الاثنين، 31 أغسطس 2015

الفأر والمصيدة



يحكى أنّ فأراً كان يختبىء في مزرعة في جحر بغرفة فلاح         فرأى الفلاّح ذات يوم يحمل بيده كيسا، صار الفأر يتفكّر ويحلم بمحتوياته، لعلّه يكون خبزاً أو جبناً لذيذاً سيتحيّن من أجله فرصة ليأكله، وإذا بالفلاح يمدّ يده إلى الكيس أمام مرأى الفأر ليخرج  منه مصيدة للفئران، تحول حلم الفأر الجميل في لحظة إلى كابوس حديديّ، وصار يجري في جميع أنحاء المزرعة ليعلن للجميع محذّراً أنّ هناك مصيدة للفئران. قابل دجاجة وخنزيراً وبقرة فنصحهم وحذرهم أن يحتاطوا لأمر خطير سيحدث في المزرعة. لقد أصبح هناك مصيدة للفئران ردّت الدجاجة قائلة: إنها تخصّك أنت لوحدك        إنها مشكلتك وليست مشكلتنا.  وردّ الخنزير على الفأر متعاطفاً وقال: أيها المسكين سأصلي لك وأدعو إلى الله أن ينجيك منها، أمّا البقرة فقالت: أما أنا فلا أظنّ أن المصيدة يمكن أن تصيب ولو طرفا صغيرا من جسمي.

      رجع الفأر المسكين إلى جحره ليلاً مكتئباً وقرّر أن يواجه مشكلته مع هذا الضيف الجديد بمفرده، وبينما كان غارقا في التفكير سمع صرخة مدوية وكأنّ أحدهم قد أصيب بمصيدة للفئران،  هرع من جحره متلصصا مستطلعا عن سبب هذه الصرخة العالية وإذا بزوجة الفلاح تجري في الظلام الدامس متخبطة غير ملاحظة أنّ ذيل أفعى سامّة قد أغلقت عليها المصيدة، وقد أسرعت عاضّة قدم الزوجة المسكينة. هرع الزوج وأخذها إلى المستشفى ثم رجع بها إلى بيته وقد استفحل حالتها الصحية سوءا وسبّبت لها العضّة حمّى شديدة.

       سمع الجيران فهرعوا للاطمئنان على الزوجة، وقد نصح أحدهم دواء لشفائها وهو  حساء الدجاج، أسرع الزوج المسكين وذبح الدجاجة لعلّها تكون دواء ناجعا لزوجته المريضة، ولكن بقيت الزوجة على حالها العليلة، وأصبح جيرانها يحيطونها ليلاً ونهاراً، ولا يتركونها. فلا بدّ من الزوج أن يطعمهم وجباتهم فذبح الخنزير ليكون غداءً لهم أزداد حال الزوجة سوءا ثمّ ماتت وفارقت الحياة فامتلأ البيت بالناس معزّين ومواسين للزوج مما اضطرّه أن يطعمهم فذبح البقرة إكراماً لتعاطفهم مع فجيعته.

الأحد، 30 أغسطس 2015

يد السعادة



كلّ انسان يسعى إلى نيل السعادة، وإنْ كان لا يمكن لأحد أن يحدّد ما معنى السعادة، ومن أين تأتي؟ حاولت أن أمشي في بستان المعنى اللغويّ للسعادة على هدْي " جذر" السعادة أملاً في الوصول إلى قطف ثمرة دلالتها العربية.

جذور الكلمات العربية تقول لنا، أحياناً، رأيها بالأشياء ببساطة جميلة من غير لفّ أو دوران. وللغات رأي، ورأي نافذ بل وسلطان مبرم، أشير هنا إلى كتاب العالم الاجتماعيّ الفرنسيّ الراحل بيار بورديوPierre Bourdieu  " الكلام والسلطة الرمزية" (Langage et pouvoir symbolique) الذي تناول فيه سلطان الكلام على مجريات أمور الناس.

حاولت أن أطرح، بداية، على كلمة "سعادة" جملة من الأسئلة، تساءلت: هل من علاقة بين اليد والسعادة؟ قد يقول قائل: وما دخل السعادة باليد؟ اليد، هنا، مختبئة، لا تكشف عن أصابعها إلاّ من طريق مفردة أخرى لا تخلو بدورها من صلة قرابة بيّنة مع السعادة. ثمّة كلمة "ساعِد" في العربية وهي ذات صلة باليد، وتعني ما بين المرفق والكتف. وأظنّ أنّ السامع ينتبه إلى رنّة الشبه بين "الساعد" و"السعادة"، وهو شبه دالّ على أنّ للساعد دوراً ما في تحقيق السعادة، فالسعادة لا تهبط "بالقفّة" كما يقال من السماء، وإنّما هي بنت الساعد أي بنت اليد بما تحمل من دلالات العمل. وثمّة فعل آخر مولود من قلب الساعد، فحين "يساعد" القويّ، مثلاً، الضعيف فإنّه، بشكل من الاشكال، "يأخذ بيده" ليجلب إلى قلبه السعادة. والمساعدة كانت تحتاج، في الأساس، إلى سواعد الناس وزنودهم. وتاريخ اليد تاريخ الانسان، وهو تاريخ يستحقّ التدوين، ولا أعرف مبرّراً للاستهانة بالحرف "اليدوية".

 الحرية واليد صنوان: أليس هذا ما يقوله المقطع الشعريّ بصوت كوكب الشرق: "أعطني حرّيتي، أطلق يديّ". اليد ترجمان العقل العمليّ. فهل عن عبث جمعت اللغة العربية أضلاع هذا المثلث الدلاليّ: الساعد والسعادة والمساعدة؟ أظنّ أنّ الجذر اللغويّ" س،ع، د" لا يعجز عن الإجابة المستفيضة.

السبت، 29 أغسطس 2015

اعترافات برغشة


اعترافات برغشة

قد لا يخطر ببال ابن آدم أنّ برغشة لا حول لها ولا قوّة قد تسدي له معروفاً لا ينكره إلاّ كلّ إنسان قليل الأصل. ولكن هل بمقدور برغشة أنْ تسدي هذا المعروف وليس للإنسان من ذكريات له معها إلاّ طنينها الليليّ وعقصاتها المزعجة؟ أحبّ تعقّب مصائر الحيوانات، وربما اشتغالي باللغة على شتّى أشكالها وتجليّاتها التواصلية وراء اهتمامي بعالم الحيوانات وكيفيّة الطرق الساحرة التي تعمل بها لتتبادل فيما بينها أطراف الحديث.

كنت أقرأ في كتاب بالفرنسيّة، وهو عبارة عن أخبار متفرّقة نشرته منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة/اليونسكو فاستوقفني خبر طريف عن برغشة تكبّل رجلاً، تستنطقه، تسحب من لسانه رغماً عن أنفه اعترافاته الدامية. يعجز القاتل المحترف عن النكران، يقع بفضل برغشة في قبضة العدالة. كيف؟ أيعقل أن تستطيع برغشة تنغيص حياة مجرم وتضعه خلف القضبان؟! كلّ شيء ممكن بفضل قدرات الإنسان المذهلة، وإليكم الحكاية:

لقد تسلّل مجرم، ذات خلسة، إلى دار أحد الأشخاص وارتكب جريمة قتل ثمّ سطا على ما سطا، وفرّ آمناً إلى أنّ جريمته بمنأى عن الفضح. قام بكلّ ما هو مطلوب من مجرم ماهر ومحترف، أو سارق ذكيّ، أو قاتل متخصّص ومتمرّس. لم يخلّف وراءه أيّ أثر يمكن أن يدينه.

غادر مكان الجريمة، ولكنّ برغشة كانت له بالمرصاد، ربّما عن غير قصد منها. لا ننسى كيف أنّ الله سلّط بعوضة حقيرة على النمرود! كانت البرغشة جائعة ولم تكن تفكّر الاّ بسدّ رمقها وإسكات بطنها الثرثار. حين كان المجرم في البيت كانت هي أيضاً في البيت. تواجدا معاً في نفس المكان، ولكن كلّ كان يغني على ليلاه! تقدّمت البرغشة بأجنحتها السرّية وحطّت على جلده ثم اختارت مكاناً سهلاً لغرز إبرتها الدقيقة في دمائه الحارة. ارتوت من دم اللصّ ثمّ رفرفت بأجنحتها الهزيلة وحطّت بعيداً عنه. كان اللصّ القاتل مستغرقاً في شؤون سطوه فلم يحسّ بمرور إبرتها على بشرة جسده.

راحت تهضم ما شربت. وأحياناً تألف الحشرات الصغيرة البيوت لأنّها تؤمّن لها حاجاتها اليوميّة من الدم لإنتاج بيضها فلا تفكّر بالهجرة إلاّ لأسباب قاهرة!

مرّ الوقت وانكشفت الجريمة، جريمة بلا آثار، جريمة شديدة الإتقان، لم يترك القاتل بصمة أو ذرّة دليل على هويته. المحققون ورجالات المباحث الذين يصطادون الأدلّة لم يعثروا على شيء في المكان. لمح أحد المحققين برغشة مسترخية في سقف الحائط. برقت في رأسه فكرة. فكرة قد تمسك طرف خيط الجريمة. سأستنطق هذه البرغشة، قد تكون طرف الخيط، والشاهد الملك، قال المحقّق، وهي غير قادرة على الكذب، لم تتعلّم حنكة البشر الشيطانيّة في التضليل وإخفاء المعلومات، ولا تحبّ شهادات الزور ولا التزوير ولا المزوّرين. أمر بالقبض على البرغشة. وقعت المسكينة في يد المحقّق، وجد المحقق في بطنها المنفوخ بارقة أمل. أخذت البرغشة إلى المختبر لفحص دمها. فصلوا دمها عن الدماء الممصوصة الطازجة. فحصوا أبجدية الدم الممصوص، استخرجوا من بطن البرغشة دم القاتل. الجينات لا تكذب، والدم لا يستطيع أن يتنكّر لصاحبه! ثمّ تمّ القبض عليه، وبعد الاستنطاق اعترف القاتل بتفاصيل جريمته، وقضى حياته وراء القضبان. الأبجديّة الجينيّة كالبرغشة لا تمارس التضليل، ولا تعرف اللفّ والدوران!

أيّها اللصوص خذوا حذركم من دمكم الممصوص فقد تكمن لكم برغشة على مفرق سرقة أو منعطف جريمة.

عالم التكنولوجيا النانوية (Nanotechnologie )  قد يستنطق ما لا نراه لأنّه رأى كلّ شيء، طاقيّة الإخفاء ليست اختراعاً خياليّاً نراه في قصص ألف ليلة وليلة على لسان الحكواتيّة الرائعة شهرزاد، إنّها موجودة من يوم أن وجدت الدنيا في الكائنات التي لا يلقطها حتى مجهر عاديّ. أليست هذه الكائنات التي لا ترى بالعين المجرّدة هي ألدّ أعداء الإنسان؟ فليس هناك ما هو أفتك بالإنسان من الفيروس المتناهي الصغر! وهذه الكائنات الضئيلة الحجم هي التي ستكون أحد مفاتيح الثورات العلميّة القادمة. ويقال إنّ هذه الكائنات من أقدم سكّان الأرض، عاصرت كلّ الحيوانات الضخمة التي انقرضت كالديناصورات والماموتات (الأفيال الضخمة)، ولم يتقذْها من براثن الانقراض إلاّ طبيعتها الضعيفة والهشّة والخفيّة.

والخفاء كالضعف له قوّة لا يستهان بها!


الاثنين، 24 أغسطس 2015

الكلب الضالّ




ذات يوم ضلّ كلب طريقه في الغابة، ولم يستطع أنفه المزكوم، يومئذ، أن يمدّ له يد العون، وكان خائفاً جدّاً من أن يراه أسد قادم بكلّ مهابته وأبّهته نحوه. فكّر الكلب في نفسه قائلاً:  " لقد قضي عليّ، ها أنا ذا لقمة سائغة في شدقَي ذلك الأسد" ، ثم لمح وهو يلتفت من ذعر، يمنة ويسرة، بعض العظام ملقاة حوله، فأوحت له هذه العظام فكرة ممارسة لعبة لا تخلو من مخاطرة، فقال لنفسه: "حين لا يكون أمامك أي فرصة للنجاة أو أي أمل بالخلاص من الموت عليك ان تعمل لإنقاذ نفسك من الموت، العب بالخطر، ودجّن مخاوفك، راوغ المقدور قدر ما استطعت"، ثمّ أخذ الكلب عظمة وجلس معطياً ظهره بلامبالاة فاقعة للأسد، وتظاهر بأنه مستمتع بلعق العظمة، وبدأ يتكلّم مع نفسه بنباح عال قائلاً: " يا للروعة، عظام الأسد لذيذة الطعم حقاً، إذا حصلت على المزيد منها فسيتحوّل يومي إلى حفل لا ينسى دسمه".

أرهف الأسد السمع متعجبّا ممّا يسمع، وظنّ أنّ أذنيه تخونانه أو تلعبان به، ولم يصدّق ما تراه عيناه، وقال لنفسه: "هذا الكلب ليس من طينة الكلاب وإن كان في ثياب الكلاب، إنّه يصطاد الأسود، عليّ أن أنقذ حياتي وأهرب قبل أن يراني"، ثمّ ركض الأسد الساذج بعيداً عن الكلب حفاظاً على لحمه وعظمه من أنيابه الشره.

من سوء حظّ الكلب انه كان هناك على إحدى الأشجار قرد يتفرّج على تلك اللعبة الكلبيّة من أوّلها. فكّر القرد قائلاً: "هذه فرصة ذهبيّة لعقد صداقة مبرمة مع الأسد، فلا بدّ لي من أن اقفز صوبه لأخبره بحيلة هذا الكلب الماكر الذي تجرّأ وضحك على مولانا ملك الغابة".

ركض القرد باتجاه الأسد ليفشي له الأمر ويبيّض وجهه معه. أما الكلب فقد شاهده يركض خلف الأسد فنقزه قلبه وأدرك أن هذا القرد النمّام سوف يفضح أمره للأسد. وما ان سمع الكلب زئير الأسد الصاخب حتّى ادرك ان الخطر صار قاب قوسين او ادنى من لحمه، امر الاسد القرد ان يمتطي ظهره ويذهبا الى الكلب لينال جزاء لعبه بعقل الأسد. فالأسد لا يخدع من كلب مرّتين! ولكن الكلب قرّر ان يتابع لعبته التي تشبه الرقص على رؤوس الأفاعي، وقال:" أن أموت خادعاً أفضل من أن أموت مخدوعاً"، وكرّر موقفه الأوّل مع تعديلات هي بنت المقام، لقد أدار ظهره للأسد وراح يخاطب نفسه بصوت مسموع قائلاً: "يبدو ان هذا القرد غبيّ جدّا، لقد مضت ساعة وهو عاجز عن استدراج أسد آخر إليّ لأسدّ جوعي". كانت هذه الكلمات التي نبس بها فم الكلب كفيلة بإشعال الغضب في أذن الأسد الذي ظنّ أنّ القرد حليف خبيث للكلب، ومن هواة اللعب على الحبلين، فرماه عن ظهره وانقضّ عليه بفكّيه لينهي حياته، وولّى هارباً ولم يعقّب".


الشحّاذ الأعمى


لعلّ من يدرس فنّ الاعلان تكون قد مرّت عليه هذه الحكاية أو ما هو على نسقها، فالإعلان تبليغ بأسلوب بليغ، والحكاية تضمر الى حدّ ما مدرسة رائجة في " الفكر الدعائيّ"، القائم على عنصر الجذب وشدّ الانتباه، وهي تروي حكاية شحّاذ ضرير اعتاد أن يقعد على إحدى عتبات عمارة واضعاً قبعته بين قدميه وبجانبه لوحة مكتوب عليها عبارة بسيطة ومتقشّفة: " أنا أعمى أرجوكم ساعدوني"، عبارة لا تثير شهيّة العابرين كثيراً على مدّ أيديهم إلى جيوبهم.

مرّ، ذات يوم، رجل إعلانات فضوليّ بالقرب من الأعمى، فوقف أمام قبّعته ووجد انها لا تحوي سوى حفنة قليلة من النقود. سحب رجل الاعلانات من جيبه مبلغاً من المال ووضعه في قبّعة الشحّاذ. ثمّ مدّ يده الى اللوحة وقلبها وكتب على قفاها عبارة أخرى وأعادها الى مكانها ومضى. عرف الأعمى أنّ ذلك العابر قد قام بكتابة شيء ما على لوحته فغضب للحظات ثمّ انتبه الى ان قبّعته بدأت تمتلىء بالنقود اكثر من الوقت المعهود. فأحسّ أنّ سرّ هذا التغيّر هو تلك اللوحة التي غيّر بها الرجل ما غيّر. فسأل أحد المارة في طريقه عما هو مكتوب عليها فكانت العبارة من وحي الطقس الربيعيّ آنذاك، وهي تقول: " نحن في فصل الربيع، لكنّني لا أستطيع رؤية جماله". عبارة لم تأتي على سيرة العمى بلفظ، ولكنّها تناولت مفعول العمى، بحنكة بلاغية فعّالة.

كلّ العبرة، هنا، كانت في العبارة، وفي وجهة النظر التي تعرف كيف تركّب قطع "البازل Puzzle" من وحي الظروف.


طبيعة العقارب

الحكاية الأخيرة تحكي عن العقارب وهي تخالف مقولة ذئبيّة مأثورة تقول : إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب"، ومفاد الحكاية ان عجوزا حكيما جلس على ضفة نهر وراح يتأمل فتنة الطبيعة المحيطة به، وأثناء تأمّلاته لمحت عيناه عقرباً قد وقع في الماء وأخذ يتخبط محاولاً أن ينقذ نفسه من الغرق فقرّر العجوز أن ينقذه.

علّق العجوز صلاته، ثم نهض ومدّ يده ليسعف العقرب الا ان العقرب ظنّ باليد الممدودة الظنون ولم يخطر بباله ان نيّة اليد صافية فقام بلسعها، سحب العجوز يده صارخاً من شدّة الألم، ولكن لم تمض سوى دقيقة واحدة حتى مدّ يده ثانية لينقذه فلسعه العقرب، سحب يده مرة أخرى صارخاً من شدة الألم، وبعد دقيقة راح يحاول وللمرة الثالثة ان ينقذ هذا العقرب اللسّاع من الموت!

على مقربة منه كان يجلس رجل آخر ويراقب ما يحدث أمام عينيه المستغربتين الحاح العجوز رغم لؤم العقرب فصرخ بالعجوز الذي يخاطر بأصابعه: "أيّها الحكيم لم تتعظ من المرة الأولى، ولا من المرة الثانية، وها أنت تحاول إنقاذه للمرّة الثالثة !"

لم يأبه الحكيم لتوبيخ الرجل وظلّ يحاول حتى نجح في إنقاذ روح العقرب من الغرق، ثم مشى باتجاه ذلك الرجل وربت على كتفه قائلاً : يا بنيّ من طبع العقرب أن "يلسع"، ومن طبعي أن "أحبّ" ، فلماذا تريدني أنْ أسمح لطبعه أن يتغلّب على طبعي؟

كثيرون لا يقبلون إلاّ الهزيمة في معركتهم مع العقارب، أمّا ذلك العجوز الحكيم فكان يأبى أن ينهزم طبعه على يد عقرب لسّاع.


بلال عبد الهادي



الأحد، 23 أغسطس 2015

بين السفن أب وشاي ليبتون

قد لا يكون هناك اي علاقة بين السفن أب وشاي ليبتون، وان كنت من المؤمنين بوجود علاقة دائمة بين الأشياء .
الكون جسد واحد.
الكون كله جسد واحد وبين اعضاء الجسد الواحد علاقات بل شبكة علاقات.
كلامي هنا سيكون لغويا لن يتناول فوائد السفن ولا فوائد الشاي.
اليكم الصورة أولا:

ماذا نلحظ في الصورة؟
تنكتا سفن اب بينهما كباية .
دع اللون جانبا، وتأمّل تنكتي السفن اب.
ماذا ترى؟
اختلاف في اسم "السفن اب" بين تلك التي على اليمين وتلك التي على الشمال.
قد يكون الخلاف غير ظاهر، يخدعك الشكل عن رؤية الخلاف، يمنعك الشكل من ان ترى ان الاسمين ليسا اسما واحدا.
فاللعب لغوي ورقميّ.
علامة السبعة على اليمين ليست علامة السبعة ولا تعني سبعة، ولكنها تعني سبعة. وما يجعلك تعتقد انها تعني سبعة هو عدم قراءتها كما يجب، القراءة الخطأ هي قراءة صائبة من خلال تنكة الشمال لا تنكة اليمين.
هناك لعبة طريفة.
عمر  السفن أب يحسب بالعشرات. وظلت السبعة سبعة الى ان جاء احد الاشخاص وقرر أن يقرأ في الرقم حرفا، أن يتعامل مع عالم الأرقام كما يتعامل مع عالم الحروف او يجد ان الرقم الواحد ليس رقما بل حرفين!
الواحد إثنان!
رقم السبعة في تنكة اليمين هو الف وباء، هناك لعبة لونية ورقمية وحرفية.
لعبة مهضومة تدل عن مهارة في التصميم، وقدرة على استخدام العين بطريقة غير اعتيادية، تحرير العين من النظرة الواحدة تريك الواحد متعددا، والرقم حرفا، والحرف رقما!
هناك لعبة ايضا في كباية شاي ليبتون، وهي التاء ، تاء المخاطبة للتأنيث، التاء الطويلة المكسورة، ( تِ)، لم ير واضع الكلمة في حرف التاء المكسورة حرفا وانما فاحت منها رائحة الشاي الانكليزي، فالشاي في اللغة الانكليزية لا يختلف لفظه عن حرف تاء التأنيث المكسورة tea، فقدم الشاي كتاء تأنيث وكتب الكلمة " لوّنت" ايامي بالطريقة التي كتبها، وهي وضع علامة شاي ليبتون بدلا عنها، لا تتغير القراءة، ولا تتغير الاصوات، وتضاف الى الالوان رائحة الشاي ، الشاي الخاص بشركة ليبتون، التي اخترعت من فتافيت اوراق الشاي ثروتها وسمعتها.
فلقد ولدت فكرة اكياس الشاي الصغيرة من فكرة ارسال عيّنات echantillon من الشاي الى التجار. وثمّة عين رأن انه يمكن " تحويل" العينات الى طريقة جديدة تسويقية
في بيع الشاي!


القمس في شعر المعري

وأقمس في لج النوائب طالبا؛
ويغرقني من دون لؤلؤه القمس

مجاز المعري

لا تقيد علي لفظي، فإني
مثل غيري، تكلمي بالمجاز

ايجاز الدهر من شعر المعري

أوجز الدهر، في المقال، إلى أن
جعل الصمت غاية الإيجاز

منطقا ليس بالنثير، ولا الشعـ
ـري، ولا في طرائق الرجاز

من نوادر أبي حنيفة النعمان

كان يختلف إلى أبي حنيفة رجل يتحمل بالستر الظاهر، والسمت البين فقدم رجل غريب وأودعه مالاً خطيراً، وخرج حاجاً، فلما عاد طالبه بالوديعة فجحده، فألح الرجل عليه فتمادى، فكاد صاحب المال يهيم ، ثم استشار ثقة له فقال له: كف عنه، وصر إلى أبي حنيفة، فدواؤك عنده.
فانطلق إليه وخلا به وأعلمه شأنه، وشرح له قصته فقال له أبو حنيفة: لا تعلم بهذا أحداً، وامض راشداً، وعد إلي غداً. فلما أمسى أبو حنيفة جلس كعادته للناس، وجعل كلما سئل عن شيء تنفس الصعداء. فقيل له في ذلك فقال: إن هؤلاء - يعني السلطان - قد احتاجوا إلى رجل يبعثونه قاضياً إلى مكان. وقالوا لي: اختر من أحببت. ثم أسبل كمه وخلا بصاحب الوديعة، وقال له: أترغب حتى أسميك. فذهب يتمنع تحلية. فقال له أبو حنيفة: اسكت فإني أبلغ لك ما تحب. فانصرف الرجل مسروراً يظن الظنون بالجاه العريض، والحال الحسنة.
وصار رب المال إلى أبي حنيفة فقال: امض إلى صاحبك ولا تخبره بما بيننا، ولوح بذكري وكفاك، فمضى الرجل واقتضاه وقال له: اردد على مالي وإلا شكوتك إلى أبي حنيفة. فلما سمع ذلك وفاه المال. وصار الرجل إلى أبي حنيفة وأعلمه رجوع المال إليه فقال له: استره عليه.
ولما غدا الرجل إلى أبي حنيفة طامعاً في القضاء نظر إليه أبو حنيفة وقال له: نظرت في أمرك فرفعت قدرك عن القضاء.

حصان أصيل


تذكّرت، وأنا أقرأ إحدى الحكايات، بيتَيْ شعر لعنترة بن شدّاد من معلّقته الشهيرة وهو يرى تحوّلات مصائر المعركة الحامية التي يخوضها ترتسم بالقاني من الألوان على بدن وملامح وجه فرسه الذي كاد أن يكلّم فارسه:
وَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ القَنا فَزَجَرْتُهُ فَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ

لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا المُحَاوَرَةُ اشْتَكَى وَلَكَانَ لَو عَلِِِم َالكَلامَ مُكَلِّمِي
الجامع بين بيتَيْ عنترةَ والحكاية هو الفرس. طبعا ليس في بيتَيْ عنترة ما يشي بأصالة "الأَبْجَر" وهو اسم فرس عنترة، ولكن من يعرف قصّة الفارس الأسود الناصع السيرة والسواد يدرك الفضائل الأسطوريّة التي كان يتمتّع بها أَبْجَرُ عنترة.(على من يعترض أحيله إلى الشمس السوداء التي وردت في شعر المتنبي في مديح كافور!)

تقول الحكاية التي يرويها سائس خيل يعرف بالنظر الثاقب الجواد الجيّد من الفرس العاديّ إنّ أحد الملوك أراد، ذات مرّة، الاستفادة من خبرة السائس لاقتناء فرس أصيل كامل الأوصاف ينطبق عليه ربّما ما ورد على لسان الملك الضِّلِّيل امرئ القيس في وصف فرسه المطواع:
مِكَرٍّ، مِفَرٍّ، مُقْبِلٍ، مُدْبِرٍ مَعَاً


كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ.

إلاّ أنّ السائس الخبير كان قد كبر وعجز عن التنقّل في الأقطار لنيْل الأوطار التي ترضي رغبات الملك فاعتذر من الملك عن عدم قدرة جسده على تحمل عناء التنقيب، ولكنه كان يعرف صديقاً لا يشكّ في قدرته على حسن الاختيار فنصح الملك أنْ يستعين بخبرات صديقه لتلبية رغباته الفروسيّة. استدعى الملك ذلك الرجل ووضع أمام ناظريه الأوصاف المطلوبة. راح الرجل يسعى ويفتّش عن الفرس المرغوب، ثلاثة أشهر كانت كافية للعثور على ما يروي رغبة الملك، ذهب الرجل بصحبة السائس العجوز إلى الملك ليزفّ إليه البشارة. استقبل الملك الرجلين بالترحاب الذي يليق بالبشارة، ودار حديث فروسيّ بين الملك والرجل. سأل الملك الرجل عن جنس الفرس، فأجاب الرجل بأنّ الفرس أنثى، وحين استفسر الملك عن لونه: قال الرجل بأنّ لونها أصْهب.
أرسل الملك خادمه الخاص لإحضار الفرس على جناح السرعة بعد أن بلغ به الشوق لرؤية الفرس مبلغه. صعقت عينا الملك حين وصل الفرس لأنّه لم يجد أمامه أنثى وإنما ذكراً، كما أنّ اللون كان أسود فاحماً وليس أصهب بخلاف ما وصف الرجل. لا بدّ من أن الخادم أخطأ في إحضار الفرس المقصود إذ لا شيء مما قاله الرجل يتطابق وأوصاف ما يراه! كاد الملك أن يثور في وجه الخادم لو لم ترتسم على ملامح السائس أسارير الحبور وهو يتأمل، بعينين مفتونتين، الفرس الذي اختاره. لم يستوعب الملك ما يرى! هل السائس مصاب بعمى الألوان ولنفترض جدلاً أنّ السائس مصاب بعمى الألوان هل من الممكن أن يقول شخص عن نفسه إنّه سائس خبير في أجناس الأحصنة وهو لا يميز ذكراً من أنثى؟ استشاط الملك غيظاً ولم يحتمل أنْ يتحوّل إلى ألعوبة بين يدي سائس مكّار، كما لم يرضَ عن هذه المداعبة الخبيثة التي داعبه بها السائس العجوز. قال الملك للعجوز أيّ نوع من النصيحة أسديتها إليّ بالاتكال على رجل لا يميّز بين الألوان ولا بين الأجناس؟ كيف تقول إنّه خبير ويفهم بعالم الأحصنة؟ قال السائس العجوز: لم أكن أعرف يا مولاي أنّ لزميلي خبرة بالأحصنة بلغت هذا الحدّ المذهل! لا تتصوّر، يا مولاي، إعجابي الكبير بمهارة صديقي! لا تتخيّل كم أنا مسرور ومسحور بخبرته النافذة التي كانت مخبوءة عن ناظريّ! ما كان يخطر لي ببال أنّه يفوقني قدرة وخبرة في معرفة الأصيل من الهزيل. كنت أظنّ أنّ خبرته تضاهي خبرتي ولكن أن تتجاوزها بأشواط فهذا ما لم أتوقّعْه لو لم أره بعينيّ.
ذهل الملك من كلام السائس العجوز الذي يُسمعه خلاف ما تراه عيناه، وكاد أنْ يجنّ جنونه وهو يستمع إلى هذا الهذيان الذي لا يختلف كثيراً عن هذيان شاعر سورياليّ محموم. ولكنّ السائس العجوز دافع بكلّ ما أوتيه من حجّة في الإقناع عن صديقه الذي أحضر الفرس قائلاً للملك: يا مولاي، ليس عند صديقي عمى ألوان ولا ضعف تمييز، ولكنه ذهب إلى الجوهر، إلى المطلوب وهو مهارة الفرس وكماله. والألوان ليست من صلب المهارة، والجنس أيضاً ليس عنواناً مفصحاً عن الجودة، فكلا الأمرين قشور، لا ريب، خلاّبة. والخلاّب، يا مولاي، لا يخلب كلّ ذوي البصائر والألباب. ما أتاك به صديقي، بغضّ النظر عن الكلام الذي تفوّه به عن القشور، هو ما تريده أنت، وعند امتحان الفرس يهان صديقي أو يكسب الرهان. استغراق صديقي، يا مولاي، في التحرّي عن الجودة، وإخلاصه في البحث عن المهارة الفائقة هما اللذان أعمياه عن رؤية كلّ ما ليس له علاقة بميزان الجودة الفعلية. من هنا لم ينتبه ولم يأبهْ للون الفرس أو جنسه، ومن هنا خطأه أيضاً في التوصيف الأمين للبهْرجة اللونية والطبيعة الجنسية.
امتطى الملك صهوة الفرس المشكوك في قدرته بناء على الكلام الصادر من الرجل والمغاير للواقع المرئيّ ولكن ما هي إلا لحظات حتى بدت على وجه الملك ملامح تدلّ على غبطة فاتنة لم يُشْعرْه بها أيّ فرس امتطاه من قبل، إذْ تبين له أنّ هذا الفرس هو أنبل ما عرفته إسطبلات مملكته.

السبت، 22 أغسطس 2015

جذور وأرحام

احب تشبيه الجذور اللغوية بأرحام النساء.
ومن ثمّ أعمد الى نسل وجوه الشبه بين الاثنين، فأكتشف وجوه شبه كثيرة.
العقم، الخصوبة، العدد، القبح، الجمال،الطول ، القصر، النحافة، الثخانة...


فنّ

موناليزا

الفنّ أجمل مبرر للوجود، الفن بكل اشكاله.
ولا يمكن تحديد عدد اشكاله.
كما ان كل شيء يمكن ان يتحول الى حرف في كلمة او لون في لوحة او نوتة في معزوفة.
الفنّ تصوّر، رؤيا.
رؤية ما لا يرى في الأشياء!
كشف وظائف متوارية في الأشياء، فالنغم مثلا متوار في ملعقة، رأيت مرة فنانا ادوات عزفه للموسيقى ملاعق وصحون وطناجر، والملعقة نفسها قد تتحول الى ما يشبه منحوتة فنية.
الفنّ روح تسري في كل الاشياء.
هناك امرأة صينية تشكّل لوحات فنية من شعر الرأس!
الشعرة اجمالا بيضاء او سوداء.
الرسم بالابيض والاسود تؤمنه لك خصلات شعر الناس!
الفنّ مجال الروح الحيوي، متنفسها، اوكسجينها.
في الصورة أعلاه، لم ير الرسذام في حبّات البنّ حبّات بنّ وإنما وجد وجه الموناليزا!
وعلى سيرة الزبالة، وهي موضوع لبنانيّ راهن وحارق، فإنّ هناك من استخرج من فكرة الزبالة مسرحية حلوة جدا اذكر اني شاهدتها وكان الممثل القدير رفيق علي احمد، هو من يقوم بدور الزبّال، والمسرحية من كتابة الشاعر السوري ممدوح عدوان رحمه الله.
رفيق علي أحمد والزبالة


تحوّلت الزبالة على خشبة المسرح الى اكسسوار من عمل فنّي جميل!
النظرة هي ما تحدد قيمة الأشياء.
القيمة نوعان: قيمة موضوعية وقيمة ذاتية.
والعلاقة بين القيمتين هي ما تحدّد طريقة المرء في التفكير!




الجمعة، 21 أغسطس 2015

لأمر ما جدع قصير أنفه


كتبها بلال عبد الهادي
الأمثال "أرشيف" لطيف، فيه الواضح الذي لا يحتاج إلى تفصيل، وفيه الغامض الغريب لا على مستوى المفردة أو التركيب وإنّما على مستوى المعنى المعلّق. ولقد وقع تحت نظري وقرع سمعي غير مرّة مثلٌ تغريك كلماته بمعرفة قصّته وهو "لأَمْرٍ ما، جَدَعَ قَصيرٌ أَنْفَهُ". فمن هو " قصير" هذا الذي شوّه خلقة وجهه؟ وأيّ أمر جللٍ دفع به إلى الاستغناء عن خدمات حاسّة الشمّ؟ المعروف على امتداد التاريخ أنّ جدع الأنوف كان سائداً كنوع من العقاب في عدد من الحضارات. فالإنسان تفنّن في تعذيب أخيه الإنسان من خلال قَصْقَصَةِ أطراف من جوارحه، كصَلْمِ الآذان أو بتر الأيادي أو سَمْلِ العيون أو سَحْلِ الجثمان أو شقّ الشفاه أو أكل حتّى بعض أعضاء الأعداء نيئة - وآكلة الأكباد معروفة في التاريخ العربيّ - أو" شرب دمهم". والتعبير الأخير لا تزال الأفواه الغضبى والعطشى! تلوكه، أقلّه، على الصعيد المجازيّ.
هل جنّ جنون "قصير" في لحظة ما، فقرّر جدع أنفه كما يقوم المجنون في لحظة هستيريا بضرب نفسه وتجريح ذاته؟ إنّ "ما" الواردة في المثل تفيد الإبهام، تُسْدِل على مكوّنات المثل ستائر الغموض إذ تترك مضمون الأمر مشرّداً، مجهول الهويّة والنسب. بعض كتب الأمثال يروي غليل الباحث كـ "جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكريّ حيث يشير إلى أنّ تاريخ هذا المثل يعود إلى زمن "زنوبيا" أو"الزبّاء" أو "زينب" ملكة تدمر، المدينة التي نسب العربيّ القديم تشييدها المعجز إلى جنّ النبيّ سليمان، وما يفصح عن هذا المعتقد الجنّيّ بيت شعريّ ورد في إحدى قصائد النابغة الذبيانيّ الشاعر الجاهليّ، ويقول فيه:
وَخَيِّسِ الجِنَّ، إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفاحِ وَالعَمَدِ
إنّ الأمر المبهم في المثل لم يكن إلاّ رغبة قصير بن سعد المضمرة في الانتقام من الزبّاء قاتلةِ ملك العرب "جَذيمة الأبرش" بحسب الحكاية الأسطوريّة للمثل. ولكن هل بوسع أنف مجدوعٍ، حقّاً، أنْ يقلب مصير مملكة؟ لم يكن جدع الأنف، هنا، إلاّ من قبيل التَّمَسْكُنِ للتمكّن. كان الجدع إحدى حيل قصير بن سعد للأخذ بالثأر. ثمّة مثل دارج يقول "بْيِقْطَعْ إيدو وِبْيِشْحَدْ عْلَيَّا" وهو يصبّ في خانة المعنى نفسه تقريباً أي أنّ التشويه وسيلة استراتيجيّة موجعة ولكن ناجعة للقبض على الأهداف. جدع قصير بن سعد أنفه وأتى عند الزبّاء مستغيثاً، مستجيراً، ومدّعياً أنّ عمرو بن عديّ، ابن أخت جَذيمة الأَبْرَش، هو الذي قام بجدع أنفه لأنّه جنح إلى حلّ الخلاف بالصُّلْح لا بالثأر، فثارت ثائرة عمرو معتبراً إيّاه عميلاً من عملاء الزبّاء. وافقت على طلبه باللجوء إليها والدخول في حمايتها. يبدو أنّ قصيراً كان تاجراً ماهراً، فأتجر عدّة تجرات للزبّاء رابحة، وظلّ يتقرّب منها بصالح الأعمال إلى أن وثقت به (الثقة والوثاق، في العربية، من بطن واحد!). لم يكن قصد قصير التخلّص منها فقط وإنّما كان يريد أيضاً أنْ يُلحق " تدمر" باسمها أي أن يحيق بها "الدَّمار". وبعض الأسماء، في أيّ حال، تنبىء بمصائر مسمّياتها!
كان قصير بن سعد يريد أن يعرف مدخل السِّرْداب السرّي الذي حفرته الملكة وحضّرته للفرار في حال انقلاب ظهر المِجَنِّ. ظلّ وراءها يتودّدها ويخدمها خدمة ينمّ ظاهرها عن تفانٍ وإخلاص يثيران العجب فأطلعته على السرداب وعلى مَنْفَذِهِ. وبعد فترة استأذنها كعادته في رحلة تجاريّة إلاّ أنّه قصد عمرو بن عديّ، وأعلمه بكلّ مواطن الضعف والخلل في المملكة، ثمّ عاد بقافلة طويلة عريضة، معلناً أنّها تحمل بضاعته التي ربحها في تجارته، ولم تكن القافلة، في الحقيقة، غير جيش مموّه تنوء بحمله الإبل، أي أنّ دور القافلة شبيه بدور "حصان طروادة" الشهير. فتحت للقافلة الأبواب، وسرعان ما دارت معركة، في داخل المدينة، طاحنة، تؤجّج من سعيرها روح الثأر. أدركت "ملكة تدمر" أنّ الهزيمة، لا محالة، واقعة، فأسرعت صوب السِّرْداب للهروب من احتمال الأسر إذْ لم تكن تريد أن تختم تاريخها الذي دوّخ الأكاسرة والقياصرة هذه الخاتمة المذلّة. تفاجأتْ الملكة حين رأت قصير بن سعد ينتظرها على باب السِّرداب شاهراً سيفه المصقول كالمقصلة. لم تستسلمْ للقدر المحتوم إذْ كان الحلّ في إصبعها الذي يحمل خاتماً مسموماً تقاوم به ذلّ الأسر.
تجدر الإشارة إلى أنّ المدوّنات التاريخيّة القديمة ذكرت نهايات مأساويّة أخرى لحياة الزبّاء، سلطانة الشرق، وحفيدة كليوباترا كما كانت تردّد باستمرار.

هل تنتصر الصين على أميركا؟


إن الصين تريد أن تستعيد حجمها الطبيعي في آسيا، وهذا من حقها الطبيعي، إلا أن استعادة هذا الحجم لن يترك أمور العالم على ما هي عليه اليوم، لأنه سيكون أشبه بزلزال سياسيّ واقتصاديّ وثقافيّ وعسكريّ ضخم يهزّ الخارطة السياسيّة التي وضعها الغرب للعالم، ولأنه يعني، أيضاً، بكل بساطة أنها تريد أن تكون الدولة الأولى في العالم، وهذا يقلق الأقوياء، ويخيف الضعفاء على السواء.
والمتضرّر الأول سيكون حكماً الولايات الأمريكية المتحدة. هل تتحمل أميركا نتائج أخذ الصين حجمها الطبيعي ومكانتها الطبيعية؟ هل بمقدور أميركا أن تقنع التنين الصيني الناهض بالإقلاع عن هذا الطموح المشروع؟ وكيف سيكون شكل التعايش بين الغرب الأميركي والشرق الصيني في القرن الحالي؟ كتاب ستيفان مارشان Stephane Marchand) ) " حين تقرر الصين أن تنتصر" ، الصادر عن دار" فايار" في فرنسا، يرسم على امتداد أكثر من 350 صفحة الخطوات التي تقوم بها الصين لإعلان هذا الانتصار، لأنها هي التي سوف تحدد مستقبلا حجم ومكانة أميركا في آسيا، وعليه في العالم، إلا أنّ الصين ليست في عجلة من أمرها فهي لا تزال في طور تهيئة نفسها علميا ورقمياً وعسكريا وتواصلا مع العالم للعب دور لم يسبق لها أن لعبته من قبل خارج مجال نفوذها الثقافي في دول الجوار الآسيويّ.
الصين ليست الاتحاد السوفياتي
ويقول الكاتب في فاتحة كتابه إن الحرب الباردة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية كانت خاضعة لمنطق غربيّ لأنّ الخصمين كانا ينتميان، معاً، فكريا وفلسفيا إلى عالم واحد، أي أن خلفية كلّ منهما، ومفهوم كلّ واحد منهما عن الخسارة والانتصار متشابه، بينما الحرب القادمة بين الصين وأميركا لن تخضع حكما للمعايير نفسها التي حكمت الحرب الباردة، ولا للمفاهيم والقيم نفسها. فالصين بنت الشرق العصيّة على التصنيف الغربي، واللينة كبراعم الخيزران( وللخيزران تبجيل كبير في التراث الصيني)، وتاريخها الاستراتيجيّ القديم والغنيّ يشهد على زئبقيتها المراوغة، ثم إن الصين درست جيدا أسباب هزيمة الاتحاد السوفياتي، وهي لن تقع في الفخّ الذي وقع فيه الاتحاد السوفياتي. إن حرب النجوم وسباق التسلح اسقطا الاتحاد السوفياتي، إن أسباب الهزيمة الأساس كان اقتصاديا، لهذا تعمل الصين على استراتيجية إنفاق اقلّ بفعالية أكثر، وتسعى أيضا إلى إيقاع أميركا في فخ الإنفاق الباهظ الذي وقع فيه الاتحاد السوفياتي، وذلك بان تدفع أميركا إلى إنفاق عسكري كارثي لا يتحمله المجتمع الأميركي ولا يحتمل عقباته النظام السياسي الأميركي نفسه، بينما هي تعمل بكل حنكة ودهاء على نقاط ضعف القوة العسكرية الاميركية الهائلة، وهذا ما يسمح لها بتقليص نفقاتها الحربية، ويقول الكاتب:" إن الصين تعرف أن الرأسماليين يحيكون لنظامها الشيوعيّ حبل المشنقة، ولكن كيف نعرف إن كان هذا الحبل لن يُلفّ، في نهاية المطاف، حول عنق الرأسمالية نفسها؟" أليس من الفكر الاستراتيجي الصيني أن تقاتل خصمك بسلاحه وهو ما يعرف باستراتيجية "استعارة سهام العدو منه لرميه بها"؟
عدم وضوح شكل المعركة القادمة سببه كما يقول الكاتب إن المعركة ستكون بين خصمين متكافئين على الصعيد العسكري والمعلوماتيّ ولكن بخلاف جوهري هو الاختلاف على الصعيد الثقافيّ والفكريّ؟ والفكر الغربي لا يزال إلى اليوم يرى في الفكر الصيني فكرا غريبا، ضبابيا، عصيّاً على الفهم تماما كضحكته المتعددة التفاسير.
حصار التنين
الولايات الاميركية تسعى بشتى الوسائل لمحاصرة الصين، والصين تعلم تماما إن الحصار هو مسألة حياة أو موت بالنسبة لها وبالنسبة لحاجاتها للطاقة، النموّ السريع الذي تشهده الصين يتطلب استهلاك أكثر للطاقة، وأميركا اليوم تتحكم بجزء كبير من مصادر الطاقة وبجزء كبير أيضا من الممرّات والمضائق البحرية التي تؤمن للصين حاجاتها النفطيّة، والصين تسعى جاهدة للتفلت من هذا الحصار عن طريق بناء شبكة علاقات اقتصادية واسعة مع دول عديدة، فالصين ترى اليوم أن المعمور والمغمور من الأرض هو مجالها الحيويّ. ولا يمكن تفسير علاقاتها مع القارة السمراء، واستثماراتها العالية فيها إلا على ضوء حاجتها لمصادر الطاقة، كما أنه لا يمكن فهم أسباب مساعداتها السخية لكثير من الدول لبناء مرافىء كبرى وغير ذلك إلا من طريق حاجتها المتزايدة للطاقة.
القمر مصدر للطاقة
والصين لا تسعى لتأمين الطاقة على الأمد القريب فقط، وإنما أيضا على المدى البعيد حين تنفد الطاقة الكامنة في أعماق اليابسة وأعماق البحار، والصين كما أميركا كلّ منهما يعمل على تأمين المستقبل عبر الإتيان بالطاقة البديلة من القمر! وبحسب ما يقول ستيفان مارشان فإنّ القمر يحتوي على مادة " الهليوم 3"، وهي مادة نادرة في الأرض، وهي نظير الهليوم العادي، ولكن بفارق جوهريّ وهو انه غير مشعّ، طاقة نظيفة. وفي القمر حوالي مليون طن من هذه الطاقة، وهي مادة مكثفة جداً توفر حاجة الأرض من الطاقة لمئات السنين، ولا تحتاج أميركا نفسها سنويا لأكثر من خمسين طنا، إلا إن كلفة الطنّ الواحد منه أربعة مليارات دولار. ولا أحد اليوم يستطيع أن يحدد بيد من ستكون هذه الطاقة المستقبلية البديلة. الصين، في أي حال، لا تتعامل مع استيراد "الهليوم 3" من القمر باستخفاف.
انتصار بلا معركة
تؤمن الصين بأنّ أفضل الانتصارات هي التي تحققها من دون أن تخوضها. ولكن ثمة عوامل لا بد من توفرها لتحقيق هذا الانتصار السهل والكاسح، وذلك عن طريق جعل قوة الخصم تتآكل من الداخل ويفعل التآكل فيها فعله على غرار ما تفعله الأَرَضَةُ أو السوس في الخشب، وحين يأتي وقت المواجهة تخون الخصم قوته، وهذه استراتيجية متبعة في التقاليد الحربية الصينية، فقديما كانت الصين تدخل إلى ديار عدوها حيوانات مريضة بالطاعون، أو تلوث مياه شربه، ومع التطور التكنولوجي فان الصين عمدت إلى تطوير هذه الاستراتيجية، ووجدت في السلاح الرقميّ سلاحاً فتاكاً يحدد مصير أي معركة عسكرية قادمة. وتسعى الصين إلى امتلاك استراتيجيا فاعلة وهي شل أعصاب الخصم الرقمية، وتشتيت ذهنه الالكترونيّ، وزرع الضباب الرقميّ في وجهه.ماذا يحدث لأميركا في حال لم يعد للتواصل الالكتروني أي دور في المعركة، ماذا تفعل أميركا إذا تمرّد صاروخ على كبسة الزرّ؟ ماذا تفعل الولايات المتحدّة الأمريكية بقوتها الهائلة إذا وجدت نفسها بين ليلة وضحاها عاجزة عن تحريك قدراتها المشلولة؟ إن أميركا تنظر بعيون أبوكاليبسية إلى هذا السيناريو الأسود، ولا سيّما أن أنفاسها وحياتها اليومية في الأرض معلقة بحركات وتعليمات أقمارها الاصطناعية.
ترى الصين إن من يحدد مصير المعركة اليوم ليس من يملك القوة وإنما القادر على شلّ القوة والتشويش على المعلومة. "الفيروس الرقميّ" أيضا سوف يساهم في تحديد مصير أي معركة؟ والصين تعمل بكل قضها وقضيضها على تحقيق انتصار في هذه المعركة، وأميركا هنا تنفق الكثير لتحصين مواقعها الالكترونية. والصين تفرح لهذا الإنفاق الذي يرهق الميزانية الاميركية. إن الصين تسعى على أكثر من محور، و"الحرب السيبرنية" أحد هذه المحاور، هي حرب بكل معنى الكلمة ولكنها حرب قد تمنع حروبا ضارية.إنّ البنتاغون يستعمل 5 ملايين حاسوب وهذه الحواسيب موصول بعضها ببعض، وهي كلّها في نظر الصين أهداف عسكرية، لأن ليس للمعلومة حرمة، وخصوصاً حين تكون هذه المعلومة سلاحاً يستعمله الخصم في المعركة، وأميركا تعرف اليوم إن اغلب الهجمات التي تتلقاها مصدرها الصين. وفي "الحرب السيبرنية" (Cyberguerre) الدفاع يكلّف أكثر من الهجوم، وهو دفاع مشكوك في نجاعته لأنه لا يمكن القيام بـ"مناوارات سيبرنية" لإظهار كفاءة الدفاع. وعليه فإنّ كفاءته لا تظهر إلا في حال الهجوم، وهنا يكون الوضع حرجاُ لأنه في حال تهافت نجاعته أو قدرته على صدّ الهجمات فذلك يعني أن المعركة حسمت من أولها. والصين تنفق كثيراً على هذه المعركة، "والحرب السيبرنية" مادة تدرسها الصين اليوم في كلياتها العسكرية.
ورواتب العاملين في هذا الميدان في الصين سخيّة جدا تضاهي ما يمكن أن يأخذه الموظف في الشركات الخاصة، كما إن للصين جيشا من "الهاركرز" القابل للتجنيد في أي وقت، إنّه احتياط متمرّس ومهيّأ للتدخل في أي لحظة في هذه المعركة. ووظيفته ضرب أنظمة المعلومات للبنية العسكرية الأميركية، ليس هذا فحسب وإنما ضرب قنوات الاتصال المدنية، وبورصة نيويورك. في الراهن، يقول الكاتب، من المستبعد أن نشهد مثيلا لـ "بيرل هاربر " في المحيط الهادىء، إلا أن هجمة معلوماتية على غرار " بيرل هاربر" ليست أمرا بعيد الاحتمال.
وعينة بسيطة من هذه الحرب المحتملة حدثت في شهر أيار من عام 2007 في استونيا حين شنّ هجوم على مواقع الحكومة الإستونية وعلى بعض المصارف، الحلف الأطلسي اخذ الأمر بجدية كبيرة لأن حربا من هذا القبيل سوف تربك إرباكا كبيرا "أمن عمليات" الحلف مع كلّ ما يعنيه ذلك من احتمالات كارثية. والصين تعمل بجدية على اكتساب معركة المعلومات، وهذا ما أعلنه مؤتمر الحزب الشيوعي في جلسته السادسة عشر عام 2002.
والصين تعرف إن تفوق أميركا موجود في الفضاء، من هنا تعمل الصين على منازعة أميركا لهذا التفوق. ومن يحسم المعركة الأرضية إلى حد كبير هو الفضاء. وأميركا لا تسمح حتى لحلفائها بان يملكوا قوتها الفضائية فما بالك بخصومها؟ لان من يملك القدرة على الحركة في الفضاء هو الذي سوف يرسم حدود وإحجام القوى على الأرض. ويقول الجنرال الصيني "فانغ فانغ خوي":" علينا السعي والعمل بكلّ عزم للتفوق على القوة الفضائية الأمريكية".
استراتيجية الميكروب الرقميّ
ما هي الاستراتيجية الصينية لشلّ تفوق أميركا الفضائي؟ يروى الكاتب حكاية القمر الصناعي الأميركي المعروف باسم" كيهول" keyhole)). كان هذا القمر يدور في الأسبوع الأول من أكتوبر عام 2006 فوق الأراضي الصينية على ارتفاع 320 كلم ومهمته التقاط صور رقمية، وهو قمر قادر على رؤية غرض بحجم 10 سنتمر وتصويره بوضوح عالٍ في الليل أو في النهار، كما بإمكانه التقاط مصدر الحرارة أي انه يمكنه تحديد ما إذا كانت عربة ما تستعدّ للتحرّك (عبر حرارة محركها) أم لا. ويستطيع هذا القمر سبر السواتر لرؤية ما يختبىء خلفها من دبابات أو غيرها من أنواع الأسلحة. ويعدّ "كيهول" مفخرة من مفاخر القوة الفضائية الأمريكية الرادعة. وصلت الأخبار السوداء فجأة إلى قاعدة القمر في الأرض ومفادها إن أشعة لايزر آتية من الأرض قد ضربته وأعمته. إلا أن البنتاغون لم يعلق كثيرا على الأمر، حتى لا تفلت كلمة غير متوقعة، ولهذا سرب المعلومة تسريبا، لرؤية رد فعل الصين. والمعلومة المسربة لم تكن إلا فتافيت غير كافية لتبيان الضرر الفعلي اللاحق بالقمر، ولم تحدد ما إذا كان العمى الذي أصاب القمر هو عمى مؤقت كما لم تشر إلى ما أصاب جهازه البصري من ضرر. التكتم الأميركي على تفاصيل الأضرار كان مخافة أن تستفيد الصين من المعلومات التي قد تستخدمها لتحسين وتطوير هذا السلاح الفتاك.
إن الصين تعمل على إنشاء وتطوير "قمر فضائي طفيليّ"، أو ما يمكن أن يسمى بـ"منمنمات فضائية" أو " ميكروبات فضائية" ولقد قامت الصين فعلا بتجريب قمر مضاد للأقمار عام 2004 بنجاح باهر. وظيفة هذا "الميكروب الفضائي" الالتصاق كما الطفيليات على هيكل قمر صناعيّ، ثمّ يتحول إلى ما يشبه الخلية النائمة التي يمكن تنشيطها وتشغيلها في حال حدوث صدام للتشويش على المعلومات الصادرة والواردة إلى هذا القمر، أي أن لهذا "الميكروب" قدرة هائلة على تعطيل وشلّ طاقة القمر. وهو من الإنجازات التي قامت بها "أكاديمية الأبحاث التكنولوجية الفضائية" في بكين. وبحسب أحد مراكز الأبحاث الاميركية فإنّ كلفة هذا القمر المُنَمْنَم أقلّ بألف مرة من كلفة قمر اصطناعيّ عادي.
لا ينكر الكاتب أنّ الولايات المتحدة الأمريكية اليوم هي بمثابة "عملاق الكتروني"، أو هي بحسب تسميته "غولياث الكتروني". ولكن يتساءل الكاتب عن المصير الذي ينتظر هذا العملاق على يد " داوود الالكترونيّ الصيني الصغير"؟

الثقافة قامتها هيفاء محاضرة ألقيتها في مركز الصفدي الثقافي

أثناء القاء محاضرتي والى جانبي الدكتور هيثم الناهي والدكتورة ريما مولود

 
كلمة " هيفاء" عربية من صميم المعجم العربيّ ولا غبار عليها. ومسيرة هذه المفردة لا تخلو من طرافة عبر صلتها بمفردة عامية شائعة هي " هايفة"، ويقول البعض ان " هايفة" هي وجه من وجوه كلمة" هيفاء" بعد أن لعب بها قانون التقليب الصوتي الذي " شقلب" حروفها كما شقلب دلالتها، وصارت دلالتها تحمل معنى الهيافة او السخافة أو ما لا قيمة له.
 الطريف ان الأخت غير الشقيقة لهيفاء وهبي وهي رولا يموت اطلت بكليب غنائيّ عنوانه " أنا مش واحدة هايفة" وهي كلمة " لاذعة" في سياق الخصومة مع شقيقتها " هيفاء" ولعبة لغوية ماكرة! والهَيَفُ بفتحتين يعني ضمور البطن والخاصرة، ونقول: " رجل أَهْيَفُ" و "اامرأة هَيْفَاءُ" و"قوم هِيفٌ". والهيف "ضمور" ولكنه ضمور إيجابيّ في عالم الجمال، ومرغوب تنفق في سبيله مليارات الدولارات!
قرّرت الإذاعة البريطانية BBC الترويج لتعلّم اللغة الإنكليزيّة عام 2004، واختارت توقيتاً ملائماً هو بدء معرض الكتاب العربيّ في بيروت. ننعرف أنّ لبنان هو معقل الفرنكوفونيّة في العالم العربيّ، أو في الأقلّ في الشرق الأوسط. ومن يتابع الكرّ والفرّ اللغويين يعرف أنّ اللغة الإنكليزيّة تقارع الفرنسيّة في عقر دارها وفي عقر دور أخرى. وليست الفرنكوفونيةُ الاّ معركة لغوية ضروساً بين اللغة الفرنسيّة واللغة الانكليزية. فاللغات ساحات حروب حضارية وفكريّة واقتصادية ( وهنا أحيل إلى كتاب شيّق هو " حرب اللغات والسياسات اللغويّة" تأليف لويس جان كالفي Louis-Jean Calvet  والذي أصدرت ترجمته العربية المنظمة العربية للترجمة). ولا يختلف الصراع اللغويّ عن صراع الحضارات وان تقنّع أحياناً بقناع الحوار الحضاريّ او الانفتاح على الآخر. فالكلمات لباس، ولا أحد يمنع على العسكريّ لباسه المدنيّ، بل قد يتاح للعسكريّ ان ينجح في مهماته وهو في زيّه المدنيّ أكثر ممّا قد ينجح في مهمته وهو مدجّج بزيّه العسكريّ.
اختارت البي بي سي وجهاً عربياً معروفاً، ومألوفاً، ومحبوباً، ومكروهاً، وهو وجه مثير للجدل كما هو مثير للفتنة. مثار استحسان واستهجان في آن، وجه توجز ردود الفعل عليه واقع العالم العربيّ الممزّق الذي تتناتشه الأضداد, وهو وجه انثويّ جذّاب، انه وجه هيفاء وهبي. والجذب هنا مزدوج، قد يكون سرّا وقد يكون علناً، عنصر الجذب كعنصر التنديد تماماً. زائر معرض بيروت للكتاب في ذلك الوقت كان يلحظ وجود صورة كبيرة للفنانة الاستعراضية على واجهة جناح هيئة الإذاعة البريطانية BBC وكتب تحتها كلمة "اتبعني"!  فعل أمر ملتبس موجّه للذكور في صيغته الآمرة.


أثناء محاضرتي الثقافة قامتها هيفاء

أذكر انّي كنت في حفل افتتاح معرض الكتاب، في ذلك العام،  وما لفت نظري هو لحظة دخول هيفاء وهبي متّجهة الى جناح الـ" بي بي سي". كان الصحافيّون متكتّلين أمام جمهور الافتتاح الرسمي بحشده السياسيّ وهو يتجوّل في أجنحة المعرض، ولكن ما إن مرّ طيف هيفاء وهبي حتّى انفضّ عدد كبير من رجال الصحافة عن عالم السياسة ولحقوا بهيفاء وهبي، وسمعت رئيس حكومة لبنان لذلك العهد المغفور له عمر كرامي وهو يعلق على سلوك بعض الصحافيين وبسمة تعلو شفتيه: معهم – اي الصحافيون- الحقّ.
والآن أعمد إلى إدراج كلمة الثقافة في صلب كلمتي في صيغة تساؤل: ألا يفترض بالقيّمين على الشؤون الثقافية الاستعانةُ بأهل الفنّ للترويج لسلعهم الفكرية والأدبية والثقافية الجادّة. أعتبر " الثقافة" بكل مكوّناتها سلعاً تحتاج لمن يحسن تسويقها. وليس في هذا أيّ امتهان للثقافة. قد لا يحمل الفنّان الاستعراضيّ أو الفنّانة الاستعراضية همّاً أدبياً أو ثقافياً او فكرياً، ولكن من قال إنّه لا يمكن تحميله هذا الهمّ او هذا الهدف؟ (اليونسكو تستثمر مؤهّلات الفنانين والرياضيين لمآرب إنسانية، فلم لا يستثمر الفنّان لمآرب ثقافية؟)، وأتساءل مجرّد تساؤل : ماذا فعل عبد الحليم حافظ أو كاظم الساهر لنزار قبّاني؟ ومن كان سيسمع برباعيات الخيّام لولا صوت كوكب الشرق أمّ كلثوم؟ وماذا يحدث لامرىء القيس أو البحتري في حال قرّر مغنّ او مغنية أخذ بيتين او ثلاث ابيات من شعرهما وإطلاقهما في عالم الغناء؟ من يستطيع أن يحدّد ماذا فعل بيت أبي القاسم الشابّي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر.
الفلسفة هي" حسن استخدام واو العطف" كما يقول مفكّر هندي ويقصد "بواو العطف" إتقان الربط بين أمور تبدو للوهلة الأولى متنافرة أو لا يجمعها جامع أو وجه شبه ولكن وجوه الشبه المحذوفة كنوز فكرية لمن يجهد نفسه في الكشف عنها. وفي كتب البلاغة العربيّة تعريفات كثيرة للبلاغة منها ان البلاغة" معرفة الفصل من الوصل" أي معرفة اللحظة التي تسمح لنا ان نربط أو ان نفصل بين الأشياء والعناصر. نلحظ هنا ان البلاغة, من هذا المنظور, ليست بعيدة تماما عن النظرة الهندية. وكان ستيف جوبز مؤسس شركة التفاحة المقضومة " آبل" يقول، وهو المفتون الى حدّ الهوس بالبساطة  :  "الإبداع هو القدرة على وصل الأشياء مع بعضها".  وهي قدرة ليست في متناول أي أحد، فعبد القاهر الجرجاني رجل البلاغة البليغ يقول: إنّ معرفة الفصل من الوصل ممّا لا يتأتّى لتمام الصواب فيه إلاّ الأعراب الخلّص وإلاّ قوم طبعوا على البلاغة".
الخمار الثقافيّ
والثقافة عليها، كي تكون فاعلة، أن تحسن وصل الأشياء مع بعضها، ان تكون كخيط السبحة الذي ينتظم الحبّات ، أن تصل بين الشعبيّ والرسميّ، بين " الخمار" والموسيقى والأغنية على غرار ما حدث مع مسكين الدارميّ عبر الحكاية التاليةّ:
كان الشاعر مسكين الدارميّ  ( توفي عام 90 للهجرة في خلافة الوليد بن عبد الملك) صاحب البيت المأثور:
أخاك أخاك إن من لا أخاً له        كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحٍ
قد اعتزل الشعر وتحول إلى ناسك متعبّد بعد أن كان من الشعراء المعروفين بالظرف والخلاعة إلا أن الأقدار جعلته يخون زهده لغايات نبيلة حين رمته بين يدي تاجر أقمشة يندب حظّه العاثر بعد ان كسدت بضاعته المؤلّفة من خُمُر سود,  وللألوان تأثير خلاب على ترويج الأشياء أو كسادها, وكان اللون الأسود عائقاً أمام تسويق الخُمُر, فاستنجد التاجر بالشاعر المعتزل مسكين الدارمي الذي استعاد خيالُه نشاطه, هذه المرّة, لتسويق ما كسد, فألف مقطوعة شعرية وأرسلها لصاحب له من مشاهير المغنّين, فلم تبق فتاة, بعد سماع الأغنية, إلا واشترت خمارا أسود, لأن الشاعر استطاع, بحنكته الشعرية, ان يمنح اللون الأسود لون الملاحة، وأن يغيّر من نظرة الحِسان إلى الألوان. وللشعر مقدرة كيميائيّة, كما يقال,  على تحسين القبيح وتقبيح الحسن, وتغيير نظرتنا ومواقفنا من بعض الأمور .
ومن حسن حظّ هذه الأبيات الشعرية انّها استعادت حياتها الفنّيّة, في العصر الحديث, بصوت المطرب العراقيّ الراحل ناظم الغزالي ولاقت رواجاً لا يزال نضير العبارة إلى اليوم, والأبيات هي:

قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بناسك متعبّد
قد كان شمّر للصلاة ثيابه
حتى خطرت له بباب المسجدِ
ردّي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليه بحقّ دين محمّد


احب الاشارة هنا الى الدور المميز الذي تلعبه الفنمانة الرائعة سعاد ماسي في اغنيها التراثية، وهي اغان لافتة للنظر انها تختار من معلقات العرب كبعض ابيات عنترة بن شداد او زهير بن ابي سلمى، كما اختارت ابيات من شعر المتنبي والحلاج ابيات شعر وصدحت بها في العالم العربي وفي المغتربات، وان كانت الفنانة الكبيرة غير معروفة في لبنان مثلا فانها لا شكّ تؤدي دورا ادربيا ممتازا عبر تعميم شعر شعراء كبار قدامى ومحدثين ونشره. وهنا اشكر الصديقة عائدة ابو شقرا التي عن طريقها سمعت بالفنانة سعاد ماسي، وهي فنانة تعزّز جزءا من الفكرة التي اتبناها في هذه المحاضرة.

الامبراطور اليابانيّ ولغة النتّ
أختم مداخلتي بحكاية يابانية، وهي حكاية واقعية حتّى العظم، عن مرض عربيّ اسمه لغة النتّ، وهي عبارة ليست صائبة لأنها تعامل المكتوب معاملة المنطوق، ولكنها عبارة شائعة ومألوفة، لن أتناولها في كلامي الاّ من خلال علاقة الياباني في علاقته مع خطّه، وهي علاقة نموذجيّة، رائعة، تظهر مدى احترام اليابان لخطّها، وتفانيها في خدمته، وتظهر كيف أنّ الخطّ جزء من سياسة الدولة. تقام، في الإمبراطوريّة اليابانية، مسابقة خطيّة في مطلع كلّ عام، من الدالّ توقيت المسابقة يوم رأس السنة وهو يوم ليس كسائر الأيّام!. يشترك في مسابقة فنّ الخطّ حوالي ثلاثة آلاف مشترك من كلّ الأعمار، في الهواء الطّلْق، في ساحة واسعة الأرجاء، فهنا توحّدهم جميعاً هواية الخطّ، واللوحة التي تفوز بالجائزة لا تكتفي بالمبلغ المرصود لها، فثمّة ما هو أهمّ من المبلغ وأهمّ من الجائزة نفسها هو مكان استضافتها. تتحوّل اللوحة الفائزة إلى لوحة فنيّة تعلّق في قصر الإمبراطور، وهنا يخطر ببالي كيف أنّ المعلقات الشعريّة الجاهليّة أخذت اسمها من تعليقها على جدران الكعبة. ثم إنّ الامبراطور بجلالة قدره يقوم باستقبال الفائز وتكريمه، ونحن نعرف المقام المقدّس للامبراطور في الديانة الشنْتويّة.
لنتخيل أنّ لبنان أو أيّ بلد عربي آخر يقيم سنويّاً مسابقة للخطّ العربيّ، ويكون من نصيب لوحة الفائز أنْ تعلّق في القصر الجمهوريّ أو القصر الملكيّ أو بلاط الأمير، هل كان احتقارنا للحرف العربيّ يبقى كما هو الآن؟ وهل كانت " لغة النت" تسرح وتمرح على ذوقها بقدّ متهتّك تظنّه ميّاساً، وقامةٍ عجفاء تظنّها هيفاء؟
من الخطّ تبدأ خطّة العمل الثقافيّ!

بلال عبد الهادي