الأحد، 19 فبراير 2017

العطّار وعِقْد اللؤلؤ




كثيراً ما يقع الإنسان فريسة الأشكال التي تقول خلاف ما تقوله النوايا، وذلك من خلال تصديق منطوقها المراوغ. وثمّة قول شعبيّ مأثور يفصح عن هذه الازدواجيّة الماكرة، وهو: "تمسكن حتّى تتمكّن". وهنا مكمن الالتباس القاتل والفاتك إذْ إنّ بعض الناس تشتبه عليهم الأمور فيعتقدون أنّ التمسكن مرادف للمسكنة. وهذه حيلة كان يلعبها أبو العلاء المعرّي في شعره أي أنّه كان يلعب على الظنّ الرجراج بحسب ما ورد في ديوانه "سقْط الزنْد":


ولما رأيت الجهل، في الناس، فاشياً          تجاهلت، حتى ظنّ أنّي جاهل


فواعجباً! كم يدّعي الفضلَ  ناقصٌ         وواأسفي! كم يُظهر النقص فاضل


إنّ من يتأمّل بيتَي أبي العلاء المعرّي يدرك أنّه لا يختلف كثيراً ، في بعض الأوقات، عن أبي العلاء المعرّي نفسه. كان المعرّي أعمى أي غير قادر، حكماً، على التمييز بعينيه، ولكن أليس هذا حال كثيرين من الممتّعين بأبصارهم حين تعجز عيونهم عن التمييز؟ العمى ليس حكراً على من فقد ناظريه. وهذا أمر يستدعي العجب والأسف معاً لأنّ نتائجه لا تخلو إمّا من عجب وإمّا من أسف، وفي بيتَي المعرّي شيء من العزاء، وإن بشكل موارب، لفقده ناظريه.


 تلتبس الأمور، في لحظة ما، على العين المبصرة فلا تعرف أين الفضل؟ وأين النقص؟ فتظنّ النقص فضْلاً، والفضْل نقصاً. ولا تخلو الحياة من حكايات كثيرة تروي تفاصيل هذه الحدود المخاتلة والمتداخلة كما لا تخلو الحياة، أيضاً، من تبادل للأدوار بين المتناقضات. ومن باب التداخل وتبادل الأدوار والتباس الأشكال يتسلّل الخداع بدهاء، على رؤوس أصابعه، لإنجاز رغباته وألاعيبه. كنت قد سمعت مرّة شخصاً يقول: إنّه لا يضع في ذمّته إلاّ الموتى، أمّا الأحياء فهو يعترف بجهله لهم جهلاً مطبقاً لأنّهم متغيّرون ومتلوّنون. فكم من صديق ودود انقلب الى عدوّ لدود؟ وكم من عدوّ انقلب وليّاً حميماً؟


 كنت قد قرأت حكاية طريفة نقلها أكثر من كتاب من كتب التراث، أكتفي بذكر ورودها في كتابين هما: "أخبار الأذكياء" لابن الجوزيّ، و"ثمرات الأوراق" لابن حجّة الحموي. تقول الحكاية: قَدِم رجل إلى بغداد في طريقه إلى الحجّ. وكان معه عِقْد يساوي ألف دينار فاجتهد في بيعه فلم يجد له مشترياً، وخاف أن يحمله معه فيكون عرضة للسرقة أو الضياع، فجاء إلى عَطَّار موصوف بالخير والسيرة العطرة، ومعروف في الحيّ بالتقى والورع، فأودعه إيّاه .ثم حجَّ وعاد، وحمل معه هديّة للعطّار. حين دنا الحاجّ من العطّار، لم يظهر العطّار أي ردّ فعل يظهر أنّه يعرفه بل تعامل معه على أساس أنّه شارٍ يريد أن يشتري بعض الأغراض، فاستغرب صاحب العقد هذا الاستقبال الغريب والمريب، ولكن قال بينه وبين نفسه: ربما تغيّرت بعض ملامحي  في رحلة الحجّ فلم يتعرّف عليّ. وحين أفصح عن هويّته وعن سبب مجيئه قال له العطّار: من أنت؟ وما هذا الكلام؟ ثمّ راح يرفسه ويدفعه بيديه حتّى رماه خارج الدكّان وصاح في وجهه:أتدّعي عليّ مثل هذه الدعوى الجائرة أيّها اللعين، وتتّهمني بخيانة الأمانة؟ ما هذا الهراء أيّها المفتري؟  فاجتمع الناس وتحلّقوا حول الحاج وراحوا يؤنبونه على اتّهامه للعطّار المشهود له بالإيمان والخير ونظافة اليد، وقالوا له: ويلك! هذا رجل خير، ما وجدتَ من تدّعي وتعتدي عليه إلاّ هذا الفاضل الأمين؟ فتحيّر الحاجّ، ولكنّه لم يستسلم لهذه اللعبة التي يمارسها معه العطّار، فهو متأكّد من أن عينيه لا تغشّانه، وأنّ ذاكرته صادقة معه، فعاد ودخل اليه فما كان من العطّار إلاّ أن عاود شتمه وضربه.


أسقط في يد الحاجّ وهو يرى نكران العطّار الذي لا تشوب أخلاقه شائبة في نظر من يعرفه. وهنا، انبرى رجل من بين المتجمهرين ناصحاً الحاجّ بالذهاب إلى عضد الدولة البويهيّ، فهذه المسألة، كما قال الرجل، لا يقدر على حلّها غيره، وهو من كبار السلاطين في العصر العباسي، وكان معروفاً بالحنكة والفراسة ورفع المظالم فكتب الحاجّ قصّته ورفعها إلى عضد الدولة وحين وصلته الرسالة استدعى الحاجّ وسأله عن حاله، فأخبره بالقصّة. فقال عضد الدولة :اذهب إلى العطّار بكرة، واقعد على الدكّة أمام دكّانه. فإن منعك فاقعد على دكّةٍ تقابله من الصّبح إلى المغرب، ولا تكلّمْه. وافعل هكذا ثلاثة أيام، فإنّي أمرّ عليك في اليوم الرابع، وأقف، وأسلم عليك، فلا تقم لي، ولا تزدني على ردّ السلام، وجواب ما أسألك عنه .فجاء الحاجّ إلى دكّان العطّار ليجلس فمنعه، فجلس قبالته ثلاثة أيام. فلما كان في اليوم الرابع، اجتاز عضد الدولة في موكبه العظيم. فلما رأى عضد الدولة الحاج وقف، وقال :سلام عليكم !فقال الحاجّ دون أن يتحرّك من مكانه :وعليكم السلام .قال عضد الدولة :يا أخي، تقْدم إلى بغداد، فلا تأتي إلينا، ولا تعرض حوائجك علينا؟ قال الحاج: هكذا كان. ولم يُطل الكلام معه، وعضد الدولة يسأله ويهتمّ، وقد وقف ووقف العسكر كلّه. دار الحوار بين الحاج وعضد الدولة على مرأى ومسمع من العطّار، فارتعدت فرائص العطّار الذي استهان بالحاجّ فشعر أنّ لعبته مع الحاجّ لن تكون مأمونة العواقب بعد أن رآه على علاقة وطيدة مع عضد الدولة. وما إن انصرف موكب عضد الدولة حتى هرول العطّار إلى الحاجّ، قائلاً: ويحك! متى أودعتني هذا العقد؟ وفي أيّ شيء كان ملفوفاً؟ فذَكِّرني لَعلِّي أذكرُه.  فقال الحاجّ :مِن صِفَتِهِ كذا وكذا .فقام العطّار، من فوره، وفتّش في دكّانه، ثم نَقَضَ جَرَّة عنده فوقع العقد. فقال :قد كنتُ نسيت. والذاكرة، يا صاحبي، خؤون، ولو لم تُذَكِّرني في الحال ما تذكّرت. وراح يلوم ذاكرته ويلعنها على مكْرها الخبيث به.


  استردّ الحاجّ العقد ومضى إلى عضد الدولة وأعلمه باستعادته عقد اللؤلؤ فما كان من عضد الدولة إلاّ أن حكم على العطّار بالصلب على باب دكّانه. أشير، في الأخير، إلى أنّ  القارىء يشعر كما لو أنّ الحكاية تغمز من طرف خفيّ من قناة مثل عربيّ قديم يقول: "لا يصلح العطّار ما أفسد الدهر" لأنّ الفساد، بحسب ما تعلنه الحكاية، من صنيعة العطّار الذي أصلحته حنكة عضد الدولة وليس من صنيعة الدهر الذي نرمي على ظهره كثيراً من أوزار الخلق.




بلال عبد الهادي


حتى النباتات تتقن فنّ التواصل ونصب الفخاخ




في كتاب جان ماري بيلت "اللغة السرّيّة في الطبيعة، الاتصال لدى الحيوان والنبات" الذي نقله إلى العربية فارس غصوب وأصدرت ترجمته دار الفارابي، في بيروت، عبارات لم تألف الأذن سماعها إلا إذا كانت تتناول الكلام عن البشر، ولكن ان تكون كلمات وعبارات تتناول حياة الحيوانات والنباتات فهذا أمر مدهش حقّا.

ففي الكتاب مجموعة من الحقائق العلمية ولكن القارىء يظنّ، لفرط غرابتها، انه يفلفش في أوراق الأساطير. يقفز أمام ناظريك كلام عن أشجار تتعذب نفسيا، أو عن نباتات تقيم الخطط الدفاعية وكأنها أمام معركة عسكرية فعلية صاخبة، وعن أشجار دبّ في جذوعها وأغصانها الرعب، أو ان يتناول نوعا من النبات يمرّ بفترات كآبة، أو شجرات ماكرة وذكية كالشجرات المعرّشة، الذي يقول الكاتب ان نسبة الذكاء عندها أعلى من نسبة الذكاء لدى النباتات التي لا تمارس هواية التعريش على الجدران العالية. ويفصل القول عن حشرات تحبّ المقايضة أو تمارس الغشّ والخداع كي لا تقع فريسة نبتة شرسة وغيرها من التعابير التي تحيل قراءتك لهذا الكتاب نزهة فاتنة في تضاعيف الطبيعة الناطقة والصامتة. الصامتة مجازا، بكل تأكيد، لأنه فيما يبدو وبفضل التقدّم العلمي يتيبن للقارىء، بدعائم علمية وتجارب حقيقية من قبل متخصصين ومتابعين بشغف علميّ نبيل، ان البيان ليس وقفا على الإنسان إلا من الناحية "الإبداعية" بحسب المفهوم الذي وضعه عالم اللغة الأمريكي تشومسكي. وأما ما دون ذلك، فلا ينقص الحيوانات والنباتات شيء لأن تتواصل وتحكي، وتبعث برسائل عطرية أو لونيّة أو كيميائية، متعددة الدلالات، منها رسائل واضحة، وأخرى لا تخلو من بعض الغموض المتعمّد، لأنها نباتات أو حيوانات حذرة تخاف ان ينكشف أمرها للغرباء وقطّاع الطرق.

ولا تستغرب، وأنت تغوص في كلمات الكتاب، مفهوم الثأر والانتقام عند النباتات أو عند الحيوانات على السواء. لعل المرء اعتاد على تصرف بعض الحيوانات لا سيّما الداجنة، إلا ان عالم النبات والأشجار لا يخلو من طرافة يرويها الكاتب بحذق وافتتان، فثمة الشجرة التي تنتقم من قاتليها أو تثأر بطرق عجيبة غريبة لا تخطر على بال مخلوق بشري. تجارب كثيرة يقوم بها العلماء في إفريقيا والولايات المتحدة حول أفعال الأشجار أو ردود أفعالها حين يداهمها خطر نهوم يأتيها من أفواه الأبقار أو الظباء أو غيرها من الحيوانات أو الحشرات التي تلتهم أوراق الأغصان، والطريف انه ما ان تتعرض نبتة ما للخطر حتى تقوم بإرسال رسائل مشفرة إلى زميلاتها في الحقل لأخذ الحيطة والحذر، أي ان التعاضد الاجتماعي يبدو بين النباتات أحيانا أمتن مما هو عليه الحال بين البشر، ومن أساليب الدفاع عن النفس أو عن الأوراق الخضراء رفع نسبة السمّ في الأوراق بحيث ان التهامها يعرض الآكل للتسمّم. والنباتات تتواصل فيما بينها كما يقول الكاتب بأساليب متعددة منها على سبيل المثال إرسال غاز الـ"أتيلين".ومن التجارب الطريفة التي يرويها الكاتب تلك التي تتناول  أشجار حور فتية لا يتجاوز عمرها الأربعة اشهر حيث قام كلّ من " بلدوين" و"شولتز"، وهما من علماء النبات ، بتمزيق ورقتين من كلّ شجرة ، فما كان من الأوراق الأخرى التي لم تصب بأذى إلا ان ضاعفت من نسبة الدباغ، في حين أن أوراق الأشجار التي لم تتعرض إلى أي نوع من الأذى ارتفعت إلى حوالي 60%. ولم تستطع الأوراق السليمة من تغيير نسبة الدباغ إلا بفضل الرسالة التي بعثتها الورقة المجروحة. ويقول الكاتب ان بعض الألاعيب النباتية تقوم على بناء تحالفات بينها وبين الحشرات، وهي تحالفات شبيهة بتلك التي يبنيها البشر تطبيقا للمثل القائل" عدو عدوي صديقي". وهذا ما تقوم به شتلات الذرة.إذ ما إن تتعرض لهجوم من بعض الحشرات حتى تقوم بإفراز مزيج معين وظيفته جذب الزنابير، وهي عدو لدود للحشرات الطفيلية، وهكذا تكون شتلة الذرة قد طلبت النجدة من عدوّ عدوها، وهذا ما تفعله أيضا الحيوانات البرية أو البحرية ومنها سمك يعرف باسم الفيرون فما إن تجرح سمكة من سمكات "الفيرون" اثر هجوم مباغت من عدو حتى يتحول الجرح إلى رسالة، لانّه يفرز رائحة محددة، وما ان تصل الرسالة إلى أنوف سمكات" الفيرون "حتى تبدأ بالهروب والغوص أعمق وأعمق في الماء.

ولا يخلو الكتاب في بعض ألاماكن من مقارنات بين الإنسان وبقية المخلوقات من ناحية استخدام الحواسّ من حيث هي أبواب أو جسور للتواصل، وكيف ان الإنسان، بدأ يدمر الطبيعيّ فيه، ولعل أكثر الحواس التي تعاني من الظلم هي حاسّة الشمّ،  فهذه الحاسّة تتناقص فعاليتها بحدّة لدى الإنسان، والروائح بدأت تتحول من الطبيعيّ إلى الثقافي، ويستشهد الكاتب بـ"هيمرمان" مؤلف"علم النفس الاجتماعي للعطور" ويتكلم فيه عن الروائح ونسبية دلالاتها، وكيف أنها تتغير دلاليّا من شخص إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، فالأوروبيّ على سبيل المثال يعتبر ان الأسود يبعث برائحة لاذعة ولكن الطريف في الأمر ان الأسود، بدوره، يعتبر ان الأوروبي يبعث رائحة فاقدة اللذة بل رائحة اقرب إلى رائحة الجيف. ويتناول التواصل عبر الروائح عند الأطفال وكيف ان التواصل الشمّي الطبيعي آخذ في الانحسار عند الإنسان بسبب طبيعة الحياة التي تفصله عن الطبيعيّ، وتورطه أكثر وأكثر في الاصطناعي أو الإسمنتي والزجاجي وغيرها من مواد امتصاص الروائح، ويحكي الكاتب عن تجربة قامت بها بعض مستشفيات التوليد في الولايات المتحدة لمعرفة صلة الطفل برائحة أمه، فالأطفال يعرفون أمهاتهم من روائحهن الطبيعية ولكن ما ان اغتسلن واستخدمن العطور والصابون حتى فشل الأطفال في التعرف إليهنّ.

وللكاتب ملحوظة لا تخلو من دلالات، عن تماهي الإنسان مع النبات من خلال استخراج أغلب العطور من النباتات محمّلا إياها أغلب الأحيان الوظائف التي تحملها عادة في الطبيعة لوظيفة إغرائية، أو إغوائية، كما تفعل النباتات تماما حيث يلعب العطر دورا جنسيا في عالم النبات وفي عالم الحيوان على السواء. ويكفي قراءة أسماء أغلب العطور المصنوعة لتفهم دلالاتها المشابهة لدورها الطبيعيّ، فمن العطور ما يحمل أسماء "ليل الحب" أو"حب" أو شغف" وغيرها من الكلمات والتسميات الموحية. ولكن الكاتب يشير إلى ان للرائحة دورا آخر لا سيما في ما يتعلق بالذاكرة فهي دعامة للذاكرة، تمنعها من التصدع مع العمر،ويلمح إلى الكتاب الذين تناولوا علاقة الإنسان بالروائح والذاكرة أمثال شاتوبريان ومو باسان وبودلير، ويشير الكاتب إلى أن  إعادة زرع الأشجار في المدن  مسألة على قدر كبير من الذكاء لأنها بمثابة تمتين لحاسة الشم ومن ثم للذاكرة فضلا عن دورها التنظيفيّ. ويعتبر ان هذه النباتات عبارة عن حبل سرّي يعيد ربطنا بالطبيعة، بل ان الكاتب مهموم أيضا بالبيئة والإنسان على السواء فينهي فصلا من فصول كتابه بالقول "إذا كان علينا ان نختار بين شجرة الكستناء والكمبيوتر فيتوجب علينا ان نحافظ على شجرة الكستناء".

وحين يتكلّم الكاتب عن نفسيّة الأزهار تستغرب أمورا كثيرة ليس لأنها باطلة أو لا أساس لها من الصحّة وإنما لأنّه، بكل بساطة، لم يدخل في روعك ان النبات يمكن ان يخاف بل ترتجف أوراقه من الخوف كأيّ كائن حيّ في هذا العالم المدهش. ويقول إن الأشجار الأقزام المعروفة في اليابان لم تكن قزمة ولكن الرعب، على امتداد القرون أدّى بها إلى ان تتوقف عن النموّ الطبيعيّ، فتحوّلت إلى أقزام، ويقول ان هذه المسألة أوضحها علماء أمثال"تورجون" و"ويب" و"سيلفيرا" وهم من علماء النبات. واللمس الكثير يزعج بعض أنواع النبات، لأنه حسّاس جدّا تجاه اللمس. ومن هنا تتقوقع بعض النباتات وتنطوي على نفسها بمجرّد لمسها، أي كما في الحياة البشرية أناس انطوائيون كذلك في الطبيعة نباتات انطوائية.والنباتات تملك ذاكرة، يقول الكاتب، إلا أننا لا نزال في فترة التمتمات في هذا المجال، ولكن التعمق في هذا العلم سوف يكشف عن ان النباتات تملك ذاكرة، تساعدها على التذكر والتأقلم في محيطات جديدة. ويقول الكاتب ان على الإنسان ان يرفع قليلا الحاجز الذي لم يكن بالإمكان اجتيازه سابقا ، والذي يفصل مملكة النبات عن مملكة الحيوان.

ويخصّص الكاتب فصلا عن نباتات تخالف المألوف، وكأنها نباتات تثأر لبنات جنسها من أسنان الحيوانات وقرص الحشرات وغيرها، وهي النباتات المفترسة التي تتغذى بالحشرات وكان اكتشاف هذا النوع من النباتات مادّة للتندّر وحياكة الأساطير، ومن هذه الأساطير ما قيل عن وجود نباتات آكلة للحوم البشر، و بعض أفلام السينما استثمرت هذه الوحشية النباتية الأسطورية، إلا ان ذلك يدخل في مجال علم النبات الخيالي، ولكن الواقع يعترف بوجود نباتات لاحمة، وعددها يناهز الـ"530" نوعا، وهي من النباتات التي افتتن بها وبأسرارها عالم البيولوجيا داروين.

ويتكلّم الكاتب في فصل لطيف عن "اليد الخضراء"، أي تلك التي تبني علاقة خاصة مع النبات، ويحاول ان يميز ما هو أسطوري أو شعبيّ متخيّل مما هو حقيقيّ،  ويظهر ان مفهوم" اليد الخضراء" عريق الحضور لدى كل الشعوب والحضارات.

والنباتات تحبّ الموسيقى، هذا ما يؤكده الدكتور سينغ الذي يقول ان تعريض النبتة للموسيقى يُربي عطاءها، وحتى لا يقع الكاتب فريسة التخمينات قام بتجارب موسيقية شخصية على النباتات استغرقت منه أربع سنوات. ولاحظ الكاتب بعد تكرار التجارب ان سبع نبتات من أصل تسعٍ شهدت نموّا متسارعا، منها الشعير والعدس، بل ان بعض النبتات اتجه نموها صوب المكان الذي تبث منه الموسيقى، أي انها تعاملت مع الموسيقى كما تتعامل مع الضوء، ويقول الكاتب "ليس للنبات ذوق ثابت للموسيقى" وذلك لأسباب بيو ـ كيميائية وذائقة النباتات الموسيقية تتفاوت بتفاوت شخصيّة كلّ نبتة.وهناك مزارع اليوم كمزرعة" ماك كلورغ" في فلوريدا، وهي تعتمد على الاتصال الصوتي مع المزروعات، وكان من نتيجة ذلك ان زاد حجم البرتقال الموجود في المزرعة. وهذا ما يقوم به الهنود الحمر من قبيلة "الهوبيس" في أريزونا، حيث يتحوّل موسم زرع الذرة عندهم إلى موسم غناء في الحقول، لإطراب الذرة، ولكن هذه العادة، يقول المؤلف، بدأت بالتلاشي عند هذه الشعوب البدائية.ويحكي عن تجربة  في زراعة البندورة قام بها الباحث ستيرنهايمر وكانت خلاصتها ان حبّات البندورة في البستان الذي ينعم بالموسيقى كانت اكبر حجما  وألذّ طعما وأكثر عددا من تلك الموجودة في بستان آخر له الخصائص نفسها، واعتني بثمراته  الاعتناء نفسه إلا انه كان محروما من  الموسيقى، ، وقام  "ستيرنهايمر" بتوثيق عمله فوتوغرافياً.

كما أن الإنسان انتبه إلى الدور الصحي الذي يمكن ان تمنحه إياه النباتات، ويروي قصة فتاة، استعادت صحتها، بعد انهيار قوي، من طريق تحويل شرفة بيتها إلى حديقة. ويشير الكاتب إلى أن الصناعات المحلية تفرز موادّ كثيرة مؤذية منها البنزول الذي يسبب السرطان وهو مستعمل في الألوان والحبر والمحروقات والمواد البلاستيكية والكاوتشوك بل يسبّب البنزول الصداع والتوتر العصبي وفقدان الشهية،  وتطول لائحة الجزيئات المشبوهة التي تندس في حياتنا وبيوتنا كبعض الأوراق المستعملة لتغليف الأطعمة، وصمغ الموكيت والألبسة المنظفة على الناشف. ولقد قامت النازا بتجارب مدهشة عن دور النباتات في إزالة التلوث، فشجر اللبلاب قادر على إزالة 90% من البنزول من الجو خلال أربع وعشرين ساعة، وشجرة التين قادرة على إزالة حمض"النمليك" بنسبة 47%. ويدعو الكاتب إلى سياسة" حوض من التراب مقابل ما يعادله من هواء سيىء".

وفي الفصل الأخير، يتوقّف الكاتب عند تواصل البشر مع الشجر، ويتناول العلاقة الرائعة والمرهفة التي يقيمها الصينيون واليابانيون واغلب سكان الشرق الأقصى عموما مع الأشجار، وهي مفاهيم يعاد اليوم إدراجها في الثقافة الغربية من طريق الفلسفة الصينيّة المعروفة بـ"الزن"، لترميم ما اعتور الذات البشريّة من تصدّع حياتيّ، ويستشهد بكلام للقدّيس برنارد يقول فيه انه" تعلّم من الشجر أكثر مما تعلّم من الكتب"، ويقتطف من سيرة الأديب الفرنسي فرنسوا مورياك مشهدا حياتيا معبرا حيث كان يضمّ سنديانات حديقته لاصقاً جسمه إلى قشرتها، وكأنّه بهذا يؤكّد على المفهوم اليونانيّ والرومانيّ القديم الذي كان يرى في شجرة السنديان وسيطاً روحيا.

بلال عبد الهادي

طريقة كتابة بعض الرموز الصينية


السبت، 18 فبراير 2017

عن اللغة الأم

نقول " #اللغة_الأمّ" وليس " اللغة الأب"، لأنّ اللغة رحم ثانية تغلّفنا بها الأمّ على امتداد طفولتنا. فالأمّ أوّل أستاذ لغوّي! نشرب #اللغة من شفتيها كما نشرب الحليب من ثدييها!

خاطرة حول #اليوم_العالمي_للغة_الأم

 #اليوم_العالمي_للغة_الأم الذي حدّدته اليونيسكو في الحادي والعشرين من شهر شباط من كل عام هو تحية غير مباشرة لبنغلادش . وله هدف بسيط. محاربة العنصرية اللغوية، والعنصرية اللغوية هي أن تنظر إلى لغات الآخرين باحتقار أو فوقية. ومحاربة عقد النقص أيضا وعقدة النقص تتمثّل في ما نراه اليوم من إدارة الظهر للغة الأم لصالح لغة أخرى. لا تستطيع إلا أن تشفق على من يحتقر لغته الأم! فهو أي من يحتقر لغته الأم إنسان عاقّ أو معاق فكريا وروحيا ونفسيا. وهذه المناسبة هي دعوة لمعالجة نفوس المرضى بلغات الآخرين. احترام الآخر لك يبدأ من احترامك للغتك! ومن لا يحبّ لغته الأم يحتاج إلى طبيب نفسي أو طبيب أعصاب أو " عصفورية".

الجمعة، 17 فبراير 2017

عن كتاب جدوى ما لا جدوى منه ، مقال للدكتور بسام بركة

يُحكى أنّ سمكتَين صغيرتَين جدّاً كانتا تسبحان فصادفتا في طريقهما سمكة كبيرةً وأكبر منهما سنّاً. فأشارت هذه الأخيرة برأسها، وقالت لهما: سلامٌ عليكما، كيف تجدان الماء هذا الصباح؟ تابعت السمكتان الصغيرتان طريقهما، وبعد لحظة قالت إحداهما للأخرى: ماذا كان المقصود بالماء؟ هل تعرفين؟ تُمثِّل هذه الحكاية وضع الناس في هذه الأيّام، وهي وإن كانت تنطبق على البيئة والاحتباس الحراري والطبيعة عموماً، فإنها تُصوّر كذلك حالَ البشريّة تجاه جانبٍ كبير من المعارف هو العلوم التي يُطلق عليها بحقّ أنّها "إنسانيّة".  ذلك هو الموضوع الأساسي لكِتاب المفكّر الإيطالي نوتشيو أورديني "جدوى ما لا جدوى منه" (Nuccio Ordine, L’utilité de l’inutile, 2015) الذي يتناول فيه بُعداً إنسانياً غفل عنه الكثيرون وهو المعارف التي تبدو في بداية الأمر أنّها غير نافعة ولكنّها في الواقع أساسية في بناء الفكر وتحفيز الإبداعية عند الإنسان، هذا إذا لم نقل إنّ دورها كبير في بناء الهويّة وتكوين القيمة البشرية.   يسود في عالمنا الحاضر مبدأ الربح والخسارة، كما تُهيمن في شبكات التواصل بين الناس والمؤسّسات فكرة الفائدة والمنتوج والتوسّع الاقتصادي. من ناحية أخرى، نرى أنّ الكثير من الدُّول والمؤسّسات الكبرى تذهب في هذا الاتّجاه نفسه، وتختصر من عدد المراكز والمنظّمات التي لا تؤدّي مباشرة إلى الربح الوفير، فتقفِل المتاحف وتُقلِّص من المساعدات التي كانت تقدِّمها لفنون المسرح والآداب كما المساعدات التي تقدّمها للجامعات التي تدرّس العلوم الإنسانية وللأبحاث التي تُخصَّص لها. ينتفض مؤلِّفُ "جدوى ما لا جدوى منه" ضدّ هذا الموقف المستجدّ في الحضارة البشرية، وذك بدراسة معظم المعارف التي يُقال عنها إنّها غير نفعية مثل الأدب والفلسفة والمتاحف والفنون. فالإنسان يكتسب مثل تلك المعارف لا من أجل الكسب أو الاستفادة المباشرة، بل بسبب اندفاع نفسي داخلي يشعر معه أنّه كلّما ازداد معرفة ازداد انتماءُ روحه إلى البُعد الإنساني السامي. يقول أورديني في مقدّمة كتابه "ليس من السهل إدراك جدوى ما لا جدوى منه، وخصوصاً إدراك انعدام الجدوى في ما يُعتقد أنّ الجدوى لا توجد إلّا فيه (كم من مواد الاستهلاك غير الضرورية للحياة البشرية أصبحت الآن تُباع بكثرة كما لو كانت مفيدة وأساسية؟). فمِن المؤسف أن نرى أناساً يجهلون ما يجري من تصحّر متزايد في عالَم الفكر ويكرّسون أنفسهم لاكتساب المال والسلطة فقط. وكم من المؤسف كذلك أن نرى في التلفزيون ووسائل الإعلام انتشارَ صورةٍ جديدة للنجاح تتجسّد في الشاب الذي يبني لنفسه إمبراطورية مالية". إنّ الفنون بفروعها الكثيرة من الأدب والشعر إلى الرسم والنحت والموسيقا، أساسيّة في حياة الإنسان لكونها الطّاقة التي تجري في جسم الإنسان وذهنه بطريقةٍ لا تُرى، وبحيث إنّها تذهب إلى أبعد ما تحتاجه الحياة البشرية. فهي على حدّ قول المؤلّف في جِبلّة الإنسان. يقول المؤلّف: "إنّ الإنسان المُعاصر عندما يتخلّى عمّا لا جدوى فيه وعن كلّ ما يوجد من خصوبة وغنى في ما لا جدوى منه، وإذا كرّس حياته للربح والتملّك، فإنّه لن يصل في نهاية الأمر إلّا إلى تكوين مجتمعٍ مريض لا ذاكرة له، مجتمع تائه لا يعرف معنى الحياة الفعلي ولا حتّى معنى واقعه الذي يعيشه". لقد عرف الفكر البشري منذ عهد قديمٍ هذا التناقض بين موقفَين هما فائدة التملّك ولا فائدة الفنون. فالفيلسوف اليوناني "أوفيد" قد انتفض في عهده ضدّ شهوة البحث عن الثراء، ويشرح كيف أنّ الشعر الذي "لا نفع فيه"، على حدّ قول بعضهم، هو الدواء الناجع ضدّ آلام وجودية الإنسان. أمّا المفكّر الفرنسي "مونتيني"، فإنّه يذهب إلى إعلان أنّ كلّ شيءٍ نافع وأنّه لا يوجد أي شيء لا جدوى منه. في حين أنّ الشاعر الألماني "غوتيه" يردّ على مَن يسأله عن فائدة الشعر بقوله: "بمَ ينفع الشعر؟ جدواه في أنّه جميل. ألا يكفي ذلك كما الأزهار والروائح العطرة والعصافير، وكما كلّ هذه الأشياء التي استفاد منها الإنسان وحوّلها لمنفعته الخاصّة. عموماً، ما أن يُصبح الشيء مفيداً يتوقّف عن أن يكون جميلاً". الواقع أنّ الفكر البشري يزخر بالمفكّرين والفلاسفة الذين أطلقوا صرخة مدوّية ضدّ النفعية والمادّية، وجاهدوا من أجل الاهتمام بالفنون والآداب والمعرفة التي لا تبغي إلّا نفسها. وإذا تفحّصنا مضامين الفصول التي يقدّمها أورديني في كتابه هذا، لرأينا أنّه يشرح شرحاً دقيقاً كلّ الأفكار التي تدخل في مجال الدعوة إلى تقييم جدوى ما يَعتقد عموم الناس أنّه لا جدوى منه، والتي تتوزَّع على مئات من السنين تمتدّ من العصور اليونانية القديمة إلى عصرنا هذا. وخير مثال على الجدوى الكبيرة في ما لا جدوى منه هو الحبّ والغرام. فإذا أحبّ المرء من أجل أن يمتلك يكون قد قتل الحب ونفاه. ذلك أنّ مَن يقع في الشغف يقدِّم نفسه لمجرّد الفرح في أن يفعل ذلك، وهو لا يطلب أيّ شيء في مقابل ذلك، فالحبّ الحقيقي كما يقول أورديني "هو علامة اللّقاء بين شخصَين يسير أحدهما باتّجاه الآخر، ولكنّه يسير بحرّية. فما يجمع بين هذين الكائنَين هو رابط لا يبغي الانتفاع، وهذا ما يُكوِّن قيمة الحبّ لذاته. إنّ هذا الرابط أقوى من كلّ منافع الفردية ومن كلّ أشكال الأنانية". ويضيف قائلاً: "إذا كان الحبّ والشغف حقيقيَّين فعلاً، فإنّهما في كلّ الحالات يفترضان المجّانية وعدم الاهتمام بالفائدة". وخير دليل على ذلك – بحسب أورديني – هو ما يقوله أحد المفكّرين اليابانيّين حول أوّل باقة من الزهور قدّمها الإنسان البدائي لمعشوقته: لقد تسامى بتلك الحركة الأولى وارتفع فوق الضرورات الطبيعية المباشرة، وبذلك أصبح إنساناً ومن البشر. فعندما أدرك كيفية استعمال ما لا جدوى منه استعمالاً مرهفاً، دخل في مملكة الفنون. من جهة أخرى، يخصِّص المؤلّف جزءاً كبيراً من كتابه لأمرَين اثنَين: أوّلهما ضرورة الأدب في هذا المجتمع الذي بات ينصرف إلى المنفعة المباشرة والسريعة وإلى التملّك والاستئثار بالسلطة. والأمر الثاني هو التعليم العالي والبحث الجامعي. فالمعارف في نظره هي التي تبني المجتمعات البشرية، أكانت تلك المعارف أدبيّة أم علميّة. وشرطها الأساسي أن تهدف إلى المعرفة في سبيل المعرفة ذاتها، أي في سبيل بناء الإنسان من الداخل، وليس في سبيل انتفاع الفرد ووصوله إلى مكانة مادّية أو ربحٍ سريع. ولا ينسى المؤلّف أهمّية تعلّم اللّغات في تطوير البُعد الإنساني عند المرء. فهو يركِّز على تعلّم اللّغات القديمة الذي يُعدّ عموماً مثالاً على بذل الجهد في سبيل لا شيء. فالمنطق النفعي يفترض أنّه لا حاجة لتعلّم اللّغات القديمة مثل اللّاتينية، نظراً لأنّها لا تساعد في شيء، لا في الحصول على وظيفة ولا في التواصل مع شركة أو مؤسّسة تبحث عن موظّفين تعيّنهم ليعملوا لديها. وإذا كان الناس في هذه الأيام يهرعون إلى تعلّم الإنكليزية، فذلك لأنّها السبيل الأقصر للتواصل "التافه"، ولأنّها مثل فتّاحة علب أو مفتاح يفتح السُّبل أمام الإثراء والتملّك. لكنّ تعلّم لغة قديمة من أجل الوصول إلى الفكر القديم والفنّ القديم أمرٌ "يغيّر حياة المرء" من الداخل ويفتح له باباً جديداً في التعرّف إلى البشرية والتسامي بإنسانيّته. على الإنسان المُعاصر إذاً أن يعي أنّ ما يعدّه الناس عموماً بلا فائدة ولا ضرورة له إنّما هو أساسي في حياة البشر ومن أجل أن يعيش الإنسان إنسانيّته، وأنّ التفاته إلى الفنون، والأدب، والشعر، والمعرفة العلمية التي لا تهدف إلى النفع المباشر يصونه ويحفظ حياته الداخلية والخارجية، تماماً كما على تلك السمكتَين الصغيرتَين أن تعيا أنّ الماء في حياتهما عنصر البقاء والاستمرار. أخيراً لا بدّ من ذكر أنّ الكِتاب الذي عرضناه في هذا المقال مُترجم إلى الفرنسية عن اللّغة الإيطالية. وصاحبه نوتشيو أورديني مفكرٌ إيطالي، وكاتب موسوعي، وأستاذ معروف يجوب العالَم ويلقي محاضراته في الجامعات الأوروبية والأميركية. كما يرأس عدّة سلاسل تنشر الكُتب الكلاسيكية والفكرية. وقد نشر عدداً كبيراً من الأعمال التي تُرجمت في معظمها إلى اللّغات العالمية (في الغرب كما في الشرق). *باحث لبناني وأستاذ جامعي

مقال ل أحمد فرحات عن احوال اللغة العربية في الصين


أحمد فرحات  العلاقات العربية – الصينية قديمة قدم التاريخ نفسه، المروي منه والمكتوب. إنها تعود الى ما قبل ظهور الإسلام، حيث كان التجّار العرب، هم أول من بادر إلى إنشاء هذه العلاقة، وبنائها بناءً شبه محكم، لأجل إنجاح تجارتهم عبر البحار، وكسب ثقة تجار الأسواق الصينية وناسها، عاماً بعد عام.  وبدورهم كان التجّار الصينيّون يتركون موانئهم أيضاً، لتصل سفنهم التجارية إلى موانئ البحار العربية، محمّلةً بالخزف الصيني، والقيشاني، وبالحرير، خيوطاً ونسيجاً، وكذلك بالفضة والذهب، واليشم.. علاوة على صنوف كثيرة من الأدوية الصينيّة، العشبية منها، وغير العشبية إلخ… لتعود إلى بلادها، محمّلة بالخيول العربية، واللبان، والبخور العربي والإفريقي، والعاج، والتمور، وبعض المنسوجات القطنية، وغيرها من البضائع، التي تفتقدها الأسواق الصينيّة.  ويذكر المسعودي في "مروج الذهب" أن سفن الصين، كانت تصل قبل الإسلام إلى مدينة الحيرة، على نهر الفرات في العراق، وهي عاصمة المناذرة الموالين للفرس. ويذكر ابن عبد ربه في "العقد الفريد"، أن النعمان بن المنذر، ملك الحيرة، رأى في إيوان كسرى وفداً من الصين.  وبعد ظهور الإسلام، وبحسب مراجع تاريخية صينيّة، فإن أول بعثة أرسلت من الجانب العربي- الإسلامي إلى الصين، كانت في العام 651 ميلادية، أي في عهد الخليفة عثمان بن عفّان، وكانت طبيعة البعثة، دينية، تدعو حكّام الصين للدخول في الدين الحنيف، وأن الذي حمل الدعوة المذكورة وقتها، هو سعد بن أبي وقاص. وتلت هذه البعثة، بعثات عديدة منذ مئات السنين.  هكذا إذن، مع التجار العرب، قبل الإسلام وبعده، استمرت العلاقات العربية- الصينيّة، وتقوّت تجارياً وثقافياً، بخاصة بعدما استقر عدد كبير من التجّار العرب المسلمين في الصين، وتزاوجوا، وأنجبوا أجيالاً صينيّة مسلمة، وصل تعدادها إلى ما يزيد على الثلاثين مليون مسلم اليوم.  وفي زمن أسرة يوان ( 1264- 1368)، أخضع المغول الصين كلها تحت سلطتهم القوية، فقامت جيوش جرارة منهم بحملاتٍ متوالية على غرب آسيا، وأسرت أعداداً كبيرة من الجنود، والمثقفين، والفنّيين المهرة المسلمين، وعادت بهم إلى الصين، فأقاموا في البلاد متفرقين في مختلف أنحائها. ومن خلال هؤلاء المسلمين، وغيرهم ممّن سبقهم من تجّار عرب مسلمين، بدأ دخول اللغة العربية، وانتشارها، وتعلمها بالضرورة، باعتبارها لغة الإسلام والقرآن الكريم.  ومع حكم أسرة تانغ الصينية (618- 907) ازدهر أكثر تعليم العربية في الصين، وبخاصة من خلال المساجد، التي تحوّلت إلى مراكز، أو معاهد لتعليم لغة الضاد، يدرّسها، بالإضافة إلى رجال الدين المسلمين، كلّ من تضلّع من هذه اللغة، التي يعتبرها البرفسور تشو وي ليه (أستاذ الدراسات الدولية في جامعة شانغهاي والخبير بالعلاقات العربيّة – الصينيّة) "من أجمل لغات العالم، وإنني سعيد بأنّني تعلّمت هذه اللغة الجميلة، وأبحرت في كنوز آدابها القديمة والحديثة، وأعجبت كثيراً بأشكال حروفها، و إيقاعات ألفاظها".  روّاد العربية في الصين  من جهة أخرى، يعتبر شوي تشينغ قوه، وهو أستاذ، وباحث، في كلية اللغة العربية في "جامعة الدراسات الأجنبية في بكين"، أحد أبرز المهتمين بتاريخ لغة الضاد في بلاد الصين، بوجهيه القديم والحديث، وله العديد من الدراسات في هذا المضمار اللساني. وقد قرأ له كاتب هذه السطور أكثر من دراسة في أحوال اللغة العربية، وخصوصاً في الصين الحديثة، نعرف من إحداها، أن اللغة العربية، لم تدخل المدارس الصينيّة، إلا في أوائل القرن العشرين، متزامنةً مع حركة الثقافة الجديدة، التي اجتاحت البلاد كلّها، فأنشئ العديد من المدارس الابتدائية والثانوية الإسلامية في المناطق المأهولة بالمسلمين، وفي بعض المدن الكبرى، مثل بكين وشانغهاي، تدرَّس مواد ثقافية وعلمية باللغتين: الصينية والعربية في وقت واحد. والجدير ذكره إن هذه المدارس قد خرّجت عدداً من رواد اللغة العربية في الصين، أمثال عبد الرحمن ناجون، ومحمد مكين، اللذين سافرا إلى جامعة الأزهر في مصر، لمواصلة دراستهما بعد تخرجهما من المدارس الثانوية الإسلامية، ثم عادا إلى الصين لنشر اللغة العربية والثقافة العربية – الإسلامية في جامعاتها.  وبدأ تعليم اللغة العربية في الجامعة الصينية في العام 1943 م. عندما عُيّن الأستاذ عبد الرحمن ناجون، بعد تخرجه من جامعة الأزهر، حاملاً شهادة "العالمية"، أستاذاً في الجامعة المركزية (جامعة نانكينج اليوم)، فألقى دروس اللغة العربية على الطلاب كمادة اختيارية، مستخدماً الكتب المنهجية، التي ألّفها بنفسه. كما ألقى محاضرات حول التاريخ العربي، والثقافة العربية الإسلامية، في نطاق برنامج الجامعة.  وفي العام 1946، أنشئ تخصّص اللغة العربية للمرّة الأولى في الجامعة الصينية، حيث استقدمت جامعة بكين، الأستاذ محمد مكين، زميل عبد الرحمن ناجون الأزهري، لإنشاء شعبة اللغة العربية في قسم اللغات الشرقية في الجامعة، وقبلت دفعات أولى من الشبّان الصينيّين (من مسلمين وغير مسلمين) لدراسة اللغة العربية كتخصّص. وقد صار هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم كوادر، وعلماء، أو أساتذة، وأسهموا إسهاماً كبيراً في إقامة العلاقات بين الصين الجديدة والدول العربية، وفي تعريف الصينيّين بالثقافة العربية- الإسلامية.  وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية في العام 1949، وبالتوازي مع تطوّر العلاقات بين الصين الشعبية والدول العربية، أنشأت الحكومة، تخصّص اللغة العربية في جامعات ومعاهد عدّة، منها معهد الشؤون الديبلوماسية، وجامعة الاقتصاد والتجارة الخارجية، وجامعة الدراسات الأجنبية في بكين، والمعهد العسكري للّغات الأجنبية في لويانغ، ومعهد العلوم الإسلامية الصيني، وجامعة الدراسات الدولية في شانغهاي، ومعهد اللغات في بكين، والمعهد الثاني للّغات الأجنبية في بكين. وقد أعدَت هذه الجامعات والمعاهد، آلافاً من الأكفّاء، الذين يعملون في مجالات مختلفة، ويسهمون في تطوير العلاقات الصينية – العربية، ومنهم وزراء، وسفراء، وجنرالات، وأساتذة، ومدراء شركات، وإعلاميون ورجال دين إلخ..  ومنذ تسعينيّات القرن العشرين، ومع تطوّر الاقتصاد الصيني، وزيادة الانفتاح على العالم الخارجي، كثر التبادل الاقتصادي والتجاري بين المناطق الصينيّة المختلفة والدول العربية، فبدأت بعض المقاطعات الصينيّة تهتم بإعداد مترجمين للّغة العربية. ونتيجة لذلك، تمّ إنشاء قسم تخصّص اللغة العربية في خمس جامعات إقليمية، ومعظمها في المناطق الواقعة غرب الصين، حيث يتكثّف وجود القوميات المسلمة.  ولا بدّ من التنويه هنا، أن فرص التوظيف لطلاب اللغة العربية في الصين، تعتبر جيّدة بشكل عام، ولاسيّما في بعض الجامعات المهمّة، نظراً للعلاقات الطيّبة، والتبادلات المكثّفة بين الصين والدول العربية في مختلف المجالات في الوقت الراهن.  ومن أجل ضمان ورفع نوعية التعليم، كوّنت وزارة التربية والتعليم الصينيّة لجاناً مختلفة، لتوجيه وتقييم أعمال التدريس في الجامعات، ومنها "اللجنة الوطنية لتوجيه تدريس اللغات الأجنبية في الجامعات"، وتتبع لهذه اللجنة، "فرقة اللغة العربية"، التي تقوم بتنسيق وتوجيه تعليم العربية في الجامعات. وتحت إشراف وتنظيم هذه "الفرقة"، شاركت مجموعة من الأساتذة المتمكّنين في جامعات عدّة، في تأليف "منهج تعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية"، الذي صدر في العام 1991.  كما تمّ إنشاء "مجمع اللغة العربية في الصين للتعليم والدراسات" في العام 1985، والذي انضمّت إليه مختلف الجامعات، التي تدرّس اللغة العربية. وينظّم المجمع سنوياً فعاليات متعلقة بتعليم اللغة العربية، كعقد دورات، وندوات علمية، وإقامة مسابقات الخطابة، أو الإنشاء، أو الترجمة، أو العرض الفنّي بين طلبة الجامعات.  المساعدات العربيّة  وبيَن البرفسور شوي تشينغ قوه، أن قضية اللغة العربية في الصين، حظيت بمساعدات عربية كبيرة. فمنذ تأسيس الصين الجديدة، أوفدت الدول العربية خبراء وأساتذة، ومدرّسين إلى الصين، لإلقاء الدروس العربية، أو مشاركة الزملاء الصينيّين في تأليف القواميس، والكتب المنهجية، أو إجراء التنقيح اللغوي على أعمال المترجمين الصينيّين. وكان من بين هؤلاء الموفدين، أسماء أدبية لامعة كالروائي السوري الشهير حنا مينه، والشاعرين السوريّين: عبد المعين الملوحي، وسلامة عبيد، والمفكّر الفلسفي العراقي هادي العلوي، والمترجم الفلسطيني محمد نمر عبد الكريم.  وساعدت "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" على تنظيم دورتين تدريبيّتين لأساتذة اللغة العربية، غير الناطقين بها، من جامعات آسيا في بكين. كما وقّع العديد من الجامعات العربية اتفاقيات حول التبادل الأكاديمي مع نظيراتها الصينيّة.  وفي السنوات الأخيرة، لقي تعليم اللغة العربية في الصين اهتماماً متزايداً من طرف البلدان، والحكومات، والهيئات العربيّة. فقد تبرّع الراحل، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الرئيس السابق لدولة الإمارات العربية المتّحدة، بمنحة لبناء "مركز الإمارات لتدريس اللغة العربية والدراسات العربية- الإسلامية" في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين، وهو عبارة عن بناءٍ ذي خمسة طوابق، بكامل تجهيزاته اللازمة، ومكتبة عربية.  وأهدت المملكة العربية السعودية معملاً لغوياً إلى جامعة بكين. كما ساعدت في إنشاء "صندوق محمد مكين للدراسات الإسلامية" فيها. وتبرّعت غرفة التجارة والصناعة في دبي، لإنشاء "صندوق دبي- شانغهاي لتعليم اللغة العربية" في جامعة الدراسات الدولية في شانغهاي.  كما أهدت حكومة مصر إلى "معهد الدراسات الشرق الأوسطية" في الجامعة، مكتبة تحمل اسم سوزان مبارك، تضمّ آلاف الكتب العربيّة.

اليوم العالمي للغة الأم

الحادي والعشرون من شهر شباط من كل عام هو #اليوم_الدولي_للغة_الأم ، أي أن كل شعب يحتفل بلغته الأمّ، أي عيد لكلّ اللغات المنطوق بها في أنحاء العالم، وهدف #اليونسكو من هذه الاحتفالية إظهار أهمية اللغة الأم- أيا كانت هذه اللغة- في التربية السويّة. ويمكن لوزارة التربية بهذه المناسبة اللغوية الجميلة توزيع قمصان مكتوب عليها كلمات وأمثال وأبيات شعر لطلاب المدارس الابتدائية فيفرح الطلاب الصغار بهذه المفاجأة اللغوية السارّة التي يأخذونها إلى بيوتهم وتبقى عالقة في أذهانهم الغضّة وتبني علاقة ودّ ومحبّة مع #الحروف_العربية والكلمات العربية، وهي ترغيب لطيف في استخدام #الحرف_العربي بدلا من الحرف اللاتيني، أو إحضار خطّاط يقوم بكتابة اسم كل طالب بخطّ جميل رشيق على بطاقة جميلة المنظر يأخذها معه إلى بيته و " يُبَرْوِزُها" ويبرزها بفرح لوالديه وأشقائه واصدقائه من خارج المدرسة. وسيفرح الوالدان بفرح فلذة روحيهما! أو تكتب عبارات مهضومة وذات دلالة طريفة وتقدّم لهم... أو حبّات #شوكولا على شكل ألف وباء وتاء ...  أشياء بسيطة كثيرة يمكن أن يقام بها وتشكّل ذكرى حيوية وحارّة وملونة. وعلى عاتق أساتذة اللغة العربية مهمّة تحويل هذا اليوم إلى ظاهرة باهرة! #International_Mother_Language_Day

الموج العاطر أو الشامبو الصيني

 دخول مفردة من لغة ما إلى لغة أخرى يفرض عليها شروطا صوتية معينة سببه أنّ لكل لغة نظاما صوتيا خاصا بها مختلفا عن نظام أي لغة أخرى. وهكذا تجد المفردة نفسها مضطرة للخضوع إلى النظام الصوتي الجديد إذا أرادت الإقامة المديدة في ضيافة هذه اللغة أو تلك. لا بدّ من تضحية صوتية ما، فالسين قد تصير #صادا، والكاف قافا، والتاء طاء مثلا، والميم #نونا، والراء #لاما، لأنّ الصوت المفرد يخضع أيضا لنظام صوتي آخر هو " نظام المقطع" ، فالنظام المقطعي أيضا نظام متغيّر بحسب اللغات، فلكلّ #لغة نظام خاصّ بها على غرار ما هو عليه الحال في النظام الصوتي الذي يتجسّد مكتوبا في #الألفبائيات.ولا يغرّ المرء بالشكل، فشكل ألفباء #اللغة_الانكليزية يشبه في أصواته الصامتة أو ما نسميه بالحروف متشابه ولكن ينكشف الخلاف وبشكل لا لبس فيه في الصوائت أو ما يسمّى في العربية بالحركات. #اللغة_الصينية ذات قدرة هي بنت طبيعتها الصوتية في نقل المفردات الغريبة. وهنا سأقف عند كلمة " #شامبو" #shampooing الذي اختارت الصينية أن تأخذ شكله الصوتي من الفعل #shampoo. اللفظ الصيني هو "شْيانغ پو"، ولكن الشكل الصوتي كما هو في العربية شكل معتم لا يفصح عن الطريقة التي اختارتها الصينية. اللغة الصينية لصيقة الصلة بطريقة كتابتها. لا يمكن للكتابة الصوتية أن تكون بديلاً فعّالا للرموز، أو للكتابة الصينية، وذلك بسبب طبيعة اللغة الصينية المقطعية. #الحرف_اللاتيني عكّاز لا أكثر يستخدم لتعليم الرموز. الرمز صورة أو معنى، الألفباء صوت عاجز عن تلبية حوائج الرمز، #الجناس_الصوتي الكثيف يجعل الكتابة بالحرف اللاتيني أو غيره كالرماد في العيون يشوّش عليه رؤية #المعنى! الصوت الواحد أي المقطع الواحد له دلالات كثيرة يكشفها شكله المكتوب، الجناس على مستوى الصوت لا على مستوى الكتابة الصينية، ولكن الجناس الصوتي يتحوّل إلى جناس مكتوب في حال استخدمنا الحرف اللاتيني أو أي حرف آخر.  وهنا يتاح للغة الصينية أن تقوم في نقل الصوت بطرق شتّى، وبدلالات شتّى ، فهي تستطيع أن تختار صوتا يحمل معنى القدح أو المدح. وبالنسبة لكلمة #شامبو فقد اختارت له تسمية هي صوتية في الأساس ولكنها تختضن أيضا معنى عطرا. اختارت للشامبو ما يمكن ترجمته إلى العربية بالموج العاطرxiāng bō 。 香波 وهي ترجمة موفقة، فالشامبو ذو علاقة حميمة مع الماء ومع العطر الذي يفوح من خصل الشعر " المتموّجة"!

الحمص الأسود والحقيقة


الجهل يجعل الحقيقة الناصعة كذبة، أو قل كذبة مصبوغة بصبغة الحقيقة. ما لا نعرفه نظنّه أحيانا من العالم الخرافيّ، أو المختلق.  كلامي هنا من وحي #حبّة_حمّص سوداء! حبة حمّص بلون حبّة البركة! كنت أتكلّم مع شخص عن حبة الحمص السوداء، فنظر شذرا، وقال : هذه حبّة مصبوغة بالأسود. ظنّها من ألاعيب #فوتوشوب العجيب. ولم يصدّق.  ثمّة حقائق لا تصدّق، حقائق تشبه الأكاذيب، ولكنها لا تشبه #الأكاذيب لأنها هي كذلك، وإنّما بسبب نقص معرفيّ ما، ومن هنا فإن للجهل قدرات عجيبة تشبه قدرات الشائعة التي تحيي وتميت! فهو أي #الجهل يصدّق ما لا يصدّق أحيانا ولكنّه ينكر إذا دعت الحاجة ويحيل ما يسمع أو يرى إلى القوى الغيبية من سحر وما شابه. لم يسمع ذلك الشخص من قبل عن حبّة الحمّص السوداء فرفضت عينه بكل بساطة ما ترى وأحالت ما رأته إلى ألاعيب التكنولوجيا التي تلعب بكل شيء، وتلعب بألوان الأشياء كما تهوى! في عقل كلّ إنسان شخص يشبه ذلك الذي أنكر وجود حبة #الحمص السوداء! والسبب في ذلك هو أن العقل الكامل عقل افتراضي ! لا وجود له ! والجهل يستميت أحيانا في سبيل القضاء على الحقيقة التي تزعزعه وتسمّ بدنه! وفي الختام هذه صورة عن حبات الحمّص السود كحور العين!

قد يكون #الزنديق في نظرك أقرب إلى #الله منك!

قد يكون #الزنديق في نظرك أقرب إلى #الله منك!

من أقوال الفرزدق

 علينا أن نقول، وعليكم أن تتأوّلوا.

ايمان الفرزدق


حدّث ابن عمران قال: جاء الفرزدق فتذاكرنا رحمة الله تعالى وسعتها، فكان الفرزدق أوثقنا بالله. فقال له رجل: ألك هذا الرجاء وهذا المذهب وأنت تفعل ما تفعل؟! فقال: أتروني لو أذنبتُ إلى والديّ، أكان يقذفان بي في تَنُّور، وتطيب أنفسهما بذلك؟ قلنا: لا، بل كانا يرحمانك. فقال: أنا والله برحمة الله أوثق منّي برحمتهما.
من كتاب "سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون" لابن نباتة.

الآية المنبوذة

" إقرأ" آية قرآنية في صيغة فعل أمر الهيّ، ولكنّها آية منبوذة، غير محبوبة، ولا يحبّ عدد كبير من المسلمين تطبيقها.
وهي آية مهجورة، تنفر من حروفها العيون.
البعض يظنها فرض كفاية لا فرض عين.
فلا حول ولا قوة الا بالله

من طرائف الاديب ابراهيم المازنيّ


المدرّس الذي يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لهذه المهنة، وخير له أن يشتغل بغيرها.


قد يجد القارىء أنّ ما سوف يرد في تضاعيف الحكاية التالية يعارض كلام المازني أعلاه، ولكن عند التعمّق يعرف أنّ المازني لم يخطر بباله وهو يروي ما حصل معه في قاعة الصفّ فكرة ممارسة العقاب الجماعيّ. وإبراهيم المازنيّ من كبار كتاب النهضة الزاهية في النصف الأوّل من القرن العشرين، وشارك مع زميله عباس محمود العقاد في صياغة ما يمكن اعتباره بمثابة بيان الثورة الشعرية الحديثة، وكتاباته ممتعة جدّاً، فهو قصّاص فاتن وإن لم يكن يأخذ كتاباته النقدية والقصصية بجدية، فهو أديب ساخر، يسخر من كلّ شيء حتى من نفسه ونجد صدى سخريته واستخفافه الظاهريّ بذاته في العناوين التي اختارها لمؤلفاته. والعناوين دالّة فمن عناوين كتبه النقدية أو القصصية نستشفّ هذه النظرة الهزلية في التعامل مع الحياة، مثل "حصاد الهشيم" و"ع الماشي" و"في الطريق" و"قبض الريح" و"خيوط العنكبوت" وغيرها من عناوين توحي بالخفّة والهشاشة بخلاف مضامينها الغنية بالمعرفة والنظرات الأدبية والاجتماعية الثاقبة. وله نوادر كثيرة لو جمعت في كتاب واحد لكانت لطائف الطرائف. ومن هذه الطرائف التي حصلت معه أيّام كان مدرّساً، وهي مهنة مارسها زهاء عشر سنوات قبل أن يهجرها إلى عالم الكتابة والصحافة، وكان له وجهة نظر في التعليم على نقيض ما كان سائداً في زمانه من التعامل الفظّ مع الطلاب كما لو كانوا فرصة ذهبية ليمارس الأستاذ نزعته السادية على أجسادهم الغضة. يقول المازني إنه على امتداد هذه السنوات العشر لم يحتج أن يعاقب تلميذاً أو يوبّخه أو يقول له كلمة نابية. ولكن "الولد ولد ولو عمّر بلد" كما يقال، ولم يقصّر التلاميذ في محاولة المعاكسة ونصب المقالب، وكان ابراهيم المازني حديث عهد بالتلمذة وبشقاوة التلاميذ، فكان يعرف كيف يقمع هذه الرغبة الطبيعيّة في الشقاوة بوسائل وتقنيات هي بنت خياله الفذّ.

وهو يروي نادرة  من النوادر التي حصلت له معهم في كتابه "قصة حياة" التي يتناول فيها فصولاً ممتعة من طفولته وصباه وحياته المهنية، ولم أحبّ أن أغيّر من كلماته وأنا أنقلها وعليه فإني أترك لقلمه السيّال أن يروي لنا بأسلوبه الشخصيّ حكايته في معالجة ما يواجهه فيقول:

 " كنت مدرّساً في المدرسة الخديوية واتّفق يوماً أن دخلت الفصل فإذا رائحة  كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفاً، والجوّ حارّاً جدّاً، فضاعف الحرّ شعوري بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وادركت انها هي المادة التي كنا ونحن تلاميذ نضعها في الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت في نفسي:" إنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد، وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثي نفسي فإنها تغثي نفوسهم معي أيضاً . فحالهم ليس خيراً من حالي، والإحساس المتعب الذي أعانيه ليس قاصراً عليّ ولا أنا منفرد به، وإنهم أغبياء لأنهم أشركوا أنفسهم معي، وقد أرادوا أن يفردوني بهذه المحنة. والفوز في هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد أخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان. تصبّرت وتشدّدت ودعوت الله في سرّي أن يقوّيني على الاحتمال، ومضيت في الدرس بنشاط وهمّة لأشغل نفسي عما أعاني من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى بنفسي في وجوههم أمارات الجهد الذي يكابدونه من التجلّد مثلي، فأسرّ واغتبط وأزداد نشاطاً في الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا في الكلام، فقد كنت عارفاً أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا في فتح النوافذ عسى أنْ تخفّ الرائحة ويلطف وقعها.

وظللنا على هذه الحال نصف ساعة كادت أرواحنا فيها أنْ تزهق، ورأيت أنّ الطاقة الإنسانيّة لا يسعها أكثر من ذلك، وأنّ التلاميذ خليقون أن يتمردّوا إذا أصررت على عنادي المكتوم، واغتنمت فرصة إصبع مرفوعة وسألت صاحبها عمّا يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأنّ الحر شديد. قلت افتحها، وفتحت النوافذ كلّها، وتشهّدنا جميعاً، واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدّة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال ما لا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة او أربعة من التلاميذ ولحقوا بي، وقال لي واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وإنّ الأمر كان مقصوداً به غيري، وإنّهم يطلبون الصفح، فسررت ولكني تجاهلت، وسألتهم عما يعنون. قالوا: الرائحة الكريهة التي كانت في الفصل. قلت رائحة! أي رائحة؟ إنني مزكوم ولهذا لم أشمّ شيئاً فلا محلّ لاعتذاركم. ومضيت عنهم وكان هذا درساً نافعاً لهم ولو أني عاقبت أحدا لما أثمر العقاب إلاّ رضاهم عن نفوسهم لأنهم استطاعوا أن ينغّصوا علي، وأن ينجح معي عبثهم الطبيعي في مثل سنّهم".

لقد كانت "الرائحة الكريهة" بينه وبينهم هي ساحة المعركة، وعرف المازنيّ بذكائه الحادّ وطبيعته المرحة والساخرة أن ينتصر على الطلاّب دون عقاب وأن يحرمهم الشعور بالرضى حين أعلن في آخر الحكاية أنّه كان مزكوماً على خلاف واقع الحال فلم يشمّ أيّ رائحة. تحوّل الضعف المزعوم في حاسّة الشمّ لدى المازنيّ إلى قوّة صادمة لمسامع الطلاب أطاحت بمقلبهم الشمّي كما بقيت هذه الحادثة ذكرى حرّيفة لم تغب عن أنوفهم.

الاثنين، 13 فبراير 2017

من كتاب بلاغات النساء/ ابن طيفور/ ومن جواب ظراف النساء