السبت، 30 يناير 2016

يقظة التنين الصيني


يقظة التنين الصيني تثير الخوف والقلق لدى القوى العظمى في العالم، والتنين هذا الكائن الخرافيّ تعود جذور ولادته إلى أساطير قديمة جدا، وان كان التنين يثير الرعب في الغرب، فهو لا يحمل الدلالات نفسها في الصين، انه يجسد روح الصين وفلسفتها ونظرتها إلى الحياة، وعليه فإن تفكيك رمزيته يساهم في فهم الذهنية الصينية التي تقوم على فلسفة الوئام وليس الخصام. الصينيون يقولون إنهم من سلالة التنين. وهذه الخرافة الصينية في شجرة الأنساب لا أساس لها، عملياً، من الصحة لأن ليس للتنين كيان حقيقي وفعلي وإنما هو مخلوق مركّب. يعود تاريخ ولادة التنين الرمز إلى ولادة الصين نفسها، هذه الحضارة المعمّرة والأقدم في العالم التي لم تنقرض شأن الحضارة الفرعونية أو الفينيقية أو الرومانية وغيرها من الحضارات القديمة، ولعلّ بعض سحر الصين مستمدّ من هذا الامتداد الزمني الذي لا يمكن لأي حضارة راهنة أن تدّعيه. ويقول علماء الأنتروبولوجيا في الصين إنّ التنين هذا الكائن الخرافي ليس إلاّ عملية تسوية تاريخية توحيدية قامت بها القبائل الصينية القديمة التي كان لكل منها طوطمها الخاص، فالبعض كانت الأفعى طوطمه أو السمكة أو السلحفاة أو الأيّل. ومن بين هذه القبائل خرج قائد كبير ووحّدها كلها تحت سلطانه، ولكنه لم يتخذ من طوطم قبيلته الخاص رمزا مفروضاً على سائر القبائل ولم يترك، بالمقابل، للقبائل الأخرى حرية الاحتفاظ بطوطمها الخاص فقام بعملية توحيد كل هذه الحيوانات الطوطمية في كائن خرافيّ افتراضي أخذ شكل التنين، ومن يتأمل رسومات التنين يدرك أن أعضاءه مأخوذة من عدة حيوانات.فالتنين الراهن له قرون غزال وجلد أفعى ومخالب نسر ...الخ. والتنين لا يرمز إلى الأمة الصينية فقط وإنما إلى روحها ووحدتها القائمة على التعددية المتناغمة.
وتسعى الصين حاليا إلى فصل سيرة حياة التنين الصيني عن التنانين الغربية الغريبة، والتي ترمز إلى الرذيلة بخلاف ما ترمز اليه التنانين الصينية. من هنا اقترح المفكر الصيني كوان شيه دْجْيِه) (Guan Shi jie الاحتفاظ بالكلمة الصينية "لونغ" للتنين، وإدخالها إلى معاجم الغرب حتى لا يتلوّث معناه بالمعنى الغربي، معتبرا ان تشويه صورة التنين الصيني تعود إلى عامل مطابقته بمدلول مفردة التنين الغربيdragon) ) الذي ينطوي على دلالات سلبية. فالتنين الغربي يرمز إلى الهيمنة والسيطرة والاقتحام في الغرب، وعليه فإن تحرير التنين الصيني من معناه الغربيّ يعيده إلى طبيعته الصينية المسالمة الموحدة، التي تنشد التناغم. وان اتخذت العولمة مسارها بما ينسجم مع طبيعة التنين الصينيّ المركبة فهذا يعني ان العولمة سيشارك فيها الجميع، وتكون ملامحها مأخوذة من كل الحضارات الراهنة على شاكلة ملامح التنين الرمزية. والصين بلد الوسط والتسامح والتناغم، وفلسفتها الأخلاقية والروحية تقوم على فكرة الانسجام، والذين يرعبهم النهوض الصيني إنما يجهلون الأسس الفكرية والروحية التي تقوم عليها ثقافة الصين الأعرق في التاريخ الراهن. وثمة أمور كثيرة مثيرة للاهتمام في الفكر الصيني، ولقد أدرك العالم الغربي أهمية أشياء كثيرة في هذا الفكر منها مثلا مفهوم"الفانغ شوي" ( الريح والماء)، أي علاقة العمران بالمكان وأثره على السكّان، والمكتبات الغربية مليئة بالكتب التي تتناول الأبعاد الروحية لممارسة الـ"فانغ شوي" الصينية.
ثمة مفاتن وأمور كثيرة تسترعي التأمل والنظر في بلاد الوسط أو بلاد "الهارد وير" كما سماها بعض الدارسين الغربيين، مستلهما تركيب الكمبيوتر المؤلّف من "سوفت وير" و"هارد وير" معتبرا ان القرن الحادي والعشرين سيكون على شاكلة الكمبيوتر، "الهارد وير" من نصيب الصين بينما "السوفت وير" من نصيب الهند.
الفكر الصيني لا يرضى أن ينحبس في وجهة نظر واحدة، ولعل هذا السبب يعود إلى الطبيعة البراغماتية التي يتمتع بها والتي تلخصها عبارة رجل نهضة الصين الراهنة الرئيس الراحل دانغ شياو بينغ القائل انه "لا يهم أن يكون لون الهرّ ابيض أو اسود وإنّما المهمّ أن يأكل الفأر". في أي حال ثمة عدة أقاصيص وحكايات تظهر ليونة الفكر الصيني الشبيه بليونة حركات التنين ورهافة عضلاته التي يمكن لها أن تتحرك في كلّ الاتجاهات، كما ان الفكر الصيني يعتمد اعتمادا كبيرا على التشبيهات والمجازات المائية لما يمتلكه الماء من خاصية مرنة، طيعة، هذا ما يلحظه قارىء كتاب "التاو" على سبيل المثال للفيلسوف الصيني "لاو تزه". ويروي الكاتب الصيني المقيم في فرنسا أندريه شيانغ حكاية تشير إلى أن الصيني لا يمكن أن تحبسه في وجهة نظر واحدة، وليونته في التعامل مع الحقائق والمطلق أمر غاية في العجب، بل أن كلمات مثل "مطلق" أو "منطق" كلمات ومفاهيم طارئة، لم تدخل القاموس الصيني إلا حديثا اثر الانفتاح على الغرب.
يروي اندريه شيانغ قصة معبد صيني مبني وسط بحيرة اصطناعية كبيرة في بكين، مما يجعل أمر الوصول إليه مستحيلا إلا على متن زورق أو عن طريق عبور الجسور. ويشير الكاتب الصيني إلى حيرة السائح الغربي امام تركيبة الجسور فهي متعرجة كمجرى نهر، مع انه لا يوجد أي عائق طبيعي يفرض هذه التركيبة المتعرجة، أي ان الاعوجاج ليس وليد عائق جغرافي أو بسبب تضاريس قاهرة. إن الحيرة التي تصيب الغربي لا تصيب بالتأكيد الصيني المعتاد على أن ينظر إلى أي أمر من الأمور نظرات متعددة ومن زوايا مختلفة. يقول اندريه شيانغ شارحاً طبيعة الجسور المتعرجة: ان الجسر المستقيم ممكن جدا وتكاليف بنائه اقل بكثير ربما إلا انه يمنع الذاهب إلى المعبد من أن يتشبع بروح المكان وبالطبيعة المحيطة لان عينيه ستكونان حبيستي نظرة واحدة أو اتجاه واحد، في حين ان منعرجات الجسر تسمح للذاهب إلى المعبد بان يرى أكثر من مشهد أو يرى المشهد الواحد من زوايا متعددة، فهو أي الجسر يمنع، من جهة، من السقوط في فخّ الرتابة، ويزود العين، من جهة أخرى، بالمقدرة على تقليب النظر في المشهد وتغيير مرآه، ويبدو أن علاقة الصيني بالعين علاقة مميزة فعلا، وهنا لا بد من العودة إلى أسطورة أخرى شديدة الطرافة والدلالة على ولادة الخطّ الصيني المميّز، المعروف أن ليس هناك أي فضل للأبجدية الفينيقية على كتابة اللغة الصينية التي نبتت من تجربة الحضارة الصينية نفسها ولم تستوردها من خارج حدودها، فهي كتابة تصويرية وليست أبجدية أو صوتية، أي أن الكلمة الصينية لا تشير إلى صوت وإنما إلى معنى أو شكل، ولعل هذا السبب هو الذي جعل من إتقانها مسألة صعبة بصعوبة خرق سور الصين نفسه. وتروي الخرافة الصينية انّ "صان دجيه" الكاهن في عهد مؤسس الإمبراطورية الصينية هوانغ تي هو الذي اخترع الكتابة عبر ملاحظة آثار اقدام الطيور على التراب، إلى هنا الأمر، إلى حد ما، عادي إذ من المعروف ارتباط بدايات الكتابات بالكهانة والسحر معاً في أكثر من حضارة، إلا أن الأسطورة احتفظت لنا برسم لمبتكر الكتابة الصينية واسمه "صان دجيه"، ومن يتأملها يلحظ فوراً غرابة في تكاوين وجهه، فهو لا يملك عينين اثنتين وإنما أربع عيون، أي أنّه يمتلك حدّة في النظر لا تتوفّر لسائر الخلق إلاّ في الأساطير. ولا ريب في ان الكتابة الصينية تحتاج إلى ذاكرة بصرية مرهفة لا تحتاج لها بقيّة اللغات القائمة على الكتابة الأبجدية أو الصوتية. إن رمزية العيون الكثيرة في صورة "صان دْجْيِه" هي عملية تحرير الأمور من عقال النظرة الواحدة أسيرة الايديولوجيا المغلقة. من هنا يرى بعض الماركسيين انحراف الصين عن الخط الماركسي إلا أن الصينيين يجيبون بان الذين يؤمنون بحرفية نص ماركس هم من ألد أعدائه وأكثرهم بعداً عن الماركسية لأنهم يقتلون أفكاره بتحجيرها. هذه الليونة في التعامل مع الفكر الماركسي هو الذي أنقذ الحزب الشيوعي في الصين من أن يلقى المصير نفسه الذي لقيه الحزب في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. وهذه النظرة الواسعة والمتحركة ليست بنت الغرب وإنما بنت التراث الصيني الروحي والمادي على السواء. وتحجير النص أو المعنى أمر لا يخطر ببال صيني، وهذا ربما من أثر لغتهم على فكرهم، والمعروف أن الإنسان لا يمكن له أن يرى العالم إلا من منظور لغته، أي لا بد من أن يتنبى وجهة نظر لغته بطريقة عفوية ولا واعية، لأننا نعيش، كما يقول العالم الألسني الفرنسي فندريس، تحت رحمة اللغة.
واللغة الصينية من أكثر اللغات خضوعاً للنظرية السياقية، فالسياق هو الذي يحدد دلالات الكلمات. هو الذي يحدد طبيعة الكلمة فيما إذا كانت اسما أو فعلا أو حرفا، لأنّ الكلمة الواحدة هي نفسها قد تكون فعلاً أو اسماً أو حرفاً من دون أي تعديل في صيغتها الصوتية أو الكتابية. ليس هناك من صيغ مائزة للأفعال والأسماء، كما أن اللغة الصينية لا تملك أيضا علامات فارقة تميز بين المفرد والجمع بخلاف العربية مثلا التي تملك للمفرد الواحد عدة أشكال من صيغ الجموع. السياق وحده في اللغة الصينية هو الذي يحدد ما إذا كانت المفردة تدلّ على مفرد أو جمع، كما أن ليس في اللغة الصينية أدوات تنكير أو تعريف، فـ"ال" التعريف ليست من صلب اللغة الصينية والسياق وحده يشير إلى كون المقصود نكرة أو معرفة، كما أن ليس في الصينية أيضا تصريف للأفعال، فالأفعال لا تصرف، لها شكل واحد بدلالات متعددة، والسياق وحده هو الذي يقوم بمهمة تحديد ما إذا كان الفعل يدل على الحاضر أو الماضي أو المضارع. لغة تتحرر فيها الكلمات من القيود اللغوية لا بد إلا أن تنعكس على نظرة الناطقين بها وعلى رؤيتهم للأشياء. إن العلاقات بين الكلمات هي التي تحدد معنى الكلمات، والبعض يشير إلى أن الصينيين هم الذين اخترعوا المغناطيس وذلك بسبب إدراكهم لوجود علاقات خفية بين الأشياء وهو ما يعرف بمصطلح "تْشِي" في اللغة الصينية. المعنى غير ثابت أو مكتمل ولا يمكن سجنه في دلالة مفردة. ويشير الكاتب الفرنسي المتخصص في الفكر الصيني فرنسوا جوليان إلى مقولة صينية حول المعنى، حيث تشبه فرشاة الكتابة بالمجذاف ( وبالمناسبة فرشاة الكتابة هي نفسها فرشاة الرسم في الصين، بخلاف الفصل بين أدوات الرسم وأدوات الكتابة في الغرب أو العالم العربي). إن رفع المجذاف لا يعني على الإطلاق إيقاف الزورق، لان المياه المتموجة لا تسمح للزورق بالاستقرار التام. وهكذا المعنى لا يمكن تجميده في أرضه، انه متحرك حركة الزورق بعد رفع المجاذيف.والحركة هنا هي حركة براغماتية، طبيعية. وعلى هذا تقوم فكرة "التاو= الطريق" في الفلسفة التاوية وخلاصتها عدم المقاومة، وعدم السباحة ضد التيار. إنّ ركوب التيار لا ترهق الجسد إرهاقه في حال كانت السباحة ضد التيار، وهذا يعني الانسجام مع المكان الذي أنت فيه. ومفهوم الانسجام أو التناغم من صلب الفكر الصيني الكونفوشيّ والتاويّ على السواء، وهو مفهوم لا يزال يتكرر على ألسنة السياسيين الصينيين في نظرتهم إلى إدارة شؤون العالم ومعالجة أزماته، وهو مفهوم يزعج الغربيين، لأنهم يرون أنّ الشعب الصينيّ متعرج كالجسر الموصل إلى المعبد، وكمجرى النهر الذي لا يعرف الخطّ المستقيم. والحضارة الصينية بنت حوض النهر الأصفر, ومنه اكتسبت استراتيجيتها المائية، كما يتبدى ذلك بجلاء في كثير من فصول كتاب" فن الحرب" لـ "صن تسه"، وهو من أوائل الكتب التي تتناول فن الاستراتيجيا- كتب في منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد- والكتاب لأهميته لا يدرس فقط في الكليات الحربية وانما يدرس أيضا في كليات إدارة الأعمال حتّى في أميركا نفسها. ومن الأمور التي لا يستوعبها العقل الغربي عدم التزام الصينيين بالمعاهدات، ليس لأنهم لا يحبون الالتزام بالمعاهدات والمواثيق، ولكن لان المعاهدة ضد سنة الحياة المتغيرة، وهو يؤمنون بالتغيرات والتحوّلات وبان كلّ شيء متغير، لأنّ الثبات أشبه ما يكون بفكرة سريالية في نظر الصينيين، تدحضه حركة الـ"ين" والـ"يانغ" الدائمة، كما ورد في كتابهم الأول الذي يدلّ عنوانه على جوهر فكرهم، وهو "كتاب التحولات". فكيف يلتزمون بمعاهدة بعد أن تتغير ظروف عقدها؟ أليس من الطبيعيّ أن تتبدل بنود المعاهدات بتبدل الظروف والسياقات عملاً بمفهوم التناغم والانسجام؟ عدم معرفة الروح الصينية يجعل تفسير الأمور يأخذ مساراً مثيراً للالتباس والغموض، أو يولد تفسيراً منقوصاً.
والصينيّ يميل إلى حلّ النزاعات بالمفاوضات بدلاً من الصراعات والمواجهات ولعلّ هذه الطرفة الواقعية تشير إلى نفورهم من المنافسات والحسم الصارخ لأنها قد تؤدي إلى إراقة ماء الوجه ( تْيُو مْيانْ تْزُهْ) وهذا ما لا تطيقه الذهنية الصينية. تقول الطرفة إنّ احد الجنرالات الصينيين في ثلاثينيات القرن الماضي دعي إلى مباراة كرة قدم، وهي لعبة لم تكن مألوفة بعد في الصين، وبعد عدة دقائق من بدء اللعب، دعا الجنرال احد معاونيه للاستفسار عن هذا النزاع المثير للسخرية حول كرة، متسائلاً لماذا لا تعطى لكل لاعب كرة ويفضّ هذا النزاع؟ والى الآن، فإنّ الألعاب التي يمهر فيها الصينيون هي الألعاب التي تعتمد على امتلاك تقنية وليس على مشادات تنافسية، ربّما بسبب ولعهم بالمثل الصينيّ الذي تحوّل إلى استراتيجية ناعمة وفاعلة والذي يقول:" أغمد خنجرك في بسمة"، وهذا المثل هو في الوقت نفسه عنوان لأحد فصول كتاب" 36 حيلة عسكرية" الطائر الشهرة، وبالمناسبة فإن للبسمة في اللغة الصينية خمسين مفردة تحمل خمسين دلالة مختلفة لعلّ الغمد واحد من هذه الدلالات!

الجمعة، 29 يناير 2016

تقشير بصل ( حكاية ماري سوي ميليكان Mary Sue Milliken )




تقشير بصل

لكلّ عين ذكرى مع تقشير البصل، ذكرى دامعة. ولكن نعرف أنّ الدمعة دمعتان: دمعة حزن ودمعة فرح. والعلماء يقولون ان التكوين البيولوجيّ لدمعة الحزن مختلف عن تكوين دمعة الفرح. كما انه من المعروف ايضاً ان البصل مادّة تحمل شيئاً لا يستهان به من إكسير السعادة! وللبصل حضور في أمثالنا العربية كما في أمثال غيرنا من الشعوب، فالعجول يقال إنّ بصلته محروقة. وللبصل دور في نسيان الأمور التعيسة على ما يبدو من خلال ما يقوله مثل كثير الشيوع، وإن في صيغة هزليّة، على أفواه الناس:" كول بصل وانسى اللي حصل"، ومن يتأمّل أمثال البصل يجد أنّها تتصّل بشؤون الحياة بوجوهها المختلفة، ولا سيّما خروج الضدّ من الضدّ غلى غرار المثل التالي: "الزهور بتتطلع من البصل" أو تجاور الأضداد كما في  "ما بصل إلا حواليه عسل أو ينطق بعلاقات القرب والبعد " ابعدوا تبقوا عسل وقربوا تبقوا بصل"، ونسبيّة قيمة الأشياء كما في  "بصلة المحب خروف"، أو أن العمر متبدّل المذاقات فـ "يوم عسل ويوم بصل"، كما ينصح بعدم التدخّل في كلّ الأمور فـ " يا داخل بين البصلة وقشرتها لا ينوبك إلا ريحتها" .

هذا المدخل البصليّ للكلام هو بغرض الحديث عن فتاة من شيكاغو، سيرتها تستحقّ أن تروى، وهي ماري سوي ميليكان Mary Sue Milliken، فتاة في العشرين من عمرها حصلت للتوّ على شهادة في فنّ الطبخ، فتاة لا تملك إلاّ شهادتها، ليس لديها خبرة، ولكنها طموحة، وحالمة، وتحمل مخزوناً هائلاً من الشغف، ذات نفَس طويل وتتحمّل برحابة صدر الدموع التي يولّدها تقشير البصل. والحديث عنها لا يتمّ إلاّ بالحديث عن زميلتها في العمل سوزان فنيغر Susan Feniger، شكّلتا معا ثنائياً جميلاً وفريد المذاق في مغامرتهما ذات النكهة المميّزة.
Mary Sue Milliken

ما ان نالت ماري إجازتها  في فنّ الطبخ حتّى قررت أن تعمل في أحد أعرق وأفخم المطاعم في شيكاغو والذي يحمل عنوان " بيروكيه  Perroquet / / البببغاء" . أرسلت ماري رسالة إلى صاحب المطعم، لم تنتظر الردّ بل أرسلت بعد ثلاثة أيّام رسالة ثانية الى صاحب المطعم نفسه، كانت بعد كلّ ثلاثة أو أربعة أيّام ترسل رسالة جديدة طالبة العمل في " بيروكيه".  المثل يقول " لُحَيح غلب مُطَيط"، ويبدو ان ماري كانت على معرفةٍ، على ما يبدو، بمرادِف انكليزيّ لهذا المثل، جاءها الجواب المنتظر بعد عدّة أسابيع من كتابة الرسائل بالموافقة على العمل في " بيروكيه". لم تتفاجأ أو ترفض العرض الذي تقدّم لها وهو " تقشير بصل" لقاء ثلاثة دولارات وربع الدولار في الساعة الواحدة. أيعقل ان يكون طموح انسان هو تقشير بصل في مطعم؟ هل صامت وصامت ثمّ فطرت على بصلة كما يقول المثل؟  العبرة بالنهايات والغايات. في الوقت نفسه تقريباً، كانت فتاة اخرى من مدينة نيويورك قد حصلت على الدبلوم نفسه، وراحت تسعى بحثاً عن فرصة نادرة تبدأ منها رحلتها في هذه الحياة، شاءت الأقدار ان تجد وظيفة في مطعم " بيروكيه"، المطعم الذي وصلته ، أيضا، حديثا ماري. لم تكن  وظيفة " سوزان" أفضل حالا بكثير من حال ماري، إذ كانت مهمتها غسل الخضار، وسلق القنبيط الأخضر (بروكولي). كانتا الفتاتين الوحيدتين في المطعم، وكانتا ، في الوقت نفسه، الأكثر شغفاً. ما مبرّر الشغف في عمل بسيط جدّا؟ كانتا تعرفان ان الشغف كالقناعة كنز لا ينفد، وان كان شغفهما على نقيض القناعة مفتوحاً على رغبات مكنونة بل جامحة. المكتوب في العقد هو ان دوام العمل يبدأ من الساعة الثامنة صباحاً، ولكنهما كانتا تصلان قبل ساعتين ونصف الساعة الى عملهما بشوق ولهفة، وكأنهما على موعد جميل مع العمل الشـاقّ والطويل. بعد عامين من العمل فرقت بينهما السبل، إذ سعت كلّ واحدة منهما على متابعة رحلتها مع النجاح والأحلام، ( إلى جانب العمل في تقشير البصل بنت شبكة علاقات طيّبة مع محيطها) ذهبت سوزان إلى لوس انجلس للعمل في مطعم فتحه حديثاً مهاجر من النمسا. المطعم مجهول، وكانت سوزان تعشق البدايات وعناق المجهول، بينما ماري بقيت في شيكاغو وافتتحت مقهاها الخاصّ، ولكنّ الفشل كان نصيب مقهاها، فقررت الذهاب الى فرنسا لتغذية سيرتها الوظيفيّة بدسم جديد. والفشل، في اي حال، درس في نجاح مستقبليّ. وهنا أشير الى كتاب طريف كتبه " جون سي ماكسويل John C. Maxwell " بعنوان" الفشل البنّاء" حيث سلّط في الكتاب الأضواء على دور الفشل كنواة صلبة في دفع أناس كثيرين إلى نجاحات باهرة. خطرت ببال ماري صديقتها سوزان فأرسلت لها رسالة تعلمها برغبتها في العودة الى اميركا، جواب صديقتها غيّر مجراها وقرارها، كانت سوزان تنوي الحضور إلى فرنسا لتجربة حظّها، فغيّرت ماري رأيها بالعودة وبقيت بانتظار صديقتها حيث بدآ العمل معاً.

ومن خلال علاقات بسيطة مع الزبائن ورحلات متواضعة الى الأقاليم خارج العاصمة، أخذا قراراً ثنائياً بالعمل معاً، ذات يوم، وتأسيس عمل خاصّ بهما، وهذا ما كان. عادا إلى اميركا  وفتحا مقهى خاصّا بهما  في حيّ من الأحياء الشرقية لوس انجلوس، وأسمياه "سيتي كافيه". كانتا تحضّران الأطباق في المطبخ ولديهما موظّف واحد يهتم بخدمة الزبائن. صار الناس، بعد ثلاث سنوات، يقفون في الصفّ بانتظار تناول طبقهم المفضّل. بعد تحسن الأحوال والمردود انتقلا إلى صالة آخرى وسمياه ( Ciudad )  ، وتخصصا في تقديم مآكل أميركا اللاتينيّة، كان افتتاح المطعم ظاهرة ثقافيّة، تناولته صفحات المجلات التي تهتم بالطبخ، وألقت الضوء على هاتين الفتاتين اللتين تفيضان بالحيوية  والشغف في العمل. وبدأت الصحف تهتم بهاتين الفتاتين الطموحتين، نجاح مطعمها في لوس انجلس كان باهراً  ممّا اثار أيضاً اهتمام المحطة التلفزيونية " فوود نتوورك Food Network"  التي تهتم بالمأكل، فعرضت عليهما المحطّة تقديم برنامج باسم  "توهوت تومات Too Hot Tamales"، ونال شهرة مستطيرة، وتدفقت عليهما العروض من دور النشر، لتأليف كتب عن فنّ الطبخ، وصارتا بعد البدايات البسيطة في تقشير البصل وغسل القنبيط أهم مرجعين في المطبخ اميركا اللاتينيّة.

عَزَت ماري سوي ميليكان نجاحهما ( هي وصديقتها) كفريق عمل إلى عدّة عوامل تتكامل، لفتني من هذه العوامل عامل طريف الظاهر، وهو قولها: " سوزان تحبّ الفوضى وضجيج الخدم، والعمل الصاخب بينما أنا كنت أحبّ الدقّة والتخطيط".  تحالفت الفوضى الخلاّقة  مع التخطيط البنّاء فأثمرا نجاحاً طيّب المذاق وشهيّ النكهات مقرونا بشقف لا يزال حارّا كما شغف البدايات.  

بلال عبد الهادي  

العلاقات التاريخية القديمة بين الصين والعرب:


العلاقات الصينية العربية علاقات تاريخية قديمة وعريقة ، تعود إلى ما قبل الميلاد ، سجلت الكتب الصينية الملكية القديمة عن الاتصالات الصينية العربية القديمة في التاريخ، منها رحلات استكشافية قام بها كبار الشخصيات الصينية إلى البلاد العربية ، أهمها على حسب السجلات الصينية الرسمية:
رحلة تشانغ تشيان ( Zhang Qian توفي في 114 ق.م) ، كان موظفا كبيرا في البلاط، أرسله إمبراطور الصين هام وو دي (han Wu Di 156ق.م – 87ق.م) من أسرة هان الحاكمة (Han Dynasty 206ق.م – 220 م) إلى بلدان الجهات الغربية المتاخمة للصين ؛ للتحالف مع القبائل هناك ضد غزو قبائل المغول ، قام تشانغ تشيمان برحلتين : كانت الرحلة الأولى في سنة 139 ق.م ، ووصل إلى بلدان آسيا الوسطى وأفغانستان . والرحلة الثانية سنة 119 ق.م ، وكانت الرحلة تضم عدة فرق وصلت إلى غرب آسيا وما بين النهرين وبلاد الشام حتى وصلت فرقة منها إلى بلاد الروم ، ويقصد بها مدينة الإسكندرية التي كانت تحت الحكم الروماني([1]).
كانت هذه الرحلات فاتحة الطريق التجاري بين الصين وغرب آسيا ، ومنها إلى قارة أوروبا ، وبخاصة بعد إدخال الجمل إلى الصين منذ القرن الثالث قبل الميلاد ، فساعد كثيرا على النشاطات التجارية العابرة لمنطقة الصحارى في آسيا الوسطى .
وكانت صادرات الصين الرئيسية الحرير والمنسوجات والحديد وأواني الصين ، وصادرات الفرس والعرب الرئيسية إلى الصين العطور والبخور والأحجار الكريمة والعقاقير الطبية والفواكه والمكسرات ؛ لذلك سمي بطريق الحرير البري أو طريق العطور البري ، وكان يرافق هذه النشاطات التجارية التبادل الثقافي والفني ؛ إذ دخلت فنون الطرب وأدوات العزف والرسم والموسيقا إلى الصين من بلاد الفرس والعرب عبر طريق الحرير البري ، ودخلت الديانة البوذية إلى الصين من الهند عن طريق آسيا الوسطى.
ثم مرت أوقات من غزوات قبائل المغول والتتار على الطريق التجاري الذي كان يفتح تـــارة ، ويغلــق تارة أخرى ، حتى استقر الأمن في عهد بان تساو ( Ban Chao 32 – 102 بعد الميلاد) حاكم منطقة الحدود الصينية الغربية حينذاك ، والذي أرسل أحد كبار ضباطه اسمه قان ينغ (Gan Ying) إلى بلاد الفرس والعرب والروم ، فوصل إلى بلاد الفرس والعرب دون بلاد الروم ، وكان ذلك في سنة 97 بعد الميلاد([2]) .
نجد بعد ذلك أخبارا كثيرة عن البلاد العربية في الكتب الصينية القديمة ، جاء في كتاب "سجلات التاريخ" (Shi Ji) جزء بلدان غربي الصين ما مفاده أن "بلاد العرب تقع غرب بلاد الفرس بآلاف الكيلومترات ، تحيطها البحار ، هي بلاد الرطوبة والحرارة وحقول زراعة الأرز ، بها طير كبير الحجم ، بيضه في حجم إناء الماء ، معمورة بالسكان والإمارات الصغيرة تحت حماية الفرس" . ونجد نفس الوصف والمعنى في كتاب "أسرة هان المتقدمة" ( Qian Han Shu) جزء بلدان غربي الصين([3]).
كان اسم بلاد العرب في كتب أسرة هان (206 قبل الميلاد – 220 بعد الميلاد) تياو شي (Tiao Zi) ، وفي كتب أسرة تانغ (618 – 908م) دا شي (Da Zi) ، يغلب على الظن أنه صوت محرف من اللفظ الفارسي طازي (Ta Zi) ، ربما كان اسم قبيلة عربية قيل إنها قبيلة بني طائي ، على سبيل إطلاق تسمية التخصيص على التعميم ، ثم صار الاسم في عهد أسرة يوان المغولية (1279 – 1368م) هوي هوي للمسلمين وهوي هوي قو لبلاد المسلمين (بلاد الفرس والعرب) وهوي جيا للدين الإسلامي .
نجد في الكتب العربية العلمية الأخبار المماثلة للاتصالات العربية الصينية عبر الطريق التجاري : " كانت تدمر (بالميرا) في أوج عزها في مدة ما بين 130 – 270 الميلادية والكتابات التي اكتشفت في تدمر ترجع إلى هذا التاريخ ، وإن التجارة الدولية في تدمر كانت تتوسع حتى وصلت إلى الصين "([4]).
روي عن الرسول e أنه قال : " اطلبوا العلم ولو في الصين " ، ومع أنه ليس لدينا شاهد يدل على أن هذا الكلام قد جاء على لسان الرسول e فليس من المستبعد أنه قد عرف اسم هذه البلاد ؛ لأن الصلات التجارية بين بلاد العرب والصين كانت قد توطدت قبل مولده بزمن طويل ، فكانت حاصلات الشرق التي تتلقاها بلاد الشام وموانئ البحر الأبيض تمر بنسبة هائلة عن طريق البلاد العربية ، وفي القرن السادس الميلادي كانت بين الصين وبلاد العرب تجارة هامة عن طريق سيلان ، وفي بداية القرن السابع كانت التجارة بين الصين وبلاد فارس وبلاد العرب هي السوق الرئيسية للتجار الصينيين([5]) .
اتصالات مسلمي الصين بالجزيرة العربية بعد ظهور الإسلام ودخوله إلى الصين :
جاء في " كتاب أسرة تانغ القديم (Ju Tang Shu) الجزء الرابع ما مفاده أنه "في السنة الثانية ، الشهر الثامن ، اليوم الخامس والعشرين من حكم الإمبراطـــور قاو زونغ (Gao Zhong 650 – 684م على العرش) بدات دا شي ترسل سفيرا لتقديم الهدايا لجلالته)، وهو تاريخ يقابل سنة 651 ميلادية واليوم الثاني من شهر محرم سنة 31 هجرية ، وهو في عهد الخليفة عثمان بن عفان (577 – 656 م) ، وهذا أول تسجيل صيني رسمي للاتصالات الصينية العربية الإسلامية على مستوى السفراء ، وهو يعد أيضاً تاريخ دخول الإسلام إلى الصين في نظر الصينيين ، ثم تتابعت البعثات العربية إلى الصين ، حتى بلغت 39 بعثة ابتداء من سنة 651 م إلى سنة 798 م على حسب السجلات الرسمية([6])، وهو إحصاء غير كامل بطبيعة الحال ، ونجد أن نشاطات التجار العرب والرحالة المسلمين كانت ترافق هذه البعثات ، ولكننا لم نجد النشاطات نفسها من البعثات الرسمية إلى الصين في السجلات العربية والرسمية أو الكتب العربية الإسلامية القديمة ، فيغلب على الظن أن كثيرا من هذه البعثات كانوا سفراء شعبيين من التجار العرب يقدمون الهدايا إلى أباطرة الصين باسم الخلفاء العرب ، ويسجلون ذلك في الكتابات الصينية الرسمية ، وكان أباطرة الصين يردونهم بهدايا أكثر وأثمن ، إلى جانب الضيافة الكريمة والحفاوة البالغة .
حدث التصادم العسكري الكبير بين الصين والعرب سنة 751 ميلادية في إقليم تالاس الواقع بين طشقند وبحيرة بلكاش وإقليم آلما أتا في آسيا الوسطى (جمبول في كازاخستان حالياً).
جاء في كتاب " أسرة تانغ الجديد " (Xin Tang Shu) الجزء الخامس " سيرة الإمبراطور شوان زوينغ (Xuan Zong 712 – 756 م على العرش) " ما مفاده أنه " في يوليو سنة 751 ميلادية تقاتل جيش القائد الصيني قاو شيان تشي (Gao Xian Zhi ) توفي سنة 755 ميلادية وجيش العرب في تالاس ، وهزم جيش القائد قاو" . وجاء في كتاب أسرة تانغ الجديد الجزء 135 " سيرة القائد قاو شيان تشي ما مفاده أن " القائد قاو شيان تشي ضرب فتنة إحدى إمارات إقليم طشقند ، وأسر أميره ، وقتله ، فالتجأ ابنه الهارب إلى قائد جيش العربي([7]) وزعماء الإمارات الأخرى ، وتقاتل الجيشان الصيني والعربي في إقليم تالاس ، وهزم الجيش الصيني بسبب خيانة القبائل الموالية ، وأخذ الأمير الابن ثأر أبيه ، وعاد على العرش " ، وكان عدد كبير من جنود الصين أسروا في المعركة ، وتتضارب الأخبار في إحصائه قيل: إنه بلغ عشرين ألفا ، والقول الآخر هو خمسون ألفا ، وذكر ابن الأثير هو مائة ألف . تعد معركة تالاس تصادما عسكريا وحيدا في العلاقات الصينية العربية عبر التاريخ .
كان أثر التصادم العسكري الصيني العربي في المجال الثقافي كبيرا ؛ إذ انتقلت أولا صناعة الورق بعد المعركة من الصين إلى آسيا الوسطى ، ثم منها إلى ما بين النهرين ، ثم إلى قارة أوروبا . ثانيا : ظهرت لأول مرة كتابة صينية تتحدث بالتفاصيل عن الدين الإسلامي وحياة المسلمين في البلاد العربية . كان بين الأسرى مثقف صيني كبير اسمه دو هوا (Du Huan) ، ومكث في البلاد العربية 12 سنة إثر المعركة ، تجول خلالها في أقاليم آسيا الوسطى والعراق والجزيرة العربية ، وعاد إلى الصين في سنة 763م عن طريق البحر من الخليج العربي إلى مدينة كانتون في جنوب الصين ، ودوَّن بعد العودة مشاهداته وانطباعاته في كتاب " مشاهدات في الرحلات " (Jing Xing Ji) ، ووصف بكل دقة وصدق الدين الإسلامي وحياة المسلمين وعبادتهم لله وحده والصلوات الخمس يوميا وصلاة الجمعة وخطبة الإمام وتحريم الخمور ولحم الخنزير وأنواع العقوبات على المجرمين ، وهو أول كتاب صيني يتحدث عن الإسلام والمسلمين ، وصار مصدرا مهما لدراسات تاريخ الإسلام في الصين .
من المؤكد أن الإسلام دخل الصين عن طريق التجارة لا الغزو العسكري ، ونجد أخباراً كثيرة عن النشاطات التجارية العربية الإسلامية في الكتابات الصينية الرسمية إلى جانب القصص والروايات الشعبية والأخبار الواردة في كتب التاريخ والجغرافيا العربية وكتب الرحلات ، ومن هذه النشاطات نستنتج ما يأتي:
أولاً: كان عدد التجار العرب بالصين كبيراً ، حتى وصل إلى آلاف أو عشرات الآلاف في بعض مدنها.
ثانيا: كانوا يتمتعون بالثراء الواسع حتى عينوا في المناصب الرسمية المرموقة بسبب ثروتهم الضخمة ، ويترتب على ذلك أمران كبيران لم يكونا في حسبان هؤلاء العرب الذين وصلوا إلى الصين للتجارة :
أولهما: نشر الدين الإسلامي في الصين.
والثاني: مزج الثقافة العربية والثقافة الصينية.
كان التجار العرب المسلمون يتجمعون في المدن الكبيرة بالصين ، حتى تكونت الأحياء الإسلامية فيها، وكان لهم نظام إداري خاص بهم بمعرفة حكومة الصين التي كانت تختار من بينهم رجلاً صالحاً لتعينه رئيساً عليهم ، يتولى شؤون الرقابة والقضاء والأمن داخل الحي ، ويساعد الحكومة على جني الضرائب التي كانت تشكل إيراداً كبيرا في خزانة الصين ، وكان التجار المسلمون يبنون مساجد في أحيائهم ، لذلك نجد اليوم أقدم مساجد بنيت في الصين هي المساجد التي بنيت في المدن التجارية الكبيرة .
وكان التجار العرب ينطقون اللغة العربية في البيوت وفي أداء الفرائض الدينية بالمساجد ، ويتكلمون اللغة الصينية في السوق والمجتمع ، وأولادهم يدرسون اللغة العربية وعلوم الدين الإسلامي في البيت أو في المدرسة الصغيرة الملحقة بالمسجد ، ويتعلمون اللغة الصينية وعلومها وثقافتها في المدارس الرسمية ، وأصبحوا هم الأوائل الذين مزجوا الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الصينية التي قوامها المذهب الكونفوشيوسي ، وذلك دون وعي منهم ، وتوسعت هذه الظاهرة توسعاً كبيراً بعد غزو المغول على العالم ، وجلسوا على عرش الصين .
دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وأثرها على حركة التجديد في الصين:
بالرغم من أن الإسلام دخل الصين منذ أكثر من ألف سنة ، وانتشر فيها على أرجاء البلاد ،غير أن مسلمي الصين كانوا يعانون العزلتين الداخلية والخارجية ؛ بمعنى أنهم يعيشون متفرقين في تجمعات متباعدة على أرض الصين الشاسعة دون الاتصالات والتعارف فيما بينهم ، وكذلك كانوا في العزلة التامة عما يجري للإسلام والمسلمين في العالم ، وكانوا ينقلون العقيدة الإسلامية والتعاليم للدين الحنيف عن الطريقة الوراثية من جيل إلى جيل في العائلات الإسلامية الصينية وعن المدارس الصغيرة المتواضعة الملحقة بالمساجد في القرى والميادين ، وكان أئمتها وخطابها ومعلموها ينقلون اللغة العربية والعلوم الدينية الإسلامية عن أساتذتهم ، وأساتذتهم عن أساتذتهم ، وهكذا دواليك، ونتيجة ذلك أن معرفتهم محدودة ، ودخلت عليها التأثيرات الفكرية المتعددة ، وبخاصة الصوفية الإسلامية والصوفية الطاوية الصينية وبعض الفكر الكونفوشيوسي ، وكان يسهل على الإمام أن يستقل بمسلمي منطقته عن المناطق الأخرى فكريا ودينيا دون أن يحسوا بذلك ، ويتبعون تعاليم الإمام في كل صغيرة وكبيرة اعتقاداً منهم أن ذلك دين الله وسنة الرسول ، حتى جاء الإمام الحاج نوح ما وان فو (Ma Wan Fu 1848 – 1934م) يدعو إلى التجديد والإصلاح لشؤون الإسلام والمسلمين بالصين.
نشأ الحاج نوح ما وان فو في الأسرة الإسلامية الصينية التقليدية المتمسكة بعقيدة الدين الإسلامي في مقاطعة قانسو بشمال غربي الصين ، وتعلم مبادئ اللغة العربية والعلوم الدينية الإسلامية منذ طفولته من والده وجده اللذين كانا من أئمة المساجد في القرية ، ثم واصل الدراسات الدينية حتى تخرج من المدرسة الدينية الإسلامية ، وعُيِّن إماماً بمسجد القرية عام 1875م ، وهو في السادس والعشرين من عمره ، ولقي الإمام الشاب الجدير ترحيبا وثناء عاطرا من أهل القرية المسلمين ، سافر مت وان فو عام 1888 م مع الإمام واليجي والأستاذ ما هوى شان إلى مكة المكرمة للحج ، ومكث بها 4 سنوات للدراسة والتحصيل ، ولحق بمدرسة هرشيب (صوت) في مكة المكرمة، وكان يديرها الإمام هليب أبو قل (صوت ) من دعاة الموحدين بالجزيرة العربية حينذاك ، وتعلم تفسير القرآن والحديث والفقه على يد الأساتذة من دعاة الموحدين ، أمثال الأستاذ عثمان والأستاذ سليم ، واستفاد منهم كثيرا ، وظهرت عنده رغبة في الإصلاح والتجديد للفكر الإسلامي وشؤون المسلمين بالصين ، وعاد إلى الصين عام 1892م عن طريق البحر ، ونقل فكرة دعوة الموحدين عند الإمام محمد بن عبد الوهاب من الجزيرة العربية إلى الأئمة بمساجد القرى المجاورة في بلده ، وتدارسوا وتباحثوا ورحبوا بفكر محمد بن عبد الوهاب ودعوته ، وأسسوا بمشاركة الأئمة العشرة في المنطقة مثل الحاج قازو والحاج شاندي والحاج نوملا أسسوا جماعة الإخوان ، تدعو إلى نهضة الإسلام بالصين على أساس القرآن والحديث وإصلاح العادات والتقاليد للمسلمين وفقاً لأصول الدين والكتاب والسنة وتخليص الشريعة من البدع والشوائب ، وبخاصة الدعوة الصوفية في تقديس الأولياء ومقابر الراحلين منهم ، وعد زيارة قباب مشايخ الطرق بمثابة الحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة .
ولقيت دعوتهم ترحيبا من عامة المسلمين ، وتعرضت في نفس الوقت لمعارضة شديدة من أصحاب الطرق والبوابات والقباب ، وأدى الخلاف بين المذهب القديم والمذهب الجديد إلى الصدامات واللجوء إلى القوة في بعض الأحيان ، وأحبطت محاولات جماعة الإخوان في بداية الأمر ، وذلك في مدة بين 1895 إلى 1908 م ، وغادر الحاج نوح ما وان فو بلده ، وتجول في مناطق المسلمين بشمال غربي الصين يدعو إلى مذهبـــه الجديد ، حتى استقر الأمر به عام 1918م ؛ إذ رحب به الأخ المسلم ما تشي (MA Qi 1869 – 1931م) القائد العسكري الحاكم لمنطقة تشينهاي ، وأيد دعوته وأقام لد مدرسة لنشر دعوته بين صفوف الطلبة ، وبرز من هؤلاء الطلبة أئمة مشهورون ، مثل الإمام الحاج سعد الدين هو سون شان (Hu Song Shan 1880 – 1995م) ، وكثر مؤيدو دعوة الإخوان في أوساط مسلمي الصين ، وانتشرت الدعوة بسرعة بعد ذلك ، وتوسعت إلى المقاطعات الأخرى ، ولها تأثير فكري قوي عند المسلمين ، ولاسيما المثقفون منهم ، وصارت دعوة الأخوان الصينية الإسلامية أحد المذاهب الإسلامية الكبيرة بالصين ، وأطلق عليها اسم المذهب الجديد عند عامة المسلمين إلى جانب المذهب القديم والمذهب المجدد.
الأصول الفكرية لدعوة الإخوان الإسلامية الصينية جاءت من فكر الإمام محمد بن عبد الوهاب ودعوته بالرجوع إلى الكتاب والسنة وتنقية الإسلام من الانحرافات والشوائب ، وكان الحاج الإمام نوح ما وان فو درس بعمق رسائل الإمام محمد بن عبدالوهاب ، مثل "رسالة التوحيد" ، و " كشف الشبهات" ، و " تفسير الفاتحة" ، وترجم جــزءاً من كتاب "إحياء علوم الدين " للإمام أبي حامد الغزالي (1058 – 1111م) ، وجزءا من تفسير عبد الله القاضي الخرساني المتوفى في سنة 1389م ، وألف كتاب " بخاري زاد " أوضح فيه دعوته الإخوانية الأساسية ، ووضع كذلك الوصايا العشر لتأكيد العبادات والأعمال وتبسيط المراسم والتقاليد وتخفيف تكلفة عامة المسلمين ، منها:
(1) متابعة دقيقة للعبادات والأعمال : الشهادة ، الصلاة ، الصوم ، زكاة المال ، أداء فريضة الحج لمن يستطيع .
(2) غايات تلاوة الآيات القرآنية في المناسبات هي الشهادة والتوحيد والتقوى لله ، وبالتالي لا يحق للقراء أن يقبلوا " الهدايا " مقابل ذلك ، ولا إحراق البخور وإشعال الشمعات أثناء التلاوة.
(3) وجوب رفع إصبع السبابة للشهادة أثناء الصلاة وعدم رفعها عند التوبة.
(4) وجوب القراءة الصامتة بالعربية في الصلاة مع فهم لمعانيها وإجازة قراءتها باللغة الصينية لمن يجهل اللغة العربية.
(5) يجب على المرأة المسلمة الحجاب الكامل ، وعدم مشاركة المناسبات العامة المختلطة .
(6) تحريم تقديس قبة الشيخ للطائفة وعباداتها ، وكذلك مقابر الأولياء الراحلين.
(7) تقتصر الذكرى للميت بالأدعية له في صلاة الجمعة فقط ، وإلغاء المراسم الأخرى، مثل إقامة المأتم في الليلة التي مات فيها الراحل وفي الصباح اليوم الثاني وفي اليوم السابع والأربعين والمائة والسنة ، وعدم إقامة المأدبة لضيوف هذه المناسبات ، ولا يجوز لأقارب الميت لباس القماش الأبيض للحداد عليه ، ولا البكاء بالصياح والعويل على الميت أثناء الجنازة والدفن ، وكان ذلك من تقاليد الصينيين والبوذيين.
(8) عدم ترديد الحاضرين لصوت القارئ أثناء تلاوة الآيات القرآنية ، ويكتفون بالاستماع صامتين هادئين.
(9) يحق للمسلم أن يقرأ التوبة للمسلم المحتضر الذي يردد ما قرأ عليه ، وليس بالضرورة أن يقرأ عليه الإمام من المسجد.
(10) لا يجوز الدوران بالكتاب للتصديق والفدية أثناء الجنازة إسقاطا لذنوب الميت.
إلى جانب الإمام الحاج نوح ما وان فو برز من أئمة الصين المشهورين الذين أيدوا ودعـــوا إلى المذهب الإخواني الجديـــد في الصين الإمام الحاج يعقوب وانغ جينغ تشاي (Wang Jing Zhai 1879 – 1949م) الذي عدَّ نفسه من دعاة المذهب الجديد ، وحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة عام 1923م ، تجول في مصر وتركيا ، وشاهد بنفسه أوضاع الإسلام حينذاك ، وتأثر بدعوة التجديد والإصلاح وفكرة النهضة الإسلامية الحديثة ، وأنشأ في بلده تيان جينغ مدرسة عربية إسلامية ، وأصدر مجلة عربية إسلامية شهرية "نور الإسلام" في سبيل نهضة الإسلام بالصين ونشر الثقافة الإسلامية ودعوة الموحدين بين صفوف مسلمي الصين ، وأسس الجمعية الصينية الإسلامية لمقاومة العدوان الياباني وإنقاذ الوطن عام 1938م ، وأكبر مساهمة قدمها للإسلام والمسلمين بالصين تراجمه الصينية الثلاث لمعاني القرآن الكريم ، وكانت الترجمة الثالثة أفضل وأكمل ؛ إذ ألحق بها الإيضاحات والهوامش والشروح التي بلغت 1943 شرحا يسهل فهم معاني الكتاب على الصينيين المسلمين وغير المسلمين ، وكان له أثر كبير لنشر دعوة المذهب الإخواني الجديد في الصين.
مساهمات المملكة العربية السعودية لقضايا مسلمي الصين
1- الحجاج المسلمون الصينيون إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة :
الجزيرة العربية مهد الإسلام ووطن العرب ، نزل القرآن الكريم على محمد رسول الله النبي العربي باللغة العربية في جزيرة العرب ، والعلاقات بين الإسلام وبين العربية والجزيرة روابط مقدسة ، والحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة فريضة سماوية على كل مسلم استطاع إليه سبيلا ، والحج إلى الأرض المقدسة بالجزيرة العربية أمنية العمر ، وأعز العبادات عند المسلمين الصينيين لبعد المسافات وصعوبات المواصلات . وكثرة متاعب السفر وفداحة النفقات قد تضاعفت كثيرا عن أخيه المسلم في البلاد القريبة ، ونجد من مسلمي الصين من يتقشف ويقتصد اقتصاداً شديدا فيما ينفقه على نفسه وعياله وفي المعيشة ؛ ليدخر نفقات الحج ، وقد يظن الناس أنهم حفاة إذا واجهوهم في الطريق ، ولكنهم يتصدقون في الحجاز ما استطاعوا ، ويشترون من الكتب الدينية ما يقدمونه لمكاتب المعاهد الدينية الإسلامية في بلدانهم وقراهم إذا عادوا إلى الصين.
وكان هؤلاء الحجاج الصينيون يجدون الحماية الكافية والرعاية الكاملة في ظل حكم المملكة العربية السعودية على الجزيرة العربية غير حالاتهم في العهد السابق لذلك ، ذكر المرحوم العلامة الصيني المسلم الأستاذ محمد مكين (1906 – 1978) في كتابه " نظرة جامعة إلى تاريخ الإسلام في الصين وأحوال المسلمين فيها" الصادر في القاهرة عام 1353 للهجرة / عام 1934 للميلاد: " كان لا يوجد في كل وفد من وفود الله (من الصين) إلا شخص أو شخصان يقدران على التفاهم مع الحجازيين مع شيء من الصعوبة ، ولأجل هذا كان المطوفون يغشونهم في التكاليف ، والبقالون يغالون عليهم بالحاجات اللازمة ، ولا مغيث إذا استغاثوا، ولله الحمد لم نسمع هذه الشكاوى بعدما تولى صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز بن سعود حماية البلد الحرام" (صفحة 32 من الكتاب ، المطبعة السلفية ومكتبتها لصاحبها محب الدين الخطيب) .
ذكر المرحـــوم الحاج محمد تواضع بانغ سي تشيا نغ (Pang Shi Qian 1902 – 1958م) في كتابه "ذكريات السنوات التسع في مصر" أنه أثناء دراسته بالأزهر الشريف في القاهرة تلقى التعليمات من الجمعية الإسلامية الصينية يوم 18 فبراير عام 1939م تكلفه برئاسة وفد الطلبة الصينيين الذين كانوا يدرسون بالأزهر للحج إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة ، وكان أمامهم ثلاثة أيام فقط قبل مغادرة آخر باخرة الحجاج من ميناء مصر للتوجه إلى جدة بالمملكة العربية السعودية ، وكان عليهم إتمام الإجراءات الكثيرة اللازمة في هذه المدة القصيرة ، وبخاصة الحصول على الأذن من الجهة السعودية المختصة لإعفاء الرسوم الجمركية في ميناء جدة ، وبهذا الأذن كانوا يستطيعون الحصول على تذاكر الباخرة بنصف قيمتها ، وكان القنصل العام السعودي في القاهرة يتردد في الأمر، فالتجأ الطلبة الصينيون إلى صاحب السمو الأمير فيصل بن عبد العزيز وزير الخارجية السعودي المقيم في القاهرة وقتئذ .
ذكر الإمام الحاج محمد تواضع بانغ سي تشيا نغ في كتابه قائلاً : "ذهبنا في الصباح الباكر إلى الفندق الفاخر بقصر النيل لمقابلة سعادة الوزير الأمير فيصل بن عبد العزيز ، وقدمنا أسماءنا إلى البواب ، وبعد عشر دقائق استدعانا سعادته بالدخول إلى مكتبه ، ودخلنا ونحن 28 طالبا وصافحنا سعادته واحداً تلو الآخر ، وشكرناه كثيرا ، وشرحنا ظروفنا ، وأوضحنا طلباتنا ، قلنا : إن مسلمي الصين يهتمون ، ويقدرون تقديرا كبيرا للمملكة العربية السعودية على ما قدمته للحجاج الصينيين على الأرض المقدسة بالجزيرة العربية أثناء أداء فريضة الحج ، وعاملتهم معامله كريمة . قال سعادته : " إننا نرحب بضيوف الرحمن من الصين إلى بيت الله الحرام على الأرض المقدسة ، ومن واجبنا تقديم الخدمات والتسهيلات لحجاج البيت ". فأمر سعادته سكرتيره بمتابعة الأمر واتخاذ اللازم ؛ لتسهيل سفر الحجاج من الطلبة الصينيين إلى المملكة العربية السعودية" (صفحة 120 – 121 من كتاب " ذكريات السنوات التسع في مصر" مطبعة الجمعية الإسلامية الصينية ، بكين ، الصين ، طبعة عام 1988م).
قال الإمام الحاج محمد تواضع بانغ سي تشيانغ عن انطباعاته أثر المقابلة : "إنما يعجبني عظيم الإعجاب ما أبداه سعادة الوزير السعودي من الكرامة والعز والحزم في الأمر ، وهي الصفات المتميزة عند العرب الكرماء منذ القدم ، وحلت مشكلة كبيرة عند الطلبة الصينيين في بضعة دقائق وسفر الوفد في اليوم الثاني على باخرة زمزم المصرية" (المصدر السابق).
عومل وفد الحجاج الصينيين من الطلبة الأزهريين معاملة ممتازة من حكومة المملكة العربية السعودية والأهالي ، كتب الحاج محمد تواضع الصيني قائلا : " في صباح يوم 4 مارس عام 1939م بعد تناول الفطور نستعد لمقابلة صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز بن سعود من غير أن نحصل على الموعد مسبقا ، ومشينا على شوارع مكة المكرمة في طابور منسق رافعًا راية الصين ، ولما وصلنا قصر الملك أوضحنا طلباتنا عند البواب ، فسمح لنا بالدخول فورا ، وأرشدنا ضابط المراسم إلى الاستراحة ، وذهب الضابط الثاني إلى مكتب الملك لإبلاغ الأمر ، فاستدعانا فورا ، ودخلنا ونحن مجموع 28 طالباً ، وصافحنا جلاله الملك واحداً تلو الآخر ، وأجلسنا على جانبيه ، ونهض مندوبنا الأخ محمد مكين يلقي كلمة التحية تعبيرا عن تحياتنا وأمنياتنا وتشكراتنا لجلالته والشعب بالمملكة ، وعبر الأخ محمد مكين أيضا عن عزيمة الشعب الصيني على مقاومة العدوان الياباني الغاشم على أرض الوطن الصين ، وكان جلالته يستمع إلى الكلمة في هدوء ، واستلم الكلمة المكتوبة بعد إلقائها ، وقبل الهدايا التي أحضرناها من الصين خاصة لجلالته ، وهتفنا بحياة الملك وشعب المملكة ، ودعانا إلى شراب القهوة العربية الأصلية، وتبدو على وجه جلالته علامات الرضا والطمأنينة والثقة بالنفس ، ثم التقطنا صور تذكارية من جلالته الذي صافحنا مرة أخرى مودعا إيانا عند الباب" . (المصدر السابق).
سافر الأستاذ علي لي تشين تشونغ (مقدم البحث) إلى المملكة العربية السعودية عام 1982م مع وفد الحجاج الصينيين من الجمعية الإسلامية الصينية ضيفا على رابطة العالم الإسلامي التي أحاطتنا بالرعاية والعناية الكاملتين منذ وصولنا إلى مطار جدة الدولي إلى مغادرته بعد أداء مراسم الحج كاملة ، ورتبت الرابطة ترتيبا كاملا لنشاطات الوفد من اللقاءات والمقابلات والزيارات ، وذكرتني هذه الضيافة الكريمة والحفاوة البالغة ذكر المرحوم الإمام العلامة محمد تواضع الصيني في كتابه عن انطباعاته أثناء أداء فريضة الحج على الأرض المقدسة عام 1939م ، وقد ازداد عدد الحجاج الصينيين من بضعة مئات في السنوات السابقة إلى عدة آلاف سنويا في السنوات الأخيرة ، ويلقون الاهتمام والرعاية من المملكة العربية السعودية بداية من سفارة المملكة ببكين التي قدمت وتقدم باستمرار تسهيلات كاملة للحجاج من سرعة منحهم تأشيرة الدخول للحج إلى تزويدهم بالمعلومات الكافية عن الحج على الأرض المقدسة ، ويلقون كذلك الاهتمام والرعاية من وزارة الأوقاف والمعيشة والتنقلات والعلاج، ويحمدون الله على ذلك ، ويدعون دائما لخادم الحرمين الشريفين والقائمين على أمر الحجاج بالمملكة ، ولما عادوا إلى الصين كتبوا المقالات في الصحف والمجلات ، وخطبوا في المناسبات والحفلات شاكرين مادحين لما لاقوه وشاهدوه بالمملكة العربية السعودية أثناء أداء فريضة الحج ، وتوطدت الروابط الأخوية والمشاعر الدينية بين مسلمي الصين وإخوانهم في العالم .
2- دعم إنشاء وتجديد المساجد في الصين:
المساجد أهم بناء للإسلام ، ورمز للثقافة الإسلامية ، ومدرسة للتعليم الديني والعلمي، يجتمع فيها المسلمون للعبادة والشورى والتثقيف والتحصيل ، تاريخ مساجد الصين هو تاريخ الإسلام بالصين الذي مر بأوقات الازدهار في تاريخ الصين القديم ، حيث انتشار المسلمين وإنشاء المساجد في البلاد ، قيل : إن أول مسجد بني بالصين كان عصر أسرة تانج (618 – 907م) أي قبل أكثر من ألف سنة ، ومر كذلك بمراحل من الانحطاط والنكسات التي كانت آخرها مرحلة الثورة الثقافية بالصين من 1966 – 1976م ، وتعرضت المساجد بالصين للتخريب والتحطيم ، أو تحولت إلى الأغراض الأخرى ، وبخاصة في القرى والبلديات النائية ، ولما بدأت الصين عهد الإصلاح والانفتاح منذ الثمانينات عادت الحرية العقدية إلى الشعب الصيني ، وقام المسلمون الصينيون بإعادة بناء المساجد ، وأنجزوا عددا كبيرا منها ، وقدمت المملكة العربية السعودية مساهمات كبيرة في هذه المشاريع لإنشاء وتجديد المساجد ، وكان البنك الإسلامي للتنمية ورابطة العالم الإسلامي ممن يتصدر في هذا السبيل ، وتم عدد كبير من المشاريع بدعمها مثل مسجد كبير في إقليم تونغ شين ومسجد كبير في إقليم يانغ تشو.
3- دعم المدارس العربية الإسلامية في الصين :
يجري تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية على ثلاث قنوات في الصين اليوم:
(1) تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية على مستوى التعليم العالي والأكاديمي في 7 جامعات صينية اليوم ، وقد لعبت هذه الجامعات السبع دورا كبيرا في إعداد ما يزيد على 3000 طالب وطالبة وتخريجهم بشهادات الليسانس والماجستير والدكتوراه ، ويعملون في المجالات المختلفة اليوم .
(2) المعاهد العالية الإسلامية التابعة للجمعيات الإسلامية الوطنية أو الإقليمية ، طلابها الشباب المسلمون ، واهتمامها الأكبر هو الدراسات الدينية الإسلامية لتخريج الأئمة والخطباء لمساجد الصين ، وعليهم مسؤولية كبيرة للدعوة الإسلامية في الصين اليوم والمستقبل.
(3) مدارس عربية إسلامية أهلية تديرها الشخصيات أو المؤسسات الإسلامية الصينية، غالبا تكون هذه المدارس في القرية أو الحي بالمدينة حيث يتجمع المسلمون وتقبل أبناء وبنات مسلمي المنظمة لدراسة مبادئ اللغة العربية والدين الإسلامي مع متابعة أداء الفرائض والسنة ، وهي تطور واستمرار لمدارس المساجد السابقة ، أكبر مشكلة تواجهها هذه المدارس هي العجز المادي ونقص المدرسين الأكفاء.
من أجل دعم التعليم العربي والإسلامي بالصين قدمت المملكة العربية السعودية مساهمات كبيرة ، وزودت الأقسام العربية في الجامعات الصينية بالكتب العربية المتعددة التخصصات ، أبرزها "الموسوعات العربية العالمية " التي تم تأليفها وطبعها بالمملكة العربية السعودية ، وهي موسوعات ضخمة تتألف مجموعة منها من 30 مجلدا بالحجم الكبير ، وقدمت دعما كبيرا لإنجاز مشاريع المنشآت المعمارية للمعاهد الدينية الإسلامية، مثال ذلك المعهد الديني الإسلامي لمدينة بكين ، والمعهد الديني الإسلامي لمقاطعة نينغشيا (في مدينة ينتشوان) ، والمعهد الديني الإسلامي لمدينة كونمينغ (حاضرة مقاطعة يوننان) ، والمعهد الديني الإسلامي لمدينة تشنغتشو (حاضرة مقاطعة خينان).
وبالنسبة للمدارس العربية الإسلامية الأهلية فكانت المملكة توليها الاهتمام الكبير أيضا ، وزودتها بالكتب والأجهزة إلى جانب الدعم المادي لإنجاز مشاريع منشآتها وإرسال المدرسين الأكفاء إليها ، وأدت الجامعات في المملكة العربية السعودية دورا كبيرا في هذا المجال ، ومن هذه المدارس معهد نور المؤمنين للغة العربية والثقافة الإسلامية بمدينة تشنغتشو (جنغ جو) مقاطعة خينان ، وقد تأسس عام 1987م ، يدرس فيه حاليا ما يزيد على 230 طالبا وطالبة من أبناء المسلمين في عشرة فصول (5 للبنين ، و 5 للبنات) ، ومدة الدراسة 3 سنوات ، ونظم المعهد الدورات التدريبية لتعليم اللغة العربية والثقافة الإسلامية عام 1997م/ 1418هـ بمشاركة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من المملكة العربية السعودية .
ومنهــــا أيضا مدرسة اللغـــــة العربية والثقافة الإسلامية في قرية جي دونغ ديان (Ge Dong Dian) مركز وو تشي (Wu Zhi) مقاطعة خينان (Henan) ، وقد تأسست عام 1992م ، ويدرس فيها حاليا ما يقرب من 220 طالب وطالبة في ثمانية فصول من حملة شهادات الثانوية العامة أو الإعدادية ، ومدة الدراسة ثلاث سنوات .
ومدرسة إسلامية بمدينة تشانغ تشي (Chang Zhi) مقاطعة شانشي (Shanxi) ، تأسست عام 1983م ، ويدرس فيها حاليا 90 طالباً وطالبة من أبناء المسلمين في ثلاثة فصول . والمدرسة الفنية المهنية الثانوية لأبناء المسلمين بمدينة تيان جين (Tian Jin) التي يدرس فيها أكثر من ثمانمائة طالب وطالبة في التخصصات المختلفة ، وقامت هذه المدرسة الفنية بفضل الدعم الكبير من المملكة العربية السعودية أيضاً.
4- المنح الدراسية للطلبة الصينيين المسلمين :
قدمت المملكة العربية السعودية المنح الدراسية للطلبة الصينيين المسلمين ؛ ليدرسوا في جامعاتها في مكة المكرمة والمدينة المنورة والرياض العاصمة لمواصلة دراساتهم العالية في اللغة العربية والثقافة الإسلامية وعلوم الدين الإسلامي ، بلغت عدة مئات من المنح الدراسية منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين والمملكة ، ويزداد هذا العدد بسرعة في السنوات الأخيرة ، ووجد هؤلاء الطلبة الصينيون الضيافة الكريمة والمعاملات الممتازة من حكومة المملكة وشعبها ، وقدمت لهم الخدمات والتسهيلات في الإقامة والمعيشة والدراسة ، وعاد بعضهم بعد إنجاز شهاداتهم العلمية بالمملكة إلى الصين ؛ ليعملوا في المعاهد العلمية الإسلامية أو المؤسسات الإسلامية التجارية أو الأئمة والخطباء في المساجد الصينية ، فهم النواة النشيطة للدعوة الإسلامية بالصين والقوة المحركة لقضايا المسلمين فيها.
5- ترجمة صينية لمعاني القرآن الكريم وطباعته وتوزيعه:
دخل الإسلام إلى الصين منذ أوقات طويلة ، وترجمت معاني القرآن الكريم إلى الصينية عدة مرات ، ولكن كان توزيعها قليلا ومحدودا ، ولمست المملكة العربية السعودية حاجة المسلمين في الصين إلى القرآن الكريم ومعانيه الجليلة باللغة الصينية ، وذلك من خلال الزيارات التي قام بها وفد رابطة العالم الإسلامي إلى الصين عام 1401هـ ، ومن الاتصالات الشخصية مع وفود الحجاج الصينيين القادمين منذ عام 1399هـ ؛ إذ نبه الجميع إلى مسيس حاجة الأفراد والمؤسسات الإسلامية بالصين إلى معاني القرآن الكريم والسنة النبوية باللغة الصينية ، وقام مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة بطباعة القرآن الكريم مع ترجمة معانيه إلى اللغة الصينية التي ترجمها فضيلة الشيخ محمد مكين ، وأقرتها الجمعية الإسلامية الصينية في بكين ، ووافقت عليها رابطة العالم الإسلامي هدية من خادم الحرمين الشريفين وناشر كتاب الله المجيد الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود إلى المسلمين في الصين ، ذلك عام 1407هـ ؛ رجاء أن يستلهم منه المسلمون الصينيون نور الهدى والصلاح بما يقوي إيمانهم بالله عز وجل ، ويثبت إسلامهم ، ويصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة ، وفرح المسلمون الصينيون كثيرا بهذه المساهمات الإسلامية الكبيرة من خادم الحرمين الشريفين في العناية بكتاب الله الكريم توثيقا وطباعة ، والعمل على تيسير نشره وانتشاره بين أيدي المسلمين ، وتفسيره باللغات الأجنبية ، وتوزيعه هدية إلى المسلمين في إرجاء العالم ، وتجد اليوم في معظم بيوت المسلمين الصينيين نسخة أو أكثر من المصحف الشريف ترجمة صينية لمعانيه حصلوا عليها هدية من المملكة العربية السعودية يقرؤونه ، ويستلهمون منه نور الهدى لحياتهم في الدنيا والآخرة.
6- ضيافة العلماء المسلمين الصينيين والتبادل العلمي والفكري :
العصر الحديث عصر تلاحم الحضارات والأفكار، والإسلام مثال الحضارات الإنسانية السامية، واهتمت المملكة العربية السعودية منذ يوم تأسيسها بنشر الثقافة وترقيتها ، وكانت إقامة المهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية دليلا على ذلك ، إلى جانب ما تنظمه المملكة من المؤتمرات الإسلامية العالمية والندوات الثقافية واللقاءات العلمية ، وتبذل الجهات المختصة بالمملكة العربية السعودية جهداً بدعوة العلماء الصينيين المسلمين وغير المسلمين من ذوي التخصصات المتعددة لحضور هذه اللقاءات العالمية بالمملكة ، وهذا يتيح الفرصة لمسلمي الصين لعرض قضاياهم والوقوف على آخر تطورات العالم الإسلامي ومسلمي العالم ، ويوطد الأواصر الأخوية بين المسلمين في الصين والعالم ، ويزيد التبادل العلمي والفكري فيما بينهم .
الخاتمة:
شهدت علاقـــات الصداقة الصينية العربية السعودية تقدما سريعاً في السنوات الأخيرة ســــواء في المجال السياسي والاقتصادي والثقـــافي أو في شؤون الإسلام والمسلمـــين ، ويعود الفضل الأول في ذلك إلى الاهتمام المشترك عند القيادات في الدولتين ، ولكن مما هو جدير بالذكر أن شخصية سعادة السفير يوسف محمد المدني سفير المملكة العربية السعودية لدى الصين أدت دورا كبيرا في ذلك أيضا ؛ إذ تتصف بالكرم والإخلاص والأدب والمودة والتسامح والتواضع ، إلى جانب الإحساس الشديد بالمسؤولية والاهتمام البالغ بشؤون الإسلام والمسلمين في الصين ، وكسبت التقدير والإعجاب والمحبــــة من الشعب الصيني والمسلمين الصينيين ، ونتمنى أن تزداد هذه المحبة والمودة المتبادلة بين الشعب الصيني والشعب العربي السعودي مع مرور الأيام في المستقبل .
(1)
الهوامـــش




" موجز تاريخ الصــــين " 2/85-86 ، تأليف الأستاذ فان وين لان (Fan Wen Lan) ، دار نشر الشعب ، بكين ، عام 1965م .
([2]) المصدر السابق ، ص 191.
([3]) "موجز تاريخ العرب" ص 257 ، تأليف الأستاذ قو ينغ دي (Gou Ying De) ، دار نشر العلوم الاجتماعية الصينية، بكين ، عام 1991م .
([4]) "تاريخ العرب " طبعة صينية ، 1/86 ، تأليف فليب حتي (Philip K. Hitti) ، ترجمة الأستاذ محمد مكين ، دار نشر الشؤون التجارية ، بكين ، 1979م .
([5]) "تاريخ الإسلام" 1/328 ، تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن ، مكتبة النهضة المصرية عام 1953م .
([6]) "الإسلام والحضارة الصينية" ص 52 ، تأليف محمد يانغ هواي جونغ وعلي يوي تشن قوي، دار نشر شعب نينغشيا عام 1995م .
([7]) على حسب ما ذكره ابن الأثير في كتاب "الكامل في التاريخ" كان القائد العربي هو أبو مسلم الخراساني المتوفى سنة 755م .