الأحد، 31 مايو 2015

الإبرة والشاعر الصيني لي باي


في حياة كثير من الناس لحظات أو كلمات أو مشاهد تقلب مسار حياتهم رأساً على عقب، وتعيد صياغة مصائرهم من جديد. وعلماء النفس الذين يعملون على فتح ملفات الذكريات يكتشفون دور تلك اللحظات في حياة الناس، لحظات منها المعتم ومنها المضيء. كنت في وقت مضى قد كتبت عن دور "البطيخة" في طفولة المتنبي وأثرها على تكوين رغباته وتطلعاته. وقصة بطيخة المتنبي وردت في كتاب" الصبح المنبي عن حيثية المتنبي" ليوسف البديعيّ. وتلفت نظري تلك اللحظات الخاطفة في حياة الناس التي قد تمر مر الكرام ولا ينتبه لها الإنسان، ولعلّ من فضيلة الذكريات أنها عشوائية. الإنسان لا يقرر ماذا يتذكر وماذا ينسى إلا في حالات خاصة، ولأنها بأغلبها عشوائية فهي عينة صالحة لاستنطاق المخبوء.

وقعت تحت نظري حكاية وردت في ذكريات الشاعر الصينيّ القديم " لي باي 李白Li bai " وهو اسم أعرف أنّه لا يعني للقارىء العربيّ العاديّ شيئاً، بل إنه لا يعني، فيما أتصور، حتى لقارىء الشعر وعاشقه شيئاً، فهو كائن غير موجود في الذاكرة العربية، وإن كان موجوداً في الذاكرة الغربية والصينية بالتأكيد. مؤلفاته الشعرية مترجمة منذ عهد بعيد إلى الفرنسية والإنكليزية وغيرهما من لغات العالم الأوّل. يعادل حضور" لي باي" في الصين حضور  فيكتور هيجو في فرنسا أو شكسبير في بريطانيا أو غوته في ألمانيا، أو المتنبي الصاخب مالىء الدنيا وشاغل الناس، وعليه هذا اللاشيء في ثقافتنا أو ذاكرتنا لا يقلّ حضوراً واعتباراً في الصين عن  كبار الشعراء في العالم.

كان " لي باي" في صغره لا يحبّ المدرسة كأغلب الأطفال الذين لا يرون في أحيان كثيرة كبير فرق بين السجن والمدرسة، وكان ينتهز الفرصة كلما سنحت للهروب ورمي هموم الدرس وراء ظهره وتحويل الشارع مع حفنة من الفارّين أمثاله إلى مسرح للهو واللعب. شاهد، في إحدى المرات، امرأة مسنّة قاعدة على طرف رصيف وفي يدها الأولى قضيب من الحديد وفي يدها الأخرى حجر تستعمله كمبرد أو مسنّ لشحذ قضيب الحديد. استغرب " لي باي" سلوك هذه المرأة التي تتعامل مع قضيب الحديد بهذه الطريقة، دفعه فضوله الطفوليّ للتقدم مع الأولاد من هذه العجوز والاستفسار عن سلوكها الغريب. رمقت العجوز الأطفال بجدية وقالت: " أريد أن أعمل إبرة أخيط بها ثيابي". تبادل الأولاد النظرات فيما بينهم وهم يسمعون هذا الجواب الذي لم يخرق عقولهم اللينة وراحوا يضحكون بملء أفواههم من هذه العجوز التي تبدو من سلوكها بواكير الخرف. ثمّ حاولوا نصحها بالكفّ عن هذا العمل الذي يقتل الوقت ولن يثمر إلاّ الخيبة، قالوا لها:" انه من المستحيل تحويل هذا القضيب إلى إبرة، إن عملك قبض ريح". رمقت العجوز الأولاد ثم أردفت:" ولم لا؟ أين الصعوبة أو الاستحالة؟ كل يوم أحفّ منه قليلاً، وفي كل يوم ينحل القضيب ومع الوقت لا بدّ  من أن يصير إبرة، لا أرى مصيراً آخر  ينتظر هذا القضيب، ولكن الكسالى أمثالكم لا يمكن أن يستوعبوا قولي أو يتقبلوه". صدمهم كلام المرأة العجوز وفضح هروبهم من مقاعد الدرس. لم ينبسوا ببنت شفة تبادلوا النظرات الخرساء ثم أسرعوا باتجاه المدرسة. كان " لي باي" واحداً من هؤلاء الأولاد. غيّرت كلمات العجوز ومشهد قضيب الحديد في يدها مساره وجعلت منه الشاعر الأكثر حضوراً في "مملكة الوسط"، كما أنتج هذا المشهد مثلاً سائراً وهو لا يزال يسير في الكتب التعليمية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، ويقول المثل: " العمل الدؤوب يجعل قضيب الحديد إبرة "، وهو مثل قادر على أن يغري المرء بمقاومة الإحباط السليط الحضور والمتسلط على مقادير واقعنا العربي الكابي.

ويبدو أنّ الإبرة لها حكايات كثيرة ولا أقصد حكايات التداوي عبر الوخز بالإبر الصينية ، فلقد قرأت لناقد أدبي صيني اسمه " لين يو تانغ "  عبارة يقول فيها:" إن النقد يتطلب ما قامت به تلك العجوز لأنّ حدة القلم تزداد بالمراس والتجربة تماماً كمخرز الإسكافي الذي يتحول بصورة متدرجة إلى إبرة للتطريز".

 وللشاعر الصيني " لي باي" قصيدة قصيرة بعنوان " تأملات ليلية" كتبها في غربته أختم بها هذا المقال لعلّها تعبر عن طريقته في رؤية الأشياء:تأملات ليلية

ألقى القمر، أمام سريري،  أشعته الفضية

لوهلة ظننت أنّ جليداً أبيض يلمع في الأرض

رفعت رأسي وتأملت القمر المشعّ

ثم خفضت رأسي ورحت أفكر في دياري.

السبت، 30 مايو 2015

قاطعوا «كرة القدم» بقلم سوسن الأبطح


جوزيف بلاتر ليس الفاسد الوحيد في «فيفا»، وإلا لما أعيد انتخابه لمرة خامسة. تمكن الرجل خلال 17 عامًا على رأس الاتحاد من تشكيل شبكة محكمة من العلاقات، ومد جسور مصالح، تجعل وجوده حاجة عضوية لاستمرارها. كل المنتفعين صوتوا لبلاتر، كل أولئك الذين غمرهم الرجل بأفضاله طوال 40 عامًا من وجوده في الاتحاد وتسلقه لمناصبه، ما كان لهم أن يتخلوا عنه لحظة الحقيقة. شبكة المليارات الهدّارة لعبت دورها، في الحفاظ على رأس الرئيس الأخطبوط.
وثوق الرجل من نجاحه، رغم كل الارتجاجات والانقلابات التي أحاطته قبل 48 ساعة من الانتخابات، دليل على متانة ارتباطاته. أميركا بمعونة «إف بي آي» وجهازها القضائي ومعها سويسرا، وبريطانيا بأدواتها الإعلامية الضخمة، والاتحاد الأوروبي بأسره، لم يتمكنوا من إزاحة بلاتر. بمقدور كاميرون أن يقول إن «بلاتر سيرحل عاجلاً وليس آجلاً»، وأن تضم أنجيلا ميركل صوتها إلى صوته، وأن يقف رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بلاتيني بكل مجده وتاريخه وما يمثله من ثقل في وجه العاصفة، وأن تهدد بريطانيا وغيرها بالانسحاب من كأس العالم عام 2018، دون أن يعني ذلك أي شيء عملي على الأرض. فوز رجل تغلف اسمه بقضايا الفساد منذ عام 2010، ولا يزال الأقوى والأشرس، لا يعني أن المناوئين له هم رمز للنقاء والطهر والعفاف.
إنها معركة في العظم، على النفوذ والسلطة، وحرب كونية على أكبر منظمة رياضية، جعل منها بلاتر، بفضل سطوته، أكبر من دولة وأكثر نفوذًا.
من لعبة شعبية تفتح أبواب الأمل والرجاء للفقراء والبؤساء، تحولت كرة القدم إلى ساحة للتجاذبات المالية والسياسية، وملعب لنفوذ الفاسدين والمنتفعين. أوصل بلاتر ومجموعته، عشاق الكرة، إلى شحاذين على أبواب الشركات الاحتكارية التي تعاقدوا معها لنقل مباريات كأس العالم. دخل سوس الرشى والصفقات في التصويت والدعايات وتنظيم البطولات، وفاحت روائح المليارات.
الرجل الآتي من كلية الاقتصاد والإدارة التجارية في جامعة لوزان، وبدأ مجرد مدير لبرامج التطوير في «فيفا»، أدرك أهمية وجود 250 مليون لاعب لكرة القدم حول العالم، ومئات الملايين الآخرين من المشجعين والمتيمين. استغلال هذه الكتلة البشرية الهائلة أمر يكاد يكون عاديا، حين يتعطل تداول السلطة، وتصبح إعادة انتخاب رئيس الاتحاد الأغنى، وما يستتبعه من بقاء الأعوان والمساعدين تقليدًا لا يثير حفيظة أحد.
بشّر سيد «فيفا» بأخبار أكثر سوءًا من إلقاء القبض على ثلة من المحيطين به خلال السنوات الأربع المقبلة، ومع ذلك انتخب، قال إنه ليس بمقدور شخص أيًا كان، ولا حتى لجان الأخلاقيات في الاتحاد، مراقبة كل الناس، مع أنه مسؤول، ولو معنويًا، عن كل السلوكيات المعيبة التي تمارس حوله، ورغم ذلك انتخب. شارف رجل الرياضة الأول في العالم على الثمانين من عمره، في زمن الترويج للشباب والحيوية وأهمية الديناميكية، ورغم أنف المحتجين وحيلهم البوليسية أعيد انتخابه بكل عنفوان وتحدٍّ.
متعة مراقبة ما يحدث في «فيفا» تتجاوز التعرف عن قرب على اتحاد رياضي بحجم المعمورة، لتصبح وسيلة لفهم المنحدر الذي وصلت إليه البشرية وهي تدعي بلوغ مجدها. من خلال «فيفا» أصيبت في مقتل مقولة فرنسيس فوكوياما الشهيرة حول «نهاية التاريخ» وعظمة الديمقراطية والليبرالية اللتين لا حلّ آخر أرقى للإنسانية بعدهما. على فوكوياما أن يبادر إلى الاعتذار، ويبحث عن مخرج لما وصلت إليه الليبرالية وديمقراطيتها من طغيان وتجبّر.
كتب الصحافي في «رويترز» جاك شيفير منذ عدة سنوات يقول: «كي تربح انتخابات ما لا يكفي أن تكون كذابًا، بل يجب أيضا أن تتحلى بالمرح على مستوى عالٍ». أكثر من ذلك، فإن «الجمهور لا ينتخب إلا من يجيد ممارسة الكذب، فإن قول الحقيقة لا يوصل إلى ربح، لأن الواقع ببشاعته لا يمكن أن يكون مقبولاً من الغالبية».
أدرك المتنفذون، بعد أن أصبحت الديمقراطية وصفة سياسية لكل داء، لا تقبل النقاش أو النقد، كيف يلعبون على حبالها، وما هي السبل الأنجع للتحايل على تقنياتها. لم يعد الهدف ضرب الديمقراطية واستبدالها، بل الإفادة منها وممارسة الديكتاتورية من داخلها، وبمنتهى الاحترام لقوانينها.
لا يبدو أن بلاتر خائف من الآتي، ربما أنه لا يصدق أن أعداءه تكاثروا وتناموا، وأن المقبل لن يكون مثيلاً لما سبق. ثمة مرحلة جديدة بدأت، ومعارك قضائية فتحت، وتحقيقات تتوالى، ودول عظمى تتربص، وأخرى ستدافع عنه بشراسة المستميت. على هذا يراهن إمبراطور الـ«فيفا»، فالحرب ليست بين «الخير» و«الشر» بل بين الأشرار الذين يتناهشون السلطات والمغانم حيثما وجدت.
وبلاتر نفسه ليس سوى حلقة في سلسلة متماسكة ومترابطة، يمكن استبداله إذا ما استدعت الحاجة. لكن يبدو أن صلاحية الانتفاع من خدمات بلاتر وحنكته لم تنتهِ، وإلى حينه، سيبقى عشاق كرة القدم يتسمرون أمام الشاشات، وإن استمر في منصبه إلى مونديال 2018 سيدفعون صاغرين ما يتوجب عليهم من ضرائب لـ«فيفا» وشركاتها الاحتكارية. لن يغير بلاتر وشركاؤه من ممارساتهم شيئًا، ولا يملك المتفرجون شرف الاحتجاج، لأن الرغبة في الاستسلام اللذيذ أقوى وأعتى من إرادة المواجهة الموجعة، وعلى هذا يراهن، دومًا، المتسلطون.