من اللغات من هذا الاختلاط في النسب، وهو اختلاط ضروريّ لتعيش اللغة. اللغة كالناس ليس في مكنتها الاكتفاء الذاتيّ على كلّ الصعد، فالحضارات لا تحبّ الاكتفاء الذاتيّ لأنّه، في التعمّق، يكون سبباً لضعفها أو مقتلها، لإأغلب الحضارات الكبرى ما انتعشت الاّ ذاقت حلاوة الاختلاط، من يمكنه الزعم أنّ  الولايات المتحدة الاميركية وهي الدولة الأعظم، اليوم، تتمتّع باكتفاء ذاتيّ؟ والكلمات الهجينة كلمات جميلة وطريفة وتستحقّ معجماً خاصاً بها يلقي الضوء على طريقة ولادتها وسيرة حياتها، وتقلّبها في البلدان.
ومن هذه الكلمات كلمة جديدة دخلت المعجم الفرنسيّ. كنت اقرأ في كتاب فرنسي فلفتت نظري كلمة webographie وهي كلمة لم يسبق لي ان قرأتها او سمعتها، وهي من المفردات الحديثة التي خرجت من رحم الشبكة العنكبوتية. هي فرنسية ولكنها ليست فرنسية تماماً، فالشقّ الاول منها web هو من كلمة web الانكليزية، ولكنها صيغت على غرار كلمة bibliographie. اي المراجع والمصادر التي يستعين بها كاتب ما لإنجاز بحثه، ولكنها هنا ليست مراجع كتبية وانما مراجع انترنتية تحيل الى المواقع التي اعتمد عليها كاتب ما.

تساءلت: هل يمكن ترجمة الكلمة الفرنسية " webographie " الى "فهرنت"، وهي من وحي كلمة "فهرست"  العربية ولكنها ذات أصول غير عربية، وفي " فهرنت"  تم ادخال الإنترنت وذلك عن طريق اخذ المقطع الأخير "النت" الذي يستعمل للدلالة على الانترنت. والنت لا يختلف عن آخر حرفين في الفهرست الا بالسين "الست/النت" وعليه : الفهرست = الفهرنت ؟

كتاب لعنة بابل في مكتبة جرير في السعودية

يمكن الحصول لمن يرغب على نسخة من كتاب لعنة بابل عن طريق مكتبة جرير في السعوية.

ألَمٌ ألمَّ ألَم أُلِمَّ بدائه إنْ آنَ آنٌ آنً أوانِه هل هذا البيت للمتنبي؟


هذا البيت ليس من بحر اللغة بل من مستقنع اللغة الآسن. أنقذوا العربية الجميلة من هذه الهلوسات والخزعبلات والشعوذات وهذا البيت ليس للمتني. فأرجو سحبه من التداول، ولا أعرف كيف يقع بنك عريق كـ ‫#‏البنك_العربي‬ في هذه السقطة الشعرية. إذا كانت اللغة العربية على منوال هذا البيت، فهو ليس بيتا بل أقلّ من كوخ، وهذا البيت بمفرده يبرّر للناس الهروب من هذه اللغة المجنونة. خافوا الله في لغتكم. وأستغرب جدّا ممّن يجد في هذا البيت قيمة شعرية
***
‫#‏المتنبي‬ براء من هذا الهراء! هذا البيت ليس للمتنبي. تعمّدت التحرّي عن البيت لمعرفة ما إذا كان للمتنبي أم لا. بحثت في شرح العكبري المسمّى بالتبيان في شرح الديوان، وبحثت في شرح المعرّي المسمى معجز أحمد. والبيت غير موجود لا في نسخة المعري ولا في شرح المعري. ولا أدري كيف ألصق هذا البيت بالمتنبي وهو منه براء؟ وليس له اي قصيدة تنتهي بالنون والهاء المكسورة ( نهِ). وله قصيدة واحدة تنتهي بـ ( ئِهِ). ولست أدري أي روعة لغوية يجدها من عجن الشعر وخبزه. هذا البيت كما قلت وأكرّر عدوّ للعربية مبين، وما بهكذا ابيات ترفع العربية رأسها، بل بهكذا أبيات ينكّس رأسها. أنقذونا من هذا الهراء الذي لم يتفوّه به المتنبي . ولا أدري لأيّ معقّد، لغويا، يمكن أن ينسب. إحموا العربية من انفلونزا الشعر الذي هو من هذا القبيل. اللهمّ إنّي قد بلّغت!

التاء العربية

التاء العربية المنطوقة والمكتوبة تبلبل الكثير من الأفواه والأصابع.
فالتاء الطويلة تاءان:
- تاء ليست من صلب الكلمة كما حال التاء في دَرَسَتْ.
- تاء من صلب الكلمة كما في بيت.
ولكل تاء منهما علاقة خاصة مع الألف ، وشروط.
وآخر الكلام العربيّ أكثره غير مبنيّ، أي أنه متغير. وهذا التغير يزيد البلبلة، وكثيرون يتعاملون مع الحركات تعامل الثعلب مع عنقود العنب! والتاء متطلبة ، أي بالمعنى العامي " نِيئَة" !
وهي شكلّت عقدة صوتية لدى البعض، فاستخرج منها فعل كامل الأوصاف، واسم " تأتاء"، والتأتأة مرض صوتيّ امتصّ كلمات كثيرة، فنقول حتى لمن يفأفىء أنّه يتأتىء!
ومع هذا فهي الحرف العربي الباسم! القريب من الأيقونة الصفراء الباسمة.
هل هي بسمة الهزء؟

شمس اللغة وقمرها//حكمة اللغة//ما وراء اللغة والأشياء//الكسرة والياء

اللغات رأسها ليس يابساً. وبالها طويل، وتحب المسايرة، وتدير بالها على جيرانها، واحيانا تضحي بنفسها كرمى عيون الجيران. سأعطي مثالا واحدا من اللغة العربية وهو ما يسمّى ( اصطلاحاً ) بالمماثلة الصوتية.
لغتنا العربية لغة نورانية، تحبّ الضوء لهذا قسمنا حروفنا الى حروف شمسية وحروف قمرية. حروف كالشمس وحروف كالقمر، اختيار الكلمات ليس عبثيا. احب جدّا هذا التقسيم الحرفيّ لأبجديتنا. تقسيم استعان بأشعة الشمس وضوء القمر لتبيان هويّته المشعّة.
حين اكتب الشمس لا انطق ما كتبت، واذا نطقت ما كتبت يضحك عليّ من يعرف اصول النطق العربيّ " الشمس" لا تخرج من فمي " الشمش" وانما تخرج " أشْشَمس". اللام المكتوبة لام لا وجود صوتيا لها ، تتنازل عن حضورها الصوتي لجارتها الشين، تتماهى معها، تصير هي هي. هنا اللام لها حضور صوريّ فقط ، اما اللام نفسها تبقى بجوار القمر لا تتنازل عن حقّها الصوتي فنقول " القمر" ولا نقول "أقْقَمر" مثلا.
وهكذا نجد ان " الـ التعريف" ليست " الـ" دائما فهي أحيانا " أش" التعريف واحيانا " أت" التعريف كما في " التصوير" فلا انطق التصوير وانما " أتتصوير".

حكمة اللغة
ثمّة من لا يحبّ أن يرى لأنّه يخاف على عينيه من الاثم والشطحات.بالنسبة لي احبّ ان ارى في اللغة حكيما جليلا مهيبا ، عجن الدنيا وخبزها، أتخيلها شيخا جليلا ، وأحيانا اتخيلها شهرزاد بخلاف جوهريّ وهو ان شهرزاد انتهت حكايتها في الليلة الأولى بعد الألف. واحيانا اتخيل شهرزاد تقعد حدّي ونستمع معا الى الحكايات التي تخرج من بين شفتي اللغة. تتشكّل اللغة من أحاديات وثنائيات وثلاثيات.
ومن ثنائيات اللغات ما يعرف بالصوامت والصوائت او بالـ consonne  وال voyelle  أو  كما نعرفه في العربية تحت مسمّى الحروف والحركات. إذا جئت الى اللغة العربية واطلعت على نقطة واحدة من نقاط اللغة فيما يخصّ الحروف والحركات، أجد ما يلي: الحركات اقلّ من الحروف. فالحركات في العربيّة ستّ لا ثلاث بخلاف الشائع.
فالفتحة حركة ولكن الفتحة في الواقع ليست فتحة بلا صفة. انها فتحة قصيرة، لأن الألف التي اراها في كلمة  " سافر" مثلا هي فتحة قصيرة. سأحكي هنا فقط عن العدد، عدد الحروف وعدد الحركات الشائعة اي الفتحة والضمة والكسرة. ماذا استنتج ؟
استنتج بكل بساطة ان الحركات أقل بكثير من الحروف، اي ان الحركات تنتسب الى الاقليات الصوتية، كما حال الاقليات  العرقية والدينية في الدول التي تتواجد فيها. هل يمكنني ان اتعامل مع الاقليات كما اتعامل مع الحركات؟هل بوسع خيالي ان يستوعب أنّ الاقليات حركات؟ وماذا يحدث اذا لم يستوعب؟
الاقليات الصوتية اي الفتحة والضمة والكسرة هي الاقليات العرقية والدينية والسياسية في الشعوب.اللغة بلا هذه الاقليات تموت. اعطني لغة واحدة في العالم تعيش بلا حركات، بلا فتحة أو ضمّة أو كسرة؟ العرب كانوا رائعين حين سموا الحركات حركات، لأن الحركات هي التي تحرّك اللغة. فالحركة ، كما في الأمثال، بركة.
هكذا الاقليات في بلادي، الأكثرية هي الأبجدية، ولكن كلّ الاقليات هي حركات اللغة هي فتحة المجتمع وضمته وكسرته. اللغات تعيش ببركات الحركات. الاقليات في بلادنا نعمة الهية. هكذا ارى اقليات بلاد العرب.اللغة درس في الحكمة.

ما وراء اللغة والأشياء

أحب أن أرى في اللغة شيئا غير اللغة. فنحن لا نرى الاشياء دائما حين نراها وانما نرى فيها اشياء أخرى ونرى من خلالها اشياء أخرى. هكذا يتعامل الانسان مع الاشياء كلّها، انتبه ام لم ينتبه، الكبار والصغار على السواء.
سأعطي مثالا صغيرا من طقوس اطفال المسلمين الصغار، ليس كل الاطفال طبعا، ولكن قناعات الصغير قطفها من افواه الكبار . فالصغار لا ينزل عليهم الوحي من السماء. أروي، في الأقل، ما كنت قد سمعته وأنا صغير.
حكاية " نواة" التمر التي نسميها في العامية باسم " العجوة". كنت اسمع من يقول : ان من يحتفظ بعجوة من عجوات تمر الحجّ في جيبه لا يأتيه الفقر، ينعم ببركة عجوة آتية من بلاد الخير والبركة. كان حصول طفل على عجوة من تمر الحج فرحة صغيرة في جيبه الصغيرة. هل كان الطفل يرى في العجوة عجوةً أم كان يراها " حبّة البركة"؟ وما أدراك ما حبّة البركة!
انتقل من عجوة التمر الى عجوة المشمش. هل عجوة المشمش عجوة مشمش أم صفاّرة؟
كنّا ونحن صغار نأتي بعجوة المشمش ونبرد بطنها وظهرها على الحائط أو طرف رصيف حتّى نثقبهما ثمّ نأتي بشكّلة شعر او ما يقوم مقامها لاستخراج لب العجوة ورميه او اكل فتاته ان لم يكن عجوا مرّا ، وهكذا تتحول عجوة المشمش بين شفاهنا صفّارة نلعب بها. هل العجوة هنا عجوة أم صفارة؟ الأشياء كلّ الأشياء لعبة بين يدي رغباتنا اذا رأيناها لعبة.

التاء تاءان
التاء لعوب، فهي مصابة بانفصام في الشخصية لوجود شكلين لها: تاء طويلة وتاء قصيرة، وتحتاج الى طبيب نحويّ متخصص في علم اللغة النفسي! والتاء القصيرة تنفصل عن التاء الطويلة وتقطع علاقتها الصوتية معها كليا في الحالات العامية. وسأعطي مثالاً، اضعه تحت العبارة التالية:
التاء القصيرة هي كسرة، التاء القصيرة هي فتحة، التاء القصيرة هي هاء. وسأعطي أمثلة لتراها بأمّ عينك وتسمعها بصوتك اذا احببت.( ما اقوله لا ينطبق على كل العاميّات واللهجات). فتاة اسمها فاطمة ولكن اسمها يخرج من الفم ( فاطْمِي) 1- التاء هنا تحوّلت الى ياء او كسرة طويلة، وين رايحة؟ تسمعها ( وين رايحا) 2- التاء المربوطة، هنا، تحولت بسحر ساحر صوتيّ الى ألف، والالف هي فتحة طويلة. والسبب في ذلك هو الدور الذي ، خفيةً، الهاء، فالهاء مثل قائد اوركسترا تحرك بعصاها افواه الناطقين.
ان التاء تتحول ، في آخر الكلمة، الى هاء السكت. والهاء، في علم الأصوت، حرف رخو يميل طوراً الى الألف وطوراً الى الياء.
الكسرة والياء
بين الكسرة والياء يطيش صواب لوحة المفاتيح ممّا تتلقّاه من أصابع الكاتبين. يكتب شخص ما تعليقاً على "تغريدة" في موقع التواصل الاجتماعيّ " تويتر" كتبته فتاة فيقول لها مثلاً: "أحسنتي"، ثمّ يتابع كلامه بالفصحى. فمن أين اتت هذه الياء التي ليست من صلب الفصحى؟ أتت من بطن الكسرة الملفوظة وغير المرئية. الحركات في اللغات السامية خجولة لا تحبّ الظهور، تتوارى، لا تكلمك الاّ من وراء حجاب أغلب الاحيان.
يظنّ الناطق ان الكسرة ياء فيضعها ولا ينتبه ان الياء هي عمليا كسرتان لا كسرة واحدة. التمييز بين الكسرة والياء يصعب على الصغار في المدارس، وتعجبني جدا رحلتهم من الياء الى الكسرة، وهي رحلة تكتشفها اصابعهم شيئا فشيئا بفضل آذانهم. فما يميّز بين الاثنين هو المدّة الزمنية الفاصلة بين الاثنتين.


بلال عبد الهادي

الرحلة الى عنوان " لعنة بابل"


وضع تسمية لكتاب  فيه ما في التسميات من مصادفات وأقدار واختيارات أيضا, ولا ريب في أنها تمرّ بمخاضات لا تخلو من مكابدات, والكتّاب يعرفون كم أجهضوا من عناوين كادت تزيّن أغلفة كتبهم لو لم تستبدل في اللحظات الأخيرة وهنا أيضا تحلو دراسة العناوين الملغاة, أو قراءة "عناوين ما قبل الولادة" وهي تنتمي إلى جملة النصوص الموازية لأنها تعين وتضيء سيرة حياة العنوان الخفيّة، (أي أن لمسوّدات العناوين ما لمسوّدات الكتب نفسها من أهميّة) وهذا أمر لم يؤخذ كثيرا بعين الاعتبار فيما أتصوّر في دراسة النصوص التي كان ممكن ان تتوّجها هذه العناوين، لأنّ هذه الأخيرة بمثابة خيوط ينسج منها حكما ضوء جديد على النصّ وعلى الشكل النهائي الذي استوى عليه العنوان. وأظنّ مشاعر الحيرة أو "التردّد" أو "القلق"التي تنتاب المؤلف أو واضع العنوان تعود إلى وجهة النظر التي تحكم النصّ المكتوب,

ليس من السهل ولادة العنوان, فمخاضه عسير, تماما كمخاض أسماء الأعلام, التي تشترك في صنعها المصادفات والأقدار والاختيارات طبعا, فمن العناوين ما يكون جاهزا, سهلا, كاسم وليد بكر العائلة الذي لا يلاقي صعوبة في تسميته. فالاسم حاضر قبل مجيء الصبي(في المجتمعات العربية على الأقلّ) أي أن اسمه يخالف القول الشائع الذي يقوم على تأجيل التفكير بالاسم. ولا ريب في أن اختيار الاسم مسؤولية أو وعد, وفيّ أو مراوغ, لأنه يقوم بدور المفتاح إلى دهاليز النص, ولا أحد ينكر دور الاعتباط في اختيار بعض الأسماء, إلا أننا لا يمكن ان نجزم بان كل الأسماء اعتباطية, أو ان شئنا هي "اعتباطية نسبية" على ما يذهب إليه دي سوسير في تعليله لبعض الصلات غير الاعتباطية القائمة بين الدالّ والمدلول، فعنوان "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" يخلو تماما من الاعتباطية وهو عنوان لا يمكن لنا إلا أن نستشفّ منه مسار السرد في الرواية الشهيرة للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي القائم على المفارقة والتضاد وتوحيد الأضداد, وهو هنا كالدخان المتوالد من جذوة أحداث  النصّ نفسه.

كنت قد جمعت مقالاتي اللغوية لنشرها في كتاب، وهي 60 مقالاً نشرت اغلبها في جريدة الانشاء الطرابلسية. بعد ان اكتمل لم شمل المقالات، بقي علي اختيار العنوان، لم يخطر ببالي سريعا، وكان عنوان الكتاب هو آخر ما تم كتابته. اود هنا الاشارة الى كيفية تكوين الاسم الذي قرّ الاعتماد عليه، وهو "لعنة بابل". واحب هنا، الاشارة الى كيفية ورود الاسم ببالي، اي انني اريد ان اشير الى تداعيات المعاني التي أفضت الى ولادة العنوان.

كنت قد استبعدت فكرة اختيار عنوان مقالة من المقالات ليكون اسما للكتاب، رغم وجود عناوين عامة ممكن ان تكون عنوانا منها مثلاً: "ألسنة ... وأوطان" وهو عنوان مقالة عن شاعر صينيّ هاجر قريته ثمّ عاد فلم يفهم عليه صغار القرية واعتبروه غريباً عن القرية، والمقال يريد ان يتناول التطوّر الصوتيّ للغة على الألسنة.

بداية خطر  ببالي عنوان: "عش لغتك" أو "لا تلعن لغتك"، والتسميتان من وحي رغبتي في أن نعيش لغتنا العربية بلا عقد. ولكن كنت متردّدا في تبني الاسمين لقناعات لغويّة شخصيّة. كنت اريد ان أمنح العنوان فرصة أن ينطق بالعاميّة أو الفصحى كما يحلو لشفتي القارىء. وهذا لا يتوفّر للعنوانين المقترحين، فـ"عِشْ" بالعامية تلفظ "عِيش" و"لا" في العامية تتحوّل إلى "ما". ولكن كلمة " تلعن" كانت قوية الحضور، في ذهني، وكنت قد استعملتها في عنوان مقال سابق لأسجّل لحظة لغوية ما. كنت في مقهى، ذات يوم، واذ بي اسمع عجوزا يقول لصديقه : من أين أتيت بهذه المعلومة؟ فأجاب صديقه: من الانترنت. فما كان من العجوز الا ان نظر نظرة استهزاء هازّا برأسه ، وقال لصديقه: "شو بدّك بهل حكي، هيدا حكي انترنت". رنت كلمة "حكي انترنت" في ذهني، وخصوصا اني كنت قد اخترت عنوانا لزاويتي في الانشاء "حكي جرايد". اعتبرت لحظة سماعي هذه العبارة لحظة جليلة، فأنا لاوّل مرة اسمع عبارة " حكي انترنت" بالدلالة التي كانت تضمرها "حكي جرايد". وكتبت مقالا بعنوان" لا تلعن الانترنت"، ومن وحي" لا تلعن الانترنت" خطر ببالي احتمال تسمية الكتاب بـ"لا تلعن لغتك".

ذهب العنوان المحتمل " لا تلعن لغتك"، وبقيت اللعنة كمقطع من عنوان محتمل، وكلمة "اللعنة" بوجودها في كتاب عن اللغة يستدعي حضور "بابل"، وهكذا شعرت ان العنوان صار جاهزا ومقبولا ويحمل دلالات لغوية متعددة، وهو:" لعنة بابل".

لعنة بابل هي التعدّد اللغويّ بعد الوحدة اللغوية.

ولكن هل التعددية لعنة؟ إن التعددية "لعنة" بحسب سفر التكوين. ولكن هناك وجهة نظر اخرى ايضا، يضمرها قول في القرآن  الكريم.

حين كنت أعلن لبعض الزملاء عن الاسم المقترح لكتابي  كانوا يريّثون في التعليق، فكلمة " لعنة" سيئة السمعة، ومرعبة، وملعونة! وكان البعض يقول لي: كلمة لعنة في العنوان قد تنفّر القارىء، ولكن كنت أشعر أنّ العنوان يلائم جوهر الكتاب. ولكن ليس في المقالات الستين واحدة تحمل عنوان "لعنة بابل"، وإن كانت فكرة بابل موجودة في المقال الأخير" كلام الخرسان". ولهذا السبب وجدت انه من المناسب بدء الكتاب بوضع إضاءتين: الأولى من القرآن الكريم، والثانية من سفر التكوين التوراتيّ،  والإضاءتان بمثابة جسر يربط بين عنوان الكتاب ومقالاته اللغوية.

فالكتاب يتناول مجموعة من اللغات من وجهة نظري الشخصية، اي ان التعددية اللغوية من صلب الكتاب، فهناك مقالات تتناول اللغة العبريّة، والتركيّة، والكوريّة، والصينيّة، والفارسيّة، والفرنسيّة، وبالتأكيد اللغة العربية التي نظرت الى اللغات الأخرى بعيونها.

وإن كان العنوان يحمل مفردة " اللعنة " الاّ أنّ مضامين المقالات تحمل فكرة ترحّب بالتعددية اللغويّة وتعتبرها بركة ونعمة. ولكن كم من نعمة انقبلت لغباء القيّمين عليها إلى لعنة!

وفي عالمنا العربيّ ما أكثر النعم التي تحوّلت لعنات. فالنفط العربيّ نعمة من حيث ما يحمله من إمكانات تنمويّة مذهلة ، ولكن أنهي في صيغة تساؤل : هل النعمة النفطية نعمة أم لعنة؟

بلال عبد الهادي



مكتبة أحمد بيضون ( مقال منقول)

باشرْتُ اقتناءَ الكتب قبل نيّفٍ ونصف قرن وأصبح عندي اليوم مكتبة ضخمة. ويصبح للكتب مقام استثنائي التصدّر بين مقتنيات واحدنا إذا اتّفق أنه من فئة الكتّاب أو المؤلفين وممن يزاولون من بين هؤلاء حرفة البحث، على الخصوصقد تُنسب الكتب، في هذه الحال، إلى لوازم المهنة. ولكن حاجة الباحث في القانون، مثلاً، إلى الكتب ومقامها عنده شيء مختلف عن حاجة محامٍ يَقْصُر همّه على إجادة الدفاع عن مصالح موكّليه. وفي كلّ حال، يفترض أن تبقى «المطالعة» التي كانت فاتحة الطريق إلى تكوين المكتبة مواكبةً لسائر الهموم التي تتدخّل في إنماء المقتنى من الكتب.
تواكب المطالعة تكوين الشخصية العَقَدية، خصوصاً، أي ارتسام الخطّ الفكري الذي يُدْرج المرء في جماعة معنوية أو وجهة انتمائية ويجعل له في الناس نظراء وأضداداً. وتواكب، على الأخصّ، كل انعطاف في هذا الخطّ يفترض البحث عن أسانيد وشواهد كثيراً ما تجبّ ما كان قبلها. وقد يتوزّع هذا بين حقول وهموم متباينة. وعلى غرار الخطّ الفكري، تتكوّن الذائقة بما هي طلبٌ للمتعة وللمعرفة اللانفعية وتروح تتحوّل ويُسْفِر نموّها عن فروعٍ ومراحل. وعليه تستوي المطالعة، بما هي شرطُ نضارةٍ ونَماءٍ، مَلوَنةً لمراحل العمر جميعاً وتتشكّل المكتبة مرآةً أو جسداً لهذه المَلْوَنة.
تستوقفني مكتبتي اليوم لأن شيئاً مقابلاً للكتب، هو الشبكة العنكبوتية بقضّها والقضيض، أخذ يلحّ علينا لاعتبار المكتبة ذات الرفوف ماضياً مضى. لا أظن، وقد أصبحت متقدّماً في العمر، أنني سأبلغ يوماً أعتبر فيه كتبي مقتنياتٍ مُتْحفية. وهذا مع العلم أنني ضالع أشدّ الضلوع في الممارسة الحاسوبية من عقد ونصف عقد. متردّداً أرتضي الوقوف اليوم والنظر إلى مكتبتي، بسببٍ من توزّعي بينها وبين الشبكة، وكأنها باتت على مبعدة
ما الذي أعدّه وصفاً مناسباً لرفيقة عمري هذه؟ أضيق أحياناً (ويضيق بيتي) بمهمّات إيواء الكتب وتصنيفها والعناية بها ولا يفوق هذا الضيق بالكتب سوى الضجر مما يقتضيه تنظيم الأوراق المحفوظة. ولكن يبقى أقْرَبُ ما يسعني قوله في المكتبة أنني أراها تجسيماً جيولوجياً لما يمكن أن أعتبره «طبقات» العمر. فحين رحت أغادر الماركسية، مثلاً، لم تلبث أعمال ماركس وإنجلز ولينين وسواهم من أضرابهم أن تدرّجت نحو الرفوف العليا، وهي جنّة الكتب التي يرجّح ألا نفتحها بعد اليوم: بالمعنى الذي يقال فيه أن الأسرّة جنّة الأطفال فلا ينبغي اصطحابهم إلى الأعراس!
في الموضع الذي أخلته تلك الكتب، أي في الصدارة، تجاورت أعمالٌ متعلقة بتاريخ لبنان وأخرى موزّعة بين الوجوه الجديدة في الفلسفة الفرنسية وأقاربهم في العلوم الاجتماعيةوأمّا كتب العربية التي جمعتها حين حاولت أن أَضْرِب بسَهْم في بعض مسائل اللغة والمعاجم، فهيّأت لها مصيراً آخر: بقيَت في المتناول ولكن لا أتناولهاأنساها آماداً طويلة ولكن أجدّد التعهّد لنفسي أن هذا الطلاق لن يصبح بائناً أبداً. أقلّ حظوةً من كتب اللغة، كتبٌ كنت أحتاج إليها (أو أتوقّع الاحتياج إليها) في سنوات التدريس المتمادية. هذه غادرت غرفة مكتبي إلى الرفوف التي في الممشى. والشيء نفسه حصل لكتب كثيرة كانت «مكتبات بحث» لهذا أو ذاك من تآليفي. السيرة التي وضعتها لرياض الصلح، مثلاً، تخلّفت منها رفوف عديدة مكتظّة يسعني، إذا شئت، أن أوزّع محمولاتها بين زوايا عدّة متباعدة من خزائن كتبي.
هذا ومن عيوبي أنني لا أستغني عمّا يصل إلى يدي من كتب سفيهة. أقول إن بعضاً من تآليفي وجد معظم مادّته في أعمالٍ لا تعدّ ذاتَ شأنٍ في أبوابها ولكن لا يستغنى عنها بما هي «أدلّة» و»عيّناتّ» ترشد إلى واقع الأحوال في قطاع اجتماعي أو معرفي. وهي، في أدائها هذه الوظيفة، أوفر دلالة، على التعميم، من مؤلّفات العباقرة. هكذا أجدني أداري ضيق شقتي البيروتية بالكتب الجديدة بترحيل السخيفة القديمة إلى منزلي الجبلي الذي استوى، قبل بضع سنوات، متنفّساً لمكتبتي. ولكن غلب على ما أنقله إليه مجاميع الدوريات وما أعدّه قليل القيمة من الكتب ومعها كتب تهدى إليّ ولا أقرأها وثالثة لا يًحْتمل أن أحتاج إليها في بحر السنة التي أمضيها في بيروت باستثناء الفصل القائظ.
الواجهات الزجاجية للكتب الجميلة الإخراج أو لتلك الرفيعة المقام، والخزائن ذات الأبواب الخشبية لتلك التي تجمع إلى قبح المظهر ضعف احتمال العودة إليها: الأطروحات خصوصاً! والرفوف المكشوفة للكتب التي يتعين بقاؤها في متناول اليد، والخزائن المسمّرة بالسقف لعوالم كتبية أمست خلفي، والجبل لمجموعات المجلات وللكتب السقيمة التي يجب الإبقاء عليها احتياطاً ولمُهْدَيات لم تُصبح مثار شهية ولأعمال أدبية تُستبعد العودة إليها بعد القراءة أو يؤمل التفرّغ لها في أماسي الصيف، إلخ، إلخ.
وما الذي قرأْتَه من هذه التآليف المؤلّفة كلّها يا بنيّ؟ اقتنيتُ كتباً قرأتها لغرضٍ كان يدعو إلى ذلك أو لوجه القراءة. واقتنيت أخرى لم أقرأ منها إلا صفحات أو سطوراً أمْلت قراءتها حاجةٌ ما. واقتنيت كتباً بدافع الشعور الغلاب أن عليّ أن أقراها ولكن حالت دون ذلك حوائل فزاد كلّ منها حسرة على حسرات. واقتنيت كتباً ألزمتني دواعي العمل بالسهر عليها ليالي طويلة ألخّصها وأدوّن ملاحظات وأفكاراً متصلة بها وما كنت لأَقْرُبها لولا دواعي العمل. ولا أعود إلى الهدايا وكان بعضها رائعاَ ولكن وقع في غير أوانه وكان بعضها الآخر رديئاً فتعذّر أن يقع في أوانه.
عليه تتخلل الرفوفَ حسراتٌ لا تُحْصى، متنوعةً البواعث، خَلّف بعضَها الإحجامُ وبعضُها خَلّفه الإقدام. ومن المُتَع، وهي كثيرة أيضاً، ومن الحسرات تكوّنَت كلّ طبقةٍ من طبقات العمر وتمثّلت في رفٍّ أو رفوف. ولكن المكتبة لا تستنفدها طبقاتُ العمر الجيولوجية بل فيها أيضاً مسالكُه وشِعابه وفيها مقاصيره وساحاته وفيها منابره ومخابئه. لذا يبدو الأقرب إلى وفائها حقَّها أن نَرى فيها شيئاً من قبيل شجرةِ الحياة.