الأربعاء، 28 نوفمبر 2018

وقت أبي ياسر عبد الهادي






الأشياء البسيطة ليست أشياء بسيطة.
وقيمة الأشياء متغيّرة كالهويّة تماما، ليست ثابتة، تغيّرها أوقات وسياقات وظروف.
علاقتنا مع الأشياء ليست علاقة مع الأشياء العارية من ذكريات، وحتّى لو كانت ذات قيمة ذاتية فإنّ قطمتها الذاتيّة دون قيمتها التي تكتسبها من علاقتنا بها.
فور قة نقدية من فئة الألف ليرة قد تكون أغلى لديك من ليرة ذهبيّة، لأنّ علاقتنا مع الأشياء هي التي تحدّد القيمة.
اختيار المرء قطعة من عقله كما يقال.
هنا أذكر أنّي قرأت كتابا عن الشاعر أبي تمّام، وهو طريف من حيث إنّه يدرس شعريّة أبي تمّام من خلال اختياراته الشعرية في ديوان الحماسة.
فتحنا صندوق أبي رحمه الله الذي كان يحتفظ به بالأشياء الثمينة وسندات الملكيّة، ولكن كانت هذه الورقة المأخوذة من روزنامة عام ٢٠٠٩ ، وهي عن الوقت، أن يحتفظ والدي بورقة عن الوقت، تظهر المكانة التي كان يحتلّها الوقت في مدار تفكيره، وتفصح لي عن ناحية كنت أراها فيه، كانت أشدّ ما يكره تبديد الوقت، ما سمعته مرّة يستعمل تعبيراً شائعاً على بعض الألسنة، وهو ربط التسلية بتضييع الوقت، أو قتل الوقت.
لم تعد هذه الورقة التي احتفظ بها في صندوقه أو خزنته مجرّد إشارة إلى يوم من زمن غابر.
شعرت كما لو أنّها الوصيّة التي تركها لنا، الكلمات التي قرّر أن يقولها لنا بعد رحيله.
وهنا أتبرّك بإعادة كتابتها ، وعدم الاكتفاء بصورتها، فالوقت هو عدوّنا وحليفنا في آن، وهنا أذكر ان الوقت جعل ابن سينا يقرّر أن يعيش بالعرض، بينما أبي عاش حياته بالعرض والطول، وكانت أحلامه تنبثق من عمله ووقته لتغمر عمره بفرح الإنجاز.

الوقت
هل يجوز أن نهدره؟
عمر الإنسان مجموعة أيام تطول أو تقصر، والطول والقصر نسبيان، فإذا أهدر المرء وقته فهو بالتحقيق يهدر عمره الذي يعدّه أثمن ما يملك.
الوقت أعظم ما عنيت بحفظه
وأراه أهون ما عليك يضيع
ومن يقتل الوقت فكأنّما يقتل روحه، وسيندم يوم لا ينفع الندم، لأنّ الأيّام لن تعود.

أمس الذي مرّ على قربه
يعجز أهل الأرض عن ردّه

وأوّل ما يسأل عنه المرء يوم القيامةعن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه.

دقات قلب المرء قائلة له

الفصحى عقلها كبير لا تزعل ممّن يمدح العاميّة.

الفصحى عقلها كبير لا تزعل ممّن يمدح العاميّة.

@


حروف لغة ما ليست كأسنان المشط، فهناك حروف حظّها حلو، يدلّلها القدر اللغويّ، وسأكتفي بمثال واحد: حرف ال a مثلاً كما نراه في العناوين الالكترونيّة نال حظوة لم ينلها ربّما غيره من الحروف، فالبريد الإلكتروني لم يكتف بأن أعلى من شأنه بل أحاطه بالرعاية والهالة: @ .

الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

حروف العلّة في العربية مخادعة

الياء ياءان والواو واوان!


أحبّ من ينظر إلى الحياة نظرة متفائلة كنظرة ياسر عبد الهادي


أحبّ من ينظر إلى الحياة نظرة متفائلة.
كما أحبّ أولئك الذين يعملون ويكافحون في سبيل عمل، أو فكرة.
مفهوم التفاني أنظر إليه نظرة الصوفيين، فالتفاني من مقلع الفناء، والفناء هنا حلول ووجود مكثّف في ما نحبّ أو من نحبّ.
هذه مقالة كنت قد كتبتها عن فتى طرابلسيّ ذهب إلى القدس ، ولم يكن ذلك الفتى إلاّ أبي رحمه الله.
لم أكتبها لأنّها قصةٌ بطلها أبي الذي غاب منذ أيّام رحمه الله، ولكن لأنّها قصّة تستحقّ أن تروى، لما فيها من متطلبات الحياة الخصبة، فهي من عدّة شغل النجاح.

#سخّان_فستق_عبيد

ثمّة حكاية تعود أحداثها إلى أيام كانت فلسطين في يد العرب، قبل أن يأتي الغرب "الديمقراطيّ" ويزرع الكابوس الاسرائيليّ وسط عالم عربي تجري المياه الآسنة من تحت قدميه وهو لا يدري!

تدور الحكاية حول رغبة عنّت ببال فتى طرابلسيّ في السابعة عشرة من عمره، وهي زيارة عمّته التي تزوجت من فلسطينيّ وسكنتْ في القدس، فذهب إلى الجنوب مع ثلّة من أترابه، لهم مثله، في القدس أقرباء. ومن هناك عبروا الحدود سيراً على الأقدام، لأنّهم لا يملكون أوراقا ثبوتيّة تسمح لهم بالسفر الشرعيّ، بل ما كان يخطر لهم ببال أن زيارة أقربائهم تحتاج إلى أوراق. إنّ صلة الرحم لا تؤمن، في نظرهم، بالحدود، أيّاً كان لونها، فضلاً عن أن الحدود كانت لا تزال، في ذلك الوقت، طريّة العود، ولم يجفّ حبرها الغربيّ الملوّث بعد. كان وصوله إلى القدس مغامرة، ولكنّ الفتى انتبه إلى أنه يحبّ العمل، فهو اعتاد منذ نعومة أظفاره على العمل بل انه حين ينبش في مطويّات ذاكرته عن أيّام الطفولة اللاهية تخونه ذاكرته باستمرار، ولعلّ ذلك من حسنات يتمه الباكر، إنْ كان لليتم حسنات. وما إن وصل إلى القدس حتى نسي أنّه أتى بهدف زيارة عمّته، والسبب أن زوجها كان نجّاراً بسيطاً، شغله على قدّه، وهو لا يطمح إلى أكثر من تأمين كفاف يومه. فقد كان قنوعاً، ومتمسّكاً بذلك الكنز الذي يفتخر بحيازته عدد لا بأس به من أقرباء الفتى وهو أن "القناعة كنز لا يفنى". وكان الفتى يرى بخلاف ذويه أن عباءة الفقر المهلهلة التي تلفّ طفولته ليست إلاّ بنتا شرعية لهذا المثل الفاني، ولم يشذّ زوج عمته عن قاعدة القناعة، بمفهومها الضيّق الذي يقصم ظهر الأحلام والتطلعات، وعليه فإنّ زوج عمته كان يقفل محله بمجرّد شعوره أنّ كفايته اليومية قد صارت في جيبه، فيذهب إلى القيلولة ومن بعدها يرتاد المقهى حيث تكون نارجيلته تنتظر تشريفه وشفتيه، كما كانت تنتظره أيضاً لعبة الورق أو لعبة الداما. وكان المقهى يكتظّ بالذين يشعرون أن الوقت عدوّ مقيت، شديد الوطأة عليهم، ولا يعرفون كيف يتخلّصون منه لولا نعمة "ورق اللعب" وطقطقة أحجار الداما، وقرقعة النراجيل.

كان الفتى يقضي الوقت في محلّ زوج عمّته، ومرّ ذات يوم بائع فستق العبيد السوداني، ولا تزال أنوف الكبار في السنّ حتى في طرابلس، فيما أتصوّر، تتذكّر فوح رائحة الفستق الشهيّ الذي كان يتجوّل به البائع، ساخناً، بين الأحياء الشعبيّة. وكان باعة الفستق يقصدون زوج عمته لأخذ قطع من الخشب وقودا لسخّاناتهم. كان الفتى قد لاحظ أن خلف محلّ عمّه مكبّاً لفضلات التنك والصفيح، ولم ير الفتى في الفضلات غير موادّ أولية حاضنة لفستق العبيد، فكان وهو يتأمل السخّان يحاول تفكيكه بذهنه وإعادة تركيبه وحفظ انحناءات جدرانه وموقع بيت النار وقطر المدخنة وطولها. استفسر من البائع عن كلفة السخان، ثمّ اقترح عليه أن يبيعه إيّاه بسعر أرخص. وذهب الفتى، من فوره، إلى المكبّ وراح ينتقي القطع المناسبة، وكانت العدّة في محل زوج عمته عوناً له على الإسراع في صنع السخّان، وفي اليوم التالي كان السخّان جاهزاً ومعروضاً على مدخل المحلّ بانتظار نصيبه، وصادف أن مرّ بائع كان سخانه في آخر عمره، فأعجبه السخّان واستحسن السعر فاشتراه بدينار فلسطيني، وكان للدينار، في ذلك الزمان، صدى رنّان. ونشط الفتى فراح يصنع سخّانا في كلّ يوم، ويبيعه بدينار.

لم يستوعب زوج العمّة كيف أن هذا الولد الذي لا يملأ العين قادر على أن يجني في يوم واحد ما يجنيه هو في أسبوع، لم ينتبه زوج العمة إلى أن الولد لم تكن علاقته، مع ورق اللعب، طيّبة، وان العمل هو اللهو المفضّل لديه، بل إلى اليوم تفلت من لسان شيخوخته مفردة دالّة على نظرته إلى الحياة ويستخدمها كمرادف حرفيّ لكلمة العمل وهي "التسلية"، كما أن ألذّ ما في شخصه أنه لا يعرف ما معنى "الضجر" الذي يعاني منه، للأسف، كثير من خلق الله. 

الأحد، 25 نوفمبر 2018

فنّ التصوير الفوتوغرافيّ


جاءني ذات يوم طالب اختار موضوع الصورة الشعريّة لرسالة #الماستر، وسألني إن كان يمكن لي أن أمدّه بأسماء مراجع ومصادر لبحثه، فقلت له: اشتر كتابا عن فنّ التصوير الفوتوغرافيّ.
استغرب اقتراحي، وظنّ أنّي أمزح أو أنّي أريد التهرّب من تزويده بعناوين كتب. ولكن لم يكن مقصودي إلاّ لفت نظره إلى مرجع ، أغلب الظنّ، لن يخطر بباله، بخلاف كتب أخرى كثيرة في متناول البال تعالج موضوع الصورة الشعرية.
وأنا مقتنع تمام الاقتناع أنّ قراءته لكتاب عن #التصوير_الفوتوغرافي ستعطيه عيناً جديدة يرى من خلالها الصورة الشعرية من زاوية قد لا يفكّر بها فيضيف إلى بحثه نكهة جديدة.

#الاسم_الخرطوش

استغرب البعض استخدامي لعبارة الاسم الخرطوش في تناول أسماء الأعلام. فالناس اعتادت مثلا عبارة الاسم الفنّي أو الاسم المستعار ولكنها لم تألف عبارة الاسم الخرطوش.
وحين أفصحت عن دلالته كثيرون ابتسموا وراحوا إلى ذاكرتهم يبحثون عن اسمهم الخرطوش أو يستعينون بذاكرة أمهم أو أبيهم.
من باب الحيرة يدلف الاسم الخرطوش الى عالم الواقع الافتراضي، أو عالم الواقع الذي لم يتحقّق.
الحيرة ليست دائمة الحضور مع الابن البكر بخصوص ولده الأوّل، العرف والتقاليد أراحته من همٌ الاختيار، يجيء الاسم هنا قبل الصبي، الاسم ينتظر المسمّى. فالبكر يختار اسم أبيه لابنه الأوّل، الاسم ذكر، النسل الاسميّ كالنسل البيولوجيّ، يتوارث الاسم من جيل إلى جيل، ومصير كلّ اسم أو يستنسخ.
ولكن تبدأ الحيرة مع الولد الثاني أو الثالث ، وقد يشترك أكثر من شخص في البحث عن الاسم: الأم، الأب، الجدّ، الجدة، الخال، العم، بل وأحياناً يدلو الأصدقاء بدلوهم في اقتراح أسماء. فقد ترغب الأم بمنح ابنها اسما ما ولكن الأب يقترح اسما آخر، والانتصار الاسميّ غير محسوم، فقد ينتصر الأب في المعركة الاسمية وقد تنتصر الأم وقد ينهزم الإثنان أمام انتصار الجدّ أو الجدّة.
في الأخير يرسو الأمر على اسم ما، يتحوّل الى اسم رسميّ، وتتوارى الأسماء الأخرى المقترحة عن الأسماع والاستعمال، ولكن قد يكون التواري إلى حين، وقد ينسى الأهل إخبار ابنهم بالأسماء التي كان يمكن أن تكون بديلا عن اسمه، وقد يعلنون له ذلك. 
كلّ هذه الأسماء تظلّ كامنة في ذهن الطفل في حال أخبروه بها، ويحملها معه إلى حين البلوغ والزواج، وقد تتحوّل أسماؤه الخرطوش إلى أسماء مبيضة لأولاده.

طرق التسمية لا تخلو من طرافة ودلالة!

#صدمة_الإنترنت_و_أزمة_المثقفين


#صدمة_الإنترنت_و_أزمة_المثقفين
#أحمد_صالح
#كتاب_الهلال
باغت مجيء الإنترنت عددا من المثقفين الكبار في السنّ وأرعبهم ، زعزع يقينيّاتهم المعرفيّة، وأظهرهم في ساعة غفلة كما لو أنّهم من طبقة الأمٌيين.
سارع البعض إلى ركوب قطار الثورة المعلوماتية، بينما انكفأ بعض آخر، ورفض الركوب في القطار، وبقي متشبّثاً بأهداب الثقافة الورقيّة، لاعناً نسائم المعرفة الرقمية السامّة.

لوحة مفاتيح من مقالات كتاب لعنة بابل تأليف بلال عبد الهادي
















كلّ من يستعمل الكمبيوتر يعرف أنّه لا يمكنه الاستغناء، عمليّاً، عن لوحة المفاتيح، فاللوحة والفأرة بوّابتاه إلى التعامل مع الكمبيوتر. وهنا، سوف أتكلّم على نقطة واحدة، هي تعامل الإنسان العربيّ مع لوحة مفاتيح حاسوبه الشخصيّ، وهي تعبّر، إلى حدّ ما، عن شخصيّة مستعمله وعن موقفه من لغته (الأمّ). فغالباً ما تكون لوحة المفاتيح بالحرفين العربيّ واللاتينيّ، ولكن ثمّة فئة من الناس تشتري لوحة مفاتيح خالية من الحروف العربيّة على اعتبار أنّها لا تحتاج إلى استخدام الحرف العربيّ، وإن اضطرّت للدردشة باللغة العربية فإنّها تعمد إلى استخدام الحرف اللاتينيّ، وأوجدت هذه الفئة حلولاً عمليّة للحروف العربيّة غير الموجودة في اللغة الفرنسيّة أو الإنكليزيّة، فهي تستعمل مثلاً رقم 3 لكتابة حرف العين، ورقم 7 لكتابة حرف الحاء، ورقم 8 لكتابة الغين...إلخ، حتى ولو توفّرت الحروف العربيّة على لوحة مفاتيحهم فإنّ هذه الفئة تستسهل استخدام الحرف اللاتينيّ أو ما يمكن تسميته بـ"الكَرْشوني المودِرْنْ"!.
كنت قد سمعت مرّة أنّ فتاة تحترم خطّها العربيّ وهي تستعمله في دردشاتها الحاسوبيّة مع زميلات لها، فاعترضت إحداهنّ عليها لاستخدامها الحرف العربيّ وليس اللاتينيّ، مظهرةً استغرابها الشديد كونها تعرف تماماً أنّ زميلتها "متحضّرة". وهكذا، بطريقة من الطرق، ربطت زميلة فتاتنا بين الحرف العربيّ والتخلّف. وهذه مسألة، في أيّ حال، وقع فيها كثيرون حتّى من المثقّفين العرب الذين اعتبروا أنّ مرضنا الحضاريّ مرتبط بالحرف العربيّ، ودعوا إلى اختيار الحرف اللاتينيّ حتّى ندخل العصر. كلّ أمّة في لحظة تخلّفها وتضعضعها الحضاريّ تحتار كيف تتعامل مع لغتها المكتوبة، وتخلّفنا العربيّ الراهن يظهر في مجالات مختلفة، ولكنّي أعتقد أنّ تعاملنا مع اللغة معبّر، بشكْل وافٍ، عن تخلّفنا. وهذه المسألة ليست خاصّة بنا نحن العرب فقط. في الصين، مطلع القرن العشرين، فكّر جزء من رجالات النهضة الصينيّة بإلغاء الخطّ الصينيّ واستبداله بالحرف اللاتينيّ معتبرين أنّ جذور التخلّف كامنة في الخطّ.
وهكذا ظنّ أتاتورك فألغى استعمال الحرف العربيّ اعتقاداً منه أنّ إلغاءه هو دخول إلى العصر الحديث من بابه العريض. إيران استطاعت أن تدخل إلى الحداثة مع احتفاظها بالحرف العربيّ، وهذا ما ينسف فكرة أتاتورك. كما أنّ سلامة موسى يقول في مقال له بعنوان: "حاجتنا الحتميّة إلى الحروف اللاتينية" بأنّ علوم العصر سوف تبقى غريبة عنّا ما دمنا متشبّثين بحرفنا العربيّ، وعبارتُه بحرفيّتها تقول:" لن تُسْتَعْرَبَ العلوم إلاّ إذا اسْتَلْتَنَ( أي صار لاتينيّاً) الهجاء العربيّ". وعدد لا بأس به من المفكرين تبنّى وجهة نظر سلامة موسى، ولكنّي اعتبرها وجهة نظر قصيرة النظر، لأنّ التاريخَ ضدّهم، والجغرافيا ضدّهم، والتراث ضدّهم، والأمم التي نهضت من كبواتها الحضارية ضدّهم. اهتمامي بالعربيّة دفعني إلى دراسة لغتين: العبريّة والصينيّة. فأنا من المؤمنين بأنّ اللغة، أيّة لغة، بريئة من التخلّف، وعبارة "لغة متخلّفة" تُخفي شعباً متخلّفاً أو قائلاً متخلّفاً، فاللغة لا تتخلّف بقرار نابع من ذاتها وإنّما بقرار نابع من عُقَدِ شعبها. تعلّمت العبريّة لأنّها لغة سامية ولها مشاكل لا تختلف عن مشاكل اللغة العربيّة والكتابة العربيّة، بل هي أكثر مشاكل بسبب تعدّد الحركات فيها وبسبب أنّها كانت لغة لا يتقنها إلاّ أقلّ القليل وكانت بحكم الميتة، ولكنّ مؤسِّسي الفكرة الصهيونيّة فكّروا في إحياء لغتهم حتّى قبل أن يفكّروا في إنشاء كيان جغرافيّ لهم، معتبرين أنّ اللغة وليس الأرض هي الوطن الأوّل، ولا يمكن لأحد أن يقول إنّ اسرائيل دولة متخلّفة في ميادين العلم والتكنولوجيا واللغة، فهم من أبرع الناس في إيجاد وسائل سريعة لتعليم لغتهم بحكم أنّ العبريّة شرط الاندماج الأوّل في المجتمع الصهيونيّ.
كانت اللغة الثانية التي استهوتني هي اللغة الصينيّة لأسباب منها أنّ مفكّرين صينيين كثيرين اعتبروا تخلّف الصين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كان بسبب الكتابة الصينيّة المعقّدة، ولكنّ الأيّام أظهرت بطلان دعواهم فها هي الصين تتقدّم، اليوم، علْميّاً واقتصاديّاً على أكثر من دولةٍ غربيّة من دون أنْ تتخلّى عن كتابتها التي تمثّل تاريخها واعتزازها. إنّ الشعوب هي التي تختار مواقع لغاتها وليس العكس كما قد يتبادر إلى الذهن الساذَج.
أذكر أنّ درس الخطّ، حين كنت صغيراً، كان جزءاً من التعليم، في المراحل الابتدائيّة، وما زلت أذكر طاولة الصفّ التي كانت تأخذ بعين الاعتبار تأمين مكان ثابت لمحبرة درس الخطّ. فأين نحن اليوم من تعليم الخطّ؟ ونظرة موضوعيّة للأمور تظهر أنّ الخطّ العربيّ من أجمل الخطوط الكتابية وأطْوعها لا يوازيه في ذلك إلاّ الخطّ الصينيّ، ومع هذا فنحن نهمله لأنّنا نهمل أنفسنا، ونهمله لأنّنا نهمل مستقبلنا. اللغة ليست جزءاً من الحاضر ولا جزءاً من الماضي فقط، إنّها صورة عن المستقبل أيضاً.
ألغينا درس الخطّ من حياتنا ومدارسنا، وعليه ألغينا بناء علاقة جماليّة وحميمة مع الحرف العربيّ، وهنا أنهي بعلاقة اليابان ( وهي ليست دولة متخلّفة!) بخطّها، وهي علاقة نموذجيّة، رائعة، تظهر مدى احترام اليابان لخطّها، وتفانيها في خدمته، وتظهر كيف أنّ الخطّ جزء من سياسة الدولة ونظرتها الواعية لذاتها. تقام، في الإمبراطوريّة اليابانيّة، مسابقة خطيّة هي أشبه بمهرجان وطنيّ، مطلع كلّ عام، من الدالّ توقيت المسابقة يوم رأس السنة وهو يوم ليس كسائر الأيّام. يشترك في مسابقة فنّ الخطّ حوالي ثلاثة آلاف مشترك من كلّ الأعمار، في الهواء الطّلْق، في ساحة واسعة الأرجاء، فهنا توحّدهم جميعاً هواية الخطّ، واللوحة التي تفوز بالجائزة لا تكتفي بالمبلغ المرصود لها، فثمّة ما هو أهمّ من المبلغ وأهمّ من الجائزة نفسها هو مكان إقامتها بعد الفوز، تتحوّل اللوحة الفائزة إلى لوحة فنيّة تعلّق في قصر الإمبراطور، وهنا يخطر ببالي كيف أنّ "المعلّقات" الشعريّة الجاهليّة أخذت اسمها من "تعليقها" على جدران الكعبة. ثم إنّ الإمبراطور يقوم بنفسه باستقبال الفائز وتكريمه، ونحن نعرف المقام المقدّس للإمبراطور اليابانيّ في الديانة الشِّنْتويّة (shintō).
لنتخيّل أنّ لبنان يقيم، سنويّاً، مسابقة للخطّ العربيّ برعاية مباشرة من رأس السلطة، ويكون من نصيب لوحة الفائز أنْ تعلّق في القصر الجمهوريّ أو في السراي الكبير أو في البرلمان. وتخيّل لو أنّ كلّ رئيس عربيّ أو أمير أو ملك يقرّر إنشاء هذه المسابقة، هل يبقى احتقارنا للحرف العربيّ كما هو الآن؟ وهل يبقى تفضيل الجيل العربيّ الجديد للحرف اللاتينيّ على الحرْف العربيّ في رسائله القصيرة على الهاتف الجوّال، أو في دردشاته على "الفايسبوك"؟
أختصر مقالي بعبارة:" قلْ لي كيف تتعامل مع خطّ لغتك أقلْ لك من أنت!".

ضريح والدي ياسر عبد الهادي طيّب الله ثراه وذكراه



كيف يفهم العربي الزمن؟


في الحياة تفاعلات بين الأزمنة، فقد تحدد اللحظة التي أنت فيها مستقبلك، ولكن قد يحدد المستقبل اللحظة التي تعيشها الآن.
ما أقوله هو ترجمة حرفية لطريقة حياكة الجملة التي يتلفظ بها المرء.
لآخذ جملة بسيطة " أكلت الفتاة تفاحة".
فإذا نظرنا إلى الجملة نجد ان فعل أكل ينتهي بتاء، هل كان بإمكان التاء أن تخرج من فمي لو أن #الفاعل ذكر وليس أنثى؟
الفتاة بالنسبة للتاء هي المستقبل، حين تكونت التاء في فمي كانت الفتاة لا تزال في رحم المستقبل، من فرض على التاء الحضور؟ مستقبل القول لا حاضر القول.
المستقبل لا يتحكم فقط في الحاضر ولكنه يتحكم ايضا بالماضي وبالماضي السحيق؟
الانسان هو لحظة راهنة بين لحظتين ، ويتوق الى زمنين، واكتشاف زمنين، زمن ماض انتهى دون ان تنتهي مفاعيله، وزمن آت لم تنته ايضا مفاعيله.
نفكر كثيرا في تأمين #المستقبل، ولكن نادرا ما يدخل في التفكير " تأمين الماضي" رغم جبروت الماضي وعتوّه.
ومن المستحبّ تأمين الماضي وترويضه أيضاً.
قلت ما قلت من وحي صيغة #الماضي " أكلت" في الجملة أعلاه التي حدّدها ورسم حدودها الفاعل المنتظر لفعل الأكل!
وعليه يمكن من دراسة أنماط الجمل العربية البسيطة والمركبة وبما فيها من تقديم وتأخير وتشابك زمني تبيان طريقة الفكر العربي في عملية رؤيته للزمن، وفي طريقة تجواله في الأزمان.
بأي زمن تربطنا لغتنا أكثر ؟
بالزمن الذي غبر أم بالزمن الذي لم يطلّ برأسه بعد؟
ولعلّ هذا النمط من الدرس للجملة العربية يفتح لنا مجالا أو يمنحنا فرصة رسم خارطة طريق التفكير العربي

وهم الثبات


القاعدة الوحيدة الثابتة في هذا العالم هي عدم وجود شيء ثابت.
كلّ شيء يتغيّر ، يتحرك كما مياه الأنهار.
اليقين ملاذ غير آمن، ملاذ خدّاع.
وفي العربية قول شائع أو مفردة تقال في المفرد والجمع وتدرج في صيغة سؤال: كيف الحال؟ أو كيف الأحوال؟

( ومن طريف أمر هذه الكلمة أنّها unisex ، فبإمكانك ان تقول : هذا الحال، وبإمكانك أن تقول : هذه الحال).

مشكلة المفردات أنها تكون حجابا يخفي .
كلمة حال تعني عدم الثبات بل استحالته ولكن بشكل خفيّ.
وفي العربية نربط الحال بالآنيّ عبر قول مأثور: بقاء الحال من المحال. وهذا طبيعي جدا. فالحال فيها رائحة التحولات المستمرة من خلال ذلك الرابط المتين على صعيد الجذر.
ومن الطريف في هذا الجذر ( ح و ل) وجود حرف علّة فيه، فحرف العلة متحول بطبعه، لا يثبت على شكل واحد.
فالألف تصير واوا أو ياء.
ث تبادل أدوار دائم بين حروف العلة، وتحول بحسب المقام.
والحال كالطقس، وفي العربية ايضا نقول: نلبس لكل حال لبوسها.
وحين قلت الحال كالطقس، إنما كنت أسلط الضوء على عبارة " أحوال الطقس"، وكل طقس يفرض لباسه أو لبوسه، فليس من الطبيعي لباس معطف فرو بدل المايوه في عزّ الصيف لممارسة هواية السباحة من حيث المبدأ مثلا!
الثبات وهم، والانسان يستكين لهذا اليقين الموهوم لأنّه مريح كما تريح " العادات والتقاليد"، ومن فرط ولعنا بالثبات أنتجنا مثلا سقيما هو " يللي بغيّر عادتو بتقل سعادتو" مثل يغري بالكسل ، يغري بالسير في الطرق المطروقة ويحذّر من اكتشاف طرق جديدة، طرق جديدة تقلّص من حجم سعادتك.
والسعادة مطلب، ولكن السعادة هنا سعادة مشروطة أو سعادة تحيط بها أسلاك شائكة .
ما أقوله هنا هو تفصيل آخر على فكرة كتبتها في مقال سابق بعنوان " الإسلام والجمود".
وأنا أعرف أن الإسلام بخلاف المسلمين متحرّك ، جوّال في الأمكنة والأزمان.
وكنت أحكي مع صديقي العزيز الدكتور الشيخ حسام سباط فأخبرني أنه من المستحب في الصلاة أن يغيّر المرء مكان صلاة النوافل أو السنة عن مكان صلاة الفرض في المسجد كدليل على ولع الإسلام بالحركة. وهذه النقطة شديدة الرمزية والدلالة.
الحركة بركة ليس فقط حركة الأجساد وإنما أيضا حركة الأفكار.
والأفكار كالماء إذا سكنت أسنت.

#بلال_عبد_الهادي

مقابلة عن مطعم الدنون والحمص والفول



مديح القلق



تعجبني هذه الكتب التي تنظر إلى النواحي الإيجابيّة التي يمكن للمرء أن يستخرجها ممّا يظنّه لا يحمل إلاّ المضارّ أو المفاسد. 
أذكر أنّي كنت ذات يوم أتكلّم على الخوف، وحسناته، ومنافعه، وضرورته لحفظ النوع، فاستغربت امرأة في مقتبل العمر كلامي، وكانت أمّاً لطفل صغير، فقلت لها: ألا تخافين على ابنك؟
قالت : أكيد.
قلت لها: خوفك هذا هو ما يحتاجه ابنك ليعيش. الخوف حارس أمين.
ولم يكن قولي عن حسنات الخوف ومآثره إنكارا للناحية السلبية منه. وهذا الكتاب يتناول منافع القلق، ودوره في توليد الأفكار، وإبداع أشياء كثيرة.
والكاتب ألن واتس متأثّر بالبوذيّة ومن وحي تأثره بالبوذية والكونفوشيّة كتب هذا الكتاب.
أحبّ الإشارة إلى أن العرب القدامى برعوا في هذا النوع من الكتابة.

لوجه ما لا يلزم ترجمة لكتاب الإيطالي #نوتشيو_أوردينه.



لوجه ما لا يلزم
ترجمة لكتاب الإيطالي #نوتشيو_أوردينه.
صدر حديثاً عن دار الجديد، وسبق لي أن قرأته مترجما إلى اللغة الفرنسيّة .
عنوان الكتاب في الإيطالية 
L’utilità dell’inutile
وهو نفسه في الترجمة الفرنسية
L’utilité de l’inutile
وقد استوقفني عنوانه الفرنسيّ لسبب جوهري هو أن هذا العنوان يكاد يكون ترجمة حرفية لقول صينيّ ورد على لسان الفيلسوف الصيني #تشوانغ_تزه، وهو فيلسوف عاش قبل الفين وأربعمائة سنة، إذ يقول أهمّ من معرفتك منفعة ما ينفع هو معرفتك منفعة ما لا ينفع. وكتابه مدهش، يخرق العقول على قولة العكبريّ في بعض أبيات #المتنبي.
والكتاب الإيطالي إضافة حلوة إلى المكتبة العربيّة.

صورة شعرية


جاءني ذات يوم طالب اختار موضوع الصورة الشعريّة لرسالة #الماستر، وسألني إن كان يمكن لي أن أمدّه بأسماء مراجع ومصادر لبحثه، فقلت له: اشتر كتابا عن فنّ التصوير الفوتوغرافيّ.
استغرب اقتراحي، وظنّ أنّي أمزح أو أنّي أريد التهرّب من تزويده بعناوين كتب. ولكن لم يكن مقصودي إلاّ لفت نظره إلى مرجع ، أغلب الظنّ، لن يخطر بباله، بخلاف كتب أخرى كثيرة تتناول موضوع الصورة الشعرية.
وأنا مقتنع تمام الاقتناع أنّ قراءته لكتاب عن #التصوير_الفوتوغرافي ستعطيه عيناً جديدة يرى من خلالها الصورة الشعرية من زاوية قد لا يفكّر بها فيضيف إلى بحثه نكهة جديدة.

ياسر عبد الهادي صاحب مطعم الدنون

ياسر عبد الهادي صاحب مطعم الدنون

مصير كتاب


مصير كلّ كتاب جيّد أن يتفتت إلى شذرات وشواهد واقتباسات.
تفتيت الكتاب عزّ له!
والأمثلة أكثر من أن تحصى، يمكن الحصول على الأمثلة من النصوص المقدسة: توراة، إنجيل، قرآن، كتاب الموتى، حوليات كونفوشيوس، تعاليم بوذا، ومن كتب الفلسفة، وكتب الطبّ( الشفاء لابن سينا)، ومن كتب النثر ( حيوان الجاحظ)، ومن الشعر ( الشواهد الشعرية)، ومن الأقوال المأثورة والأمثال السائرة، ومن الروايات والقصص والمسرحيات( أكون أو لا أكون مثلا شذرة من مسرحية شكسبيريّة).
النصوص الكبيرة يمدّها تشظّيها بالعمر الطويل، فقد يأخذك شاهد من عدّة كلمات إلى الاهتمام بأصل الشاهد وفصله وقراءة رواية كرمى لعبارة قصيرة.

كوب ماء


للمرء قدرة على أن يرى في الأشياء ما ليس فيها، ويولّد لها وظيفة لم تكن من صلب مهامّها.
وثمة مشهد لا يزال عالقا في ذاكرتي منذ ما يقرب من نصف قرن، كنت صغيرا دون العاشرة من العمر، وكنت مع عائلتي في البرّية ، فلفت نظري سلوك رجل مع اولاده الصغار حيث لم يكن الماء في متناول افواه الصغار ولم يكن معه لا كوب ولا اي وعاء لتوصيل المياه الى شفاههم العطشى. راحت عيناه تتجوّلان في الأشياء المحيطة به فعثر على ورقة، ولكنه لم يرها كما هي، رآها كوبا، تناولها وبلمح البصر حوّلها الى قمع وملأها بالماء وراح أبناؤه ينهلون فرحين بهذا الكوب الغريب الذي روى ظمأهم.
لم ير الورقة ورقة فصارت ما رآها ، شيئا مغايرا لوظيفتها.

السبت، 24 نوفمبر 2018

مقاطع من سيرة حياة أبي / #ياسر_عبد_الهادي

مقاطع من سيرة حياة أبي / #ياسر_عبد_الهادي





لا تربطني بأبي صلة القرابة وحدها. ثمّة شيء آخر، يجعله أكثر من أب، وهو بساطته، طيبته، ايمانه الرحيب، سخاؤه الكتوم، نظره الثاقب والبعيد، حدسه المرهف، ولعه بالحياة، ولعه بالأرض العطوف، حبّه لشجرة الزيتون المباركة، يؤلمه وجع غصن، أو تنهيدة حبّة مريضة. رغبته الفيّاضة بالمعرفة، نفوره العارم من إضاعة الوقت، براغماتيته الفطرية اللينة، والعفوية، تفاؤله البنّاء، طريقته المبتكرة في ايجاد حلول بسيطة وعملية لأمور معقدة، طموحه الفذّ الذي لا يحرمه من الشعور بالقناعة الخلاّقة، استغرق وقته في هوايات ليست عاقراً أو عقيماً، عزّة نفسه الخفيّة، عينه الشبعانة في حالتي فقره وغناه. تعامله النبيل والمرهف مع الطبيعة، تفانيه في ما يقوم به، طريقته في التجارة حيث يهتم بإتقانها أكثر مما يهتمّ بمردودها الماديّ، خجله الذي لا يكشفه من لا يعرفه.
اشياء كثيرة في ابي تدفعني الى أن أراه شيئا آخر غير الأب.
احيانا اسائل نفسي: هل حبي له هو حبّ أب لابنه أم حب ابن لأبيه؟
قلت له في رسالة، حين كنت مقيماً في فرنسا، : " يا والدي من فرط حبّي لك أظنّك ابني، بل ابني الوحيد"، الا يقال لا أحد يحبّ أحدا على ابنائه؟ أشعر انني اكسر القاعدة، أبي اوّلا وبعده الآخرون من ابناء وغير ابناء.
حياتك يا والدي نعمة في حياتي.
من فضائله ان عالمه عمله. وان عمله علّمه أشياء كثيرة هو الذي لم يعرف المدرسة استخرج من أفواه الناس ابجديّة العربية وراح يقرأ، بمفرده، وراح ينسخ بيده حكايات ومواضيع حتى يقبض على الحرف العصيّ، فصار قارئا أكثر من كثيرين يفخرون بشهادات ثمنها حفنة من المال المغسول. أبي يقرأ اكثر من كثيرين يعرفون القراءة ولكنّهم لا يعرفون بناء علاقة سوية ونقيّة مع الحرف.
عينه شبعانة منذ صغره هو الذي عانى في طفولته اليتم والحرمان من أمّ تعطف عليه، فأمّه ليست أكثرمن طيف في مخيّلة طفولته لأنها انتقلت إلى بارئها قبل أن يعرف فمه الصغير التلفّظ بكلمة " ماما"، وهي من الكلمات التي لم يعايشها، وإلى اليوم حين يسمع طفلا ينده لأمه " ماما " تمتلكه مشاعرالرحمة والحسرة والحنين إلى مفردة لم يعرفها فمه، ولم تعرف رنّتها الآسرة أذناه. حرمانه من أمّه جعل مشاعر الأمومة تفيض من روحه وسلوكه فتعرف من نظراته الحانية، الودود، ما معنى "الأب الرؤوم"، لكأنّه قرّر في طويّة روحه حين رحلت أن تستمرّ على قيد الحياة في لحمه ودمه وحنوّه الأخّاذ.
ليتني أب كأبي. و"ليت" تُدخل، أغلب الأحيان، الأشياء في حيّز المستحيل والامتناع.
أبي كتابي المفضّل، الكتاب البسيط، السهل الممتنع، الممتع الذي وانا اتصفحه أشعر اني اتصفح كتاب سرّ النجاح وسرّ الفرح.
أبي قدري الجميل، وقدري النبيل.
أحاول جاهداً، بكلّ طاقتي، أن أكون أحسن منك، يا حبيب القلب، فقط لأجلب إلى قلبك البهيّ المسرّة.الا يقال ان فرحة الأب لا تكتمل الا بتفوّق الابناء عليه، اليس هذا سرّ الحياة، وسنة الله في خلقه؟
مدّ الله في شيخوختك الجميلة، الوديعة، والممتلئة حكمة ونعمة، شيخوختك الفتيّة ليستمرّ، في الدنيا، سعدي.
لعلّ أجمل ما في حياتي أني عشت في زمن أبي.
أبي ليتني أنت.
**********

الموت حقّ مرّ يا حبيبي، وستبقى مرارته في روحي إلى أن أبلّ نظري برؤيتك في عليين.
إلى الملتقى يا عاشق العمل النبيل، والشغوف بالعمل النبيل.

مقاطع من سيرة حياة أبي ياسر عبد الهادي


أشياء تعلّمتها من والدي (تغمّده الله برحمته الواسعة)
كنت قد نشرتها قبل رحيله الجارح.

عشت طوال عمري خارج #الأحزاب، ولم يبقَ، بالتأكيد، من #العمر أكثر ممّا مضى، ولن ألوّث ما تبقّى من العمر بأيّ انتماء سياسيّ. انتمائي الوحيد هو للكتب. 
لإن تعلّمت من #والدي شيئاً فهو أن أحبّ مهنتي، وأقضي العمر في الاهتمام بمهنتي.
ومن حسنات #والدي الكبرى أنّه لم يدخل بيت زعيم أو نصف زعيم أو ثلث زعيم أو ربع زعيم ولم تُلوّث يداه بتصفيق لأيّ زعيم.
عاش - رحمه البارىء تعالى- لنا ولثلاث حبّات: حبّة #الحمّص، وحبّة #الفول، وحبّة #الزيتون.
وإن كنت أضع بين وقت وآخر صورة #الحمص والفول ، فذلك لأنّي أرى في كل حبّة #حمّص وجه أبي، وفي كل حبّة #فول إخلاص أبي لعمله.
حبّة حمّص واحدة تعادل عندي كلّ #زعماء هذا البلد، وأفضل أن أعيش في ظلالها على أن أتسكع في بلاط فلان أو علان.
ومع كلّ كلمة أكتبها أتذكّر فضل #الحمص والفول على كلماتي، وعلى أسلوبي في #الكتابة.
أحببت في والدي البساطة، والطيبة، وحبّ العمل بشغف.
أحببت في والدي علاقته مع شجرة الزيتون، ولم أر أحدا يتعامل مع شجرة الزيتون بحنان، وحبّ، ويتعامل معها كما لو أنها إنسان يحب، ويفرح، ويحزن!
وأحبّ والدي حبّة الزيتون كرمى لعيني الحمّص والفول، ومن أجل تأمين زيت زيتون ليكون جزءا لا يتجزّا من مذاق الحمّص والفول الذي كان يحضره بأناقة ومهارة وجمال. ولم يخطر بباله أن يحتقر طبق الحمص أو الفول ويشوّه مذاقه بزيت لم يخرج من أحشاء حبّة الزيتون كما يفعل كثيرون.
فكان يرافق حبّة الزيتون من الغصن إلى المعصرة.
رحلت يا حبيبي في موسم قطاف الزيتون، موسم كان يأخذ وقتك صباحاً في القطف، وليلاً في المعصرة لتتأمّل كيف ينسكب الذهب السائل من حبّات الزيتون.

أبجدية أبي ياسر عبد الهادي


كنت أكتب مقتطفات من حياة والدي تغمّده الله برحمته على شكل مقالات دون تصريح باسمه، ( الفتى في المقال كان أبي) إذ لم تكن الغاية الحديث عنه، وإنّما نشر فكرة فيها شيء من الحكمة.
وهذا المقال الذي نشرته ذات يوم تحت عنوان عين عنترة كان عن تعلّمه للقراءة والكتابة وهو في العشرين من عمره ، وكان لا يعرف إلاّ الألفباء.
كانت الألفباء لا غير هي زوّادته الثقافية إلى ذلك الحين.
ومن باب اسم عنترة بكلّ معنى الكلمة دخل إلى عالم القراءة ثمّ انفتن بها ، وصار يشتري مجلّة الصيّاد في أيّام عزّها، وكانت هي المجلّة الأولى التي تعرّفت عليها وأنا صغير.
كان جهاده في سبيل محو أمّيته بثمابة درس لمن وهن منه عزم أو خارت منه قوّة.

عشت في باريس حوالي اثنتي عشرة سنة، من حسنات هذه الأيّام أنّي ربحت رسائل كان يكتبها لي، ويحكي لي فيها بعض أحواله وأحلامه.
هذا نصّ المقال:

#عين_عنترة

للحكواتيّ، في غابر الأيام، مجد في أغلب الدول العربيّة. كان يجمع في مؤثّرات صوته وحركات شخصه السينما والتلفزيون والراديو والفيديو. لم يكن لمقهى الآنترنت، فيما مضى، وجود ولكنْ كان ثمّة مقهى الحكواتيّ، ينتظره الرجال في السهرات بعد أن ينفضوا أياديهم من الأعمال. ويتركون، حين يبدأ حكواتيّ السهرة بالكلام، العنان لآذانهم وخيالاتهم. كان الحكواتيّ يعرف كيف يوقف أنفاس المستمعين ويقعدهم على أعصابهم إذ يتوقّف تدفّق الأحداث من فمه في لحظة حرجة من القصّة كأنْ يكون عنترة في الأسر، ولا يفكّ الحكواتيّ عقدة لسانه وأغلال عنترة إلاّ في اليوم التالي تاركاً حسرة في آذان روّاد المقهى. وكان من جملة المستمعين شابّ في العشرين من عمره تقريباً لم تسمح له ظروف الجهل العائليّ أن يدخل المدرسة.

تيسّر للشابّ من جني أعماله المتفرّقة البسيطة أن يجمع شيئاً من المال ساعده في فتح محلّ سمانة. وفي هذه المهنة شيء من الدين، وليس للذاكرة أمان. وحتّى لا يضيع حقّه أو ينسى ما له وما عليه، قرّر أن يتعلم القراءة والكتابة. كان يعرف أشكال الحروف الحرّة. وفي العربية إتقان الأحرف يحتاج إلى بعض البراعة لأنّها ذات مزاج متقلّب، فالحرف تتعدّد صوره وفقاً لظروف الموضع الذي هو فيه، فصورة العين في أوّل الكلمة غير صورتها في وسط الكلمة وغيرها في آخر الكلمة. وبعض الحروف تتّصل مع حرف آخرَ من طرفيها (كالتاء) في حين أنّ بعضها الآخر لا يقبل الاتصّال إلاّ في أوّله(كالراء). ولا ريب في أنّ تعدّد الأشكال دالّ حضاريّ يستحقّ التدبّر إذ يُستشفّ من ورائه نمط من التفكير خاصّ.

كيف لهذا الشابّ أن يتعامل مع كلمات لم يعتد التعامل معها طوال عمره؟ والعلم في الكبر كالنقش في رمل البحر! ولكن الفتى اعتمد على ذاكرته السمعية (أستاذه الوحيد)، وعلى زوّادته من الأحرف وعلى "استراتيجية التخمين". كان من حسن حظّ الشابّ أنّ الحكواتيّ، حين تنفضّ السهرة، يبقي، بحكم الجيرة، الكتاب عنده لليوم التالي، فكان ينتهز أوقات فراغه، أو الفترة الفاصلة بين زبون وآخر، ليفتح الكتاب على الصفحة التي ابتدأ منها الحكواتيّ، ويروح يتحزّر الكلمات، كلّ كلمة تبدأ بحرف العين هي اسم عنترة حتى إشعار آخر، وكلّ شين هي شيبوب شقيق عنترة ومساعده في الأزمات .

من خلال هذه الكلمات الضئيلة كان يحاول ان يستعيد كلام الحكواتيّ المكتوب، يحاول ان يطابق ما بين محتويات ذاكرته وما هو مدرج في سطور السيرة، يعدّل اسماً هنا واسماً هناك. ومع الوقت، امتلك زمام القراءة عن طريق الأسماء التي تعجّ بها السيرة. والأسماء في العربيّة وسيلة ناجعة لتعلّم القراءة، بخلاف الأسماء الفرنسيّة مثلاً التي لا يتطابق دائماً صوت الاسم فيها مع حروفه.

وراح الشابّ لإتقان الكتابة، ومن ثمّ تيسير عمله، ينسخ الكلمات التي يقرأها. وهو لا يزال إلى اليوم يقرأ، بل ويكتب في دفتر يوميّاته طرائف الذكريات.

اشتغل عنده مرّة شخص أمّيّ، لا يعني له عالم القراءة والكتابة شيئاً على الإطلاق، وكان هذا العامل يسرّ جدّاً بأنّه يستعين، في الضرورات، ببصمة إبهامه. كانت فرحة هذا العامل بلطخة الحبر على إصبعه تعادل فرحة طفل بلعبة جديدة، يعتبرها إنجازاً خارقاً ليس في متناول أيّ إبهام. تأفف السمّان، من لطخة الحبر، وقرّر تعليم العامل توقيع اسمه، على الأقلّ، فكتبه له على ورقة ثمّ وضع فوقها أخرى شفّافة وطلب منه تمرير القلم وتحديق صورة الاسم إلاّ أنّ العامل خاف أنْ يخسر إبهامه دوره وقيمته في البصم. فكان يأخذ القلم شمالاً ويميناً، ويخربش كالدجاج، رافضاً تبيان ملامح اسمه. وتيقّن السمّان أنّ الجهل رغبة، وأنّ العلم رغبة، وما رمي أسباب الجهل على ظهر الظروف التي قد تكون بريئة أحياناً إلاّ من قبيل الافتراء الخبيث على الحياة.

#بلال_عبد_الهادي

شكر على تعزيز بوفاة والدي رحمه الله ياسر عبد الهادي


‎أشكر من أعماق قلبي وروحي كلّ من قدم لي ولعائلتي العزاء سواء كان ذلك بحضور شخصي او عبر مواقع التواصل الاجتماعي او عبر الاتصال الهاتفي بوفاة والدي الحبيب .
شكر الله سعيكم ، وإنّا لله وإنّا اليه راجعون.
سنّة الحياة لا تكتمل إلاّ بالموت الذي تنهزم اللذّة على يديه.
وما أوجع تلك العبارة التي كانت ترد في نهايات الحكايات القديمة، وهي:
( هادم اللذات ومفرّق الجماعات).
فسبحان الحيّ الذي لا يموت.

ولدي سدير مع والدي ياسر عبد الهادي



حماك الله يا ولدي، وفرحة لي أن تسير على خطى جدّك.
وأنت تعرف يا سدير انّ جدّك كان مدرسة في الكفاح والطموح ومكارم الأخلاق.

والكلمة أدناه هي الكلمة التي كتبها سدير.

You taught me that nothing is impossible. You can learn to write without going to school. You can start by selling streetfood, and end up founding one of the most delicious restaurants in town. You can be one the most loving beings, without having the opportunity to receive love from your mom for long. You can be successful and hardworking, and at the same time selfless, humble and caring. If I were to name a role model, you would definitely be mine.
I will miss you, and I will work hard to make you proud.

بحبك ⁦❤️⁩

#شجرة_وبال_فاضي // مقاطع من حياة ابي ياسر عبد الهادي


كنت أتلقّف الحكايات من بطون الكتب وأفواه الناس، كلّ الناس. لا يخلو فم من حكمة مخبّأة بين شفتيه.
كما كنت أتلقّف الحكايات من سلوك الناس، وأعمالهم. فالسلوك كلمات وجمل ونصوص.ولعلّ هذا ما كان يدفعني إلى الولع بكتب الأعلام وسير من تركوا أثراً جميلاً .
الكتابة شكل من أشكال الذكر، وهنا سأضع تلك الحكاية التي حدثت مع والدي وكان في العشرينيّات يوم طوفة النهر.
طوفة النهر تاريخ في طرابلس، تاريخ سيّال بالحزن والعبر.
والحكاية التي سأسردها هي حكاية نظرة أبي طريقة أبي في استخدام عينيه.
كنت قد كتبتها منسوبة إلى شخص مجهول، أمّا اليوم وبعد أن غادرنا إلى عالم الغيب، أعيد نسبتها إليه.
تغمّد الله روحك العالية والغالية بواسع رحمته يا أحبّ الناس إلى روحي.

#شجرة_وبال_فاضي

الحياة "وجهة" نظر.

إنّ وجهة النظر أو بالأحرى كيفيّة استخدام النظر تغيّر من معنى المنظور إليه، وتفصح في الوقت نفسه عن أعماق الناظر، " قل لي ماذا ترى أقل لك من أنت"، فالنظر يلعب دور هويّة المرء إذ يكشف لنا الاحتمالات المنتظرة ( والفعل، بدوره، مأخوذ من النظر)، والعرب القدامى كانوا، لدقّة ملاحظة عيونهم، يطلقون عبارة " أهل النظر" على العلماء وأهل الفكر و"الرأي".

من الناس من يجمّد الأشياء عن طريق حبسها في وجهة نظر واحدة، أي أنّه يمسخها ويقزّمها بسبب تقليص الوظائف المحتملة لهذا الشيء أو ذاك إلى الحدود الدنيا، ومنهم من يمنحها حيوية الأحياء، ويتركها تمارس احتمالاتها المفتوحة ليختار الاحتمال الأنقى والأبقى.

ولا ريب في أنّ تطلعات الإنسان تساهم في تشكيل نظرته إلى الأشياء وتحديد ملامح مصيره. فهويّة الإنسان العميقة تكتبها تطلّعاته التي تضطرب في تلافيف فكره وتضاعيف روحه.

تطلّعات اليوم هي، أغلب الأحيان، يوميّات الغد، والمقصود بالتطلعات أحلام المرء الذاتية، تلك التي لا تنكسر أو تيأس، ولا تقول إنّ الظروف لم تسمح لي بتحقيق أحلامي. إذ من خصائص التطلّعات الذكيّة أنها تمتلك حكمة النهر في تعامله مع مجراه. لا يقدر ظرف من الظروف على منع النهر من تحقيق وصاله مع البحر، لأنه يملك في مجراه ليونة الأفعى والتعرّج الدالّ والبراغماتيّ، ولأنّه يمارس سياسة اللين مع ظروفه ذات المزاج المتعدّد والمتقلّب، والمتغيّر كجلد الحرباء. كنت قد قرأت منذ فترة حكمة صينية عن الماء تقول: " الماء يستسلم للسكين ولكنّه يظلّ معصوماً عن الجروح" بسبب ما تمتلكه طبيعته من لين سيّال.

ولكن حكمة النهر وليونته لا تعني أنّه لا يغضب ولا تعني أنّه لا يجنّ جنونه، ويفقد السيطرة على أعصابه المائية في لحظة طيش أو نزق، ويتحوّل إلى طوفان كذلك الذي حصل، منذ أكثر من خمسين عاما، لنهر" أبو علي" الذي يبدو اليوم وديعاً كساقية مبحوحة الخرير.

ولنهر "أبو علي" قصة واقعيّة طريفة مع شجرة ليمون أيام الطوفة، تكشف عن أثر وجهة النظر في رسم واقع الأشخاص والمتوقّع منهم. وكبار السن أبناء السويقة وباب الحديد يعرفون غضبة "ابو علي"، ولا تزال، الى اليوم، ذكراه، في أي حال، على حيطان منطقة "المنكوبين" الرطبة التي أنجبها جنونه.

تعود القصة التي أودّ سردها إلى حوار جرى بين صديقين، وحّد بينهما الفقر، والجوع، والأميّة، وشيء من اليتم وما قد يستتبعه ذلك من تشرّد . تداعب كلاّ منهما أحلام لا تتعدى سنّ المراهقة، إلاّ أنّ مرمى أحلامهما لم يكن واحداً، واختلاف مرامي الأحلام يؤدّي إلى تمايز المصائر وتباينها، فالأوّل عثر على شجرة ليمون كان غضب النهر قد اقتلعها من تربتها وقذف بها إلى وسط المدينة، فاعتبرها من جملة النفع الذي يأتي به الضرر، غير أنّ ذلك الشخص لم ير في الشجرة إلاّ حطباً، علماً أنّ الشجرة ليست، بالضرورة، حطباً. فهي قابلة، كقلب شيخ الصوفيين ابن عربيّ، كلّ صورة. سأله صديقه وهو يراه يكابد بقامته الصغيرة في جرّها: إلى أين تذهب بها؟ أجاب: إلى الفرن. حاول صديقه إقناعه بتغيير وجهته فقط عن طريق تغيير وجهة النظر في شجرة الليمون، ولفت نظره إلى إمكانية الذهاب إلى المنشرة بدلاً من الفرن، لأنّ في تغيير الوجهة تحسيناً لقيمتها ولسعرها، فالفرن لا يحسن التعامل مع الخشب كما تحسنه المنشرة التي تقدّر إمكانيات الشجر، ولا تحبّ أن ترى الغنى رماداً، بالإمكان في المنشرة - قال الفتى- تحويلها إلى أجران متعدّدة الأحجام ومدقّات وأحجار "داما" لللاعبين، وراح ذلك الفتى يعدّد لصديقه الطاقات والاحتمالات العفيّة الكامنة في الخشب، لأنّ الشجرة في عين الفرن رماد، وفي عين المنشرة عجينة. فما كان من صاحب الشجرة إلاّ أنّ هزّ رأسه هازئاً من صديقه ومن " بالو الفاضي"، وتابع طريقه إلى الفرن. ومن الطريف اتهام من يفكّر، في بلادنا، بـ"فضاوة البال"! الحياة لا تتوقّف، والفَتَيانِ كبرا، نظرتهما للشجرة كانت نظرتهما للحياة نفسها. عرف الـ" بالو فاضي" كيف ينسلّ مع تطلّعاته من الفقر انسلال الشعرة من العجين، وأصبح عمله علامة تجاريّة، بينما صاحبه لا يزال يكتوي في شيخوخته بنار الفقر. واستطاع فتى المنشرة بـ"بالو الفاضي" بل بفضل "بالو الفاضي" أنْ يتعلّم فكّ الحرف وتركيبه بمجهوده الفرديّ رغم أنّه لم يعرف باب المدرسة في حين أنّ صاحبه بقي يشعر بغربة حارقة مع الحرف، ولا يحسن استخدام الحبر إلاّ لطبع بصماته.

وجهة النظر، لا غير، هي التي فرقت بين الطرفين، وجعلت الشجرة الواحدة شجرتين: شجرة قابلة للتصنيع، وأخرى مصيرها بيت النار.

تذكّرني شجرة الليمون بشجرة أرز فقدت روحها وكادت تفقد جثمانها العريق إلاّ أنّ الفنّان رودي رحمة لم يطاوعه قلبه في رؤية خشب الأرز حطباً أو خشباً بلا روح فعمد إلى تحويلها منحوتة شامخة وارفة الجمال والجلال تلفت نظر الصاعدين إلى قمم الأرز بروحها الفنية والفتية المتوثّبة.

للكاتب البريطانيّ الشهير برنارد شو عبارة ليست غريبة عن سياق المقال، يقول فيها:" اذكروا دائماً أنّ تصرفاتنا ومسالكنا في الحياة لا تتأثّر بالتجارب التي مررنا بها، وإنّما بالتطلّعات التي نصبو إليها".

ويفترض بالتطلعات، فيما أظن، أنّ تكون نظراً إلى الأعلى احتراماً، في الأقلّ، لدلالة جذرها السامي "ط. ل.ع." الذي خرجت من رحمه مفردة " التطلّعات"، ومفردة أخرى، لا نقيم لها، على ما يبدو، وزناً كبيراً، هي الـ"مطالعة".

#بلال_ياسر_عبد_الهادي

ورقة من روزنامة // مقاطع من سيرة أبي ياسر عبد الهادي





غريب أمر الدنيا، وغريب أمر المشاعر، وغريب توقيت المصادفات.
كنت أفتّش عن الأشياء التي أبقاها أبي، والأشياء قصص وحكايات وأفكار، فوقعت عيني على ورقة روزنامة مطويّة ويحتفظ أبي بها في درجه بجانب سريره، فكانت كلمة " الصبر المحمود" هي أوّل ما وقع عليه نظري، فظننت لوهلة أنّه احتفظ بها لكلامها على الصبر، وليس أي صبر ، بل ذلك الموصوف بالمحمود، واستوقفتني كلمة محمود لدلالتها المباشرة ولكن انتبهت إلى أنّه كتب بخطّ يده المبارك، خطّه المميّز الذي أعرفه من بين ملايين الخطوط ، هو الذي تعلّم الكتابة والقراءة دون مساعدة أحد إلاّ رغبته المنبثقة من نفسه.
كتب في أسفل الصفحة بالخطّ الأحمر : توفي أخي الجمعة ٢٣ تمّوز ١٩٩٩.
وفي الوجه الأوّل من الصفحة وضع ملاحظة من كلمتين :" كان الثالث".
فاكتسبت كلمة محمود معنى ثانياً، معنى روحيّاً وأخويّاً، إذ كان عمّي رحمه الله اسمه محمود، المعروف بالحاج #محمود_دنّون، وهو عمّي البكر، بينما أبي كان الأصغر بين أشقائه، وكان يكنّ لأخيه البكر محبّة خاصّة، فقد حضنه صغيراً، واهتمّ به صغيراً، ولعمّي حكايات مع والدي رحمهما الله، قد أروي فصولاً منها.
رحت أقرأ بتمهّل كلمات الروزنامة فوجدت في الكثير منها بعض صفات أبي.

#الصبر_المحمود

"ليس الصبر المحمود الممدوح أن يكون جلَد الإنسان وقاحاً على الضرب، أو رجله قويّة على المشي، أو بدنه قويّاً على العمل، فإنّ هذه الصفات تشترك بها جميع المخلوقات، ولكن أن يكون للنفس غلوبا، وللأمور محتملا، وفي الضرّاء متجمّلا، ولنفسه عند الحفاظ مرتبطا، وللحزم مؤثرا، وللهوى مجانبا، وللمشقة التي يرجو عاقبتها مستخفًا، وعلى مجاهدة الأهواء والشهوات مواظبا، ولبصيرته بعزمه منفذّاً".

ورقة روزنامة من أواخر القرن الماضي، بقيت في درج أبي حوالي عقدين من الزمن، عن الصبر المترفّع، والانسانيّ بامتياز.

كان أبي يستهويه ما يكتب على قفا صفحة الروزنامة من حكم أو معلومات، وفي جيبه كان يحتفظ بتلك التي تروق له.
ولكن هذه الورقة كانت أكثر من ورقة، كانت ذكرى ، وكانت برّاً، وكانت حكمة، وكانت تحكي عن الصبر الذي رافقه في أواخر أيامه.
رحمة الله عليك يا من كنت بمقام بؤبؤ العين، وعلى عمّي محمود، وعلى سائر إخوتك من صبيان : مصطفى وبشير ونظير ، ومن بنات: شهرزاد ويسرا، وأمدّ الله عمّتي الحبيبة رهيفة بالعافية ، وهي آخر عنقود العمّات والأعمام



قرد حراسة من حكايات ابي ياسر عبد الهادي


هذه حكاية كنت قد سمعتها من والدي رحمه الله، أحببت إدراجها.

والحكاية كأيّ نصّ حمّالة وجوه ودلالات!

#قرد_حراسة

من المعروف أنّه حين تضاف كلمة " حراسة " إلى حيوان ما فإنّ الذهن يذهب أوّل ما يذهب إلى استحضار الكلب. فعبارة " كلب حراسة " ليست غريبة على السَّمْع حتّى باستخداماتها المجازيّة. أما الحيوانات الأخرى فليس من عاداتها تأدية مهمّة الحرّاس لدى الآدميين. ولا أعرف لماذا أتذكّر، هنا، فيلماً للأطفال عرض منذ عشر سنوات تقريباً في صالات السينما اللبنانية شاهدته برفقة ابنتي الصغيرة، كان بطله الرئيسيّ خنزيراً ينوب مناب الكلب في حراسة خراف أحد الرعاة، ويشارك الخنزير في مسابقة تقام في القرية عن أفضل كلب حراسة فينال الجائزة الأولى وسط تصفيق الرعيان وإعجابهم ببراعة الخنزير الذي تطبّع بطباع الكلاب!
ولكن ما أتناوله اليوم هو حكاية قرد قام بدور حارس دكّان. ولقد أخبرني هذه الحكاية صيّاد حكايات طاعن في السنّ وطاعن، أيضاً، في الخبرة. لم يسبق أن وقع نظري من قبلُ على نصّ يحكيها. تقول الحكاية إنّ أحد الباعة يملك قرداً، وكان بينه وبين قرده خبز وملح وعِشْرة عمر. كان هذا البائع يضطرّ أحياناً لمغادرة دُكّانه فوجد أنّه من الممكن تعليم القرد حراسة الدكّان في غيابه بدلاً من أن يغلقه وصار البائع يغادر الدُكّان ويتركه في عهدة القرد.
انتبه، ذات يوم، أحد اللصوص إلى وجود القرد بمفرده في المحلّ، واللصّ أحياناً لا يكون على عجلة من أمره، فالعجلة- كما يعرف اللصّ وغير اللصّ- من الشيطان. راح اللصّ، على مدى بضعة أيّام، يراقب صاحب المحل ليعرف مواعيد مغادرته، والمدّة التي يستغرقها الغياب، ثم اختار الفترة الأطول التي يغيب فيها البائع عن محلّه لتكون مسرح عملية السطو التي يخطّط لها، وفي الوقت المحدّد دخل ذلك اللصّ بوجه بشوش يقطر طيبةً ومحبةً وبساطةً حتّى ليظنّ من يراه أنّه من أولياء الله الصالحين. ابتسم اللصّ في وجه القرد ابتسامات تنمّ عن ودّ. وكلّنا يعرف ولع القرود في التقليد، فما كان من ذلك القرد إلاّ أن بادل اللصّ ابتساماً بابتسام، ثمّ سرعان ما بدأ ذلك الرجل بالتثاؤب ( والتثاؤب، كبعض الأمراض، يُعْدي) وراح القرد بدوره يتثاءب، وكان التثاؤب ينبت من بين ابتسامتين تخرجان من وجه اللص كلّه، ثمّ بدأت فترات الابتسام بالتقلّص وفترات التثاؤب بالازدياد. ظلّ الرجل يتثاءب والقرد يتثاءب إلى أن تشتّتت يقظة القرد ونسي أنّه يقلّد ذلك الرجل مجرّد تقليد لا غير. شعر القرد أنّ النعاس بدأ يدبّ في جفنيه وما هي إلاّ هنيهات حتى غلبه النوم واستغرق في سبات عميق، نام كأيّ جسد ميت من النعاس. وعلى رؤوس أصابع قدميه تقدّم اللصّ إلى دُرْج المال وسحب ما سحب ثم انسحب كالشعرة من العجين بلا حسّ ولا خبر.
عاد الرجل إلى محلّه وهو مطمئنّ لأنّه تركه برعاية عين أمينة لا يغمض لها طرْف وما إن وصل إلى الدكّان حتى رأى القرد في عالم آخر غير العالم الذي تركه فيه. وانتبه إلى دُرْج " الغلّة " المفتوح. هجم البائع على القرد وراح يضربه والقرد يقفز قفزاته المعروفة هرباً من ذلك الضَّرْب الذي لم يعرفْ له سبباً، فاليقظة المباغتة تتخلى عنها ذاكرتها ولو للحظات. وحين استعاد القرد ذاكرته ويقظته مرّ أمام عينيه شريط الأحداث التي سبقت النوم، وتألّم القرد لما أصاب صاحبه من خسارة كان هو مسبّبها.
تعلّم القرد من علامات الضرب على جلده أن لا ينام وأن لا يسمح لأحد أن يلعب بعينيه. مرّت الأيام ونسي الرجل مصابه و" عادت حليمة إلى عادتها القديمة " كما يقول المثل، أي عاد الرجل إلى ترك محلّه لفترات في عهْدة القرد.
استمرأ اللصّ فكرة تنويم القرد. فعاد مرّة ثانية إلى المحلّ بمقدّماته المعسولة إيّاها من ابتسام وبشاشة وجه ثمّ بدأ بإدراج تثاؤباته في طيّ ابتساماته وراح القرد بحكم التقليد يبادل اللصّ تثاؤباً بتثاؤب وابتساماً بابتسام وتذبيل عينين بتذبيل عينين وما إن مرّ وقت حتّى بدأ التثاؤب يأخذ مفعوله ولكن هذه المرّة في جفني اللصّ الذي نسي دوره اللصوصيّ وغلبه النعاس حتى سطا عليه سلطان النوم. القرد، فيما يبدو، لا يلدغ من جحْر مرتين! راح يتأمّل اللصّ النائم بعينين يقظتين من بعيد. لم يهجمْ عليه أو ينتقم منه، تركه يسترسل في نومه ومنامه.
تفاجأ الرجل حين رجع إلى دكّانه بوجود ذلك الرجل المستغرق في النوم ولكنْ عرف من إشارات القرْد أنّه الرجل الذي كان وراء مصيبته في المرّة السابقة. صحا الرجل من نومه مذعوراً إثر ضربات فجّة كانت تنهال عليه وهو لا يعرف إنْ كان في علم أمْ في حلم أو بالأحرى في كابوس لو لم يرَ القرد وقهقهاته المجلجلة وضربات يديه التي ترنّ على صدره من فرح له نكْهة الشماتة ومذاق الانتقام.

سندويشة زعتر // مقاطع من سيرة ياسر عبد الهادي






تفتنني سيرة أبي كما تفتنني بساطته العميقة الشبيهة بالسهل الممتنع.
عاش يتيم الأم، وكان دون الخامسة من العمر، ونزل إلى سوق العمل بكلّ معنى الكلمة وهو في هذا العمر الطريّ.
ولكن الآن سأحكي عن نقطة واحدة، هي #سندويشة_الطفولة.
كان ينظر دائما إلى من هو دونه لا إلى من هو فوقه، ويعرف أنّ الله أنعم عليه نعماً كثيرة.
كان فقيرا معدما، يضطر أحيانا أن يأكل شندويشة زعتر بلا زيت لعدم توفر الزيت في البيت، يرشّ الزعتر فوق الرغيف ثمّ يرشّ قليلا من الماء فوق الزعتر بدل الزيت، ليستسيغ بلعها ولكنّه كان يقارن شندويشته بشندويشة شخص آخر هي عبارة عن رغيف حاف بلا زعتر وبلا زيت.
كان يفكّر بشيء واحد هو تلبية رغبات طموحه الذاتية، طموحات صغيره بحجم عمره.
أعطاه الله بسخاء ومع هذا لم يغيّر نظرته الأولى، ولم ينسَ للحظة طبقته التي أنجبته.
ظلّ يقارن نفسه بمن هو دونه لا بمن هو فوقه.
لم تكن الشكوى من عاداته أو طبعه.
عرف بطنه في طفولته الجوع ، ولكن عينه لم تعرف الجوع أبدا.
سندويشة الزعتر برشّة الماء بدلاً من رشّة الزيت، كانت محرّكه للعمل، وسبب بناء علاقة حميمة جدّاً له مع شجرة الزيتون، وأذكر أول قطعة أرض زيتون اشتراها في مجدليا، وكيف راح يعتني بها شجرة شجرة، وغصنا غصنا، ثمّ راح يقتني أمتار الزيتون إلى أن صار في بعض المرار يفوق محصول أراضيه الخمسمائة تنكة زيت، جزء منها يوزّعه لوجه الله، والفقراء.
وصارت شجرات الزيتون التي أعطاها والدي رحمه الله الكثير من وقته، وعنايته، حتّى كان خبراء الزيتون يعرفون قطعة أرضه لفرط تمايزها عن غيرها عناية واهتماما، إذ كان يكشط عن وجه تربتها الأحمر الحشيش كما لو أنّه لا يريد أن يعكّر صفو شجراته شيئٌ، وكم أسعده أن تلبّي شجراته حاجات المطعم من الزيت والزيتون.
ومن غرائب الأقدار أنّه غادر الفانية مع موسم قطاف الزيتون.
في كلّ حبّة زيتون أرى وجه والدي، وفي عروق شجرة الزيتون أرى عروق يد أبي.
وفي قطرات الزيتون أرى لمعات عرق جبين والدي.
وهنا مناسبة لشكر الجمعية التعاونية لمزارعي #زيتون_طرابلس، التي فاجأتنا بطباعة نعوة باسمها لوالدي رحمه الله، وكانت قد كرّمته منذ سنتين بدرع تكريميّ .

حبّي وأبي مقاطع من سيرة ياسر عبد الهادي



طلّة #سوسن لفتت نظري منذ السنة الجامعيّة الأولى. ولكن بقي إعجابي بها طيّ القلب. فالوقت ، في السنة الأولى، كان ضيّقاً، لأنّه موزّع بين #المطعم والمحاضرات فقط، أمّا المساء، بعد الانتهاء من #المحاضرات والمطعم، أكرّسه للقراءة. كنت أشعر أنّه عليّ أن أقرأ كثيرا، وكلما أكثرت من القراءة شعرت أنّي لا ازال على الشاطىء.
من متع العلم أنّه يزيدك معرفة بجهلك، يرسم لك المناطق الشاسعة التي لا تزال أشبه بقارة مجهولة.
وما إن أنهيت تقديم موادّ الامتحان في السنة الأولى، غادرت إلى #باريس، لأتقوّى بالفرنسيّة، وأتعرّف على العاصمة التي كنت قد قرّرت أن تكون المكان الذي أريد أن أنجز فيها رسالة الدكتوراه. ففي ذلك الوقت كنت أعشق #طه_حسين، والتهم كتبه كلّها، واحدا واحدا، وصفحة صفحة، وقرّرت أن أسير على خطاه، وأقعد في الجامعة نفسها التي نال منها الدكتوراه. 
أمضيت ثلاثة أشهر في باريس، أتعلّم الفرنسية في معهد لتعليم الفرنسيّة، ووضعت قاعدة لنفسي أن أقرأ يومياً ما لا يقلّ عن خمسين صفحة فرنسيّة مع فتح القاموس لمعرفة كل كلمة لا أعرفها، ثم وضع قاموس خاصّ بي بكل الكلمات الجديدة التي اكتسبها . 
فلا بدّ من الفرنسيّة لسببين: الأوّل هو أنّه كان عليّ أن انجح بمادتين فرنسيتين ومادة الترجمة لأتمّكن من نيل #الليسانس بالعربيّ. أي كانت الفرنسية بوّابة الدخول الى العربيّة، والسبب الثاني هو أنّي كنت قد عقدت العزم على نيل الدكتوراه من السوربون.
انتهى فصل الصيف، وعدت الى الجامعة لأتابع السنة الثانية، وهنا كانت اللغة الفرنسيّة رفيقاً لي طوال دراستي للغة العربيّة. كنت أشعر أنّه يجب عليّ التمكن من الفرنسية تمكني من العربية، فسنوات باريس بالانتظار. فكنت أشتري كتباً فرنسيّة مترجمة من العربية أو تتكلّم عن الأدب العربي ككتاب بلاشير عن #المتنبي أو قصص لنجيب محفوظ مترجمة الى الفرنسية، أو كتب فرنسية لها ترجمات عربيّة، وهكذا.
السنة الثانية كانت بداية تعرفي على سوسن التي صارت شريكة حياتي العاطفية والمهنيّة فيما بعد.
كانت زميلتي في الدراسة، وتوطّدت علاقتنا الى ان انتهت في السنة الرابعة بمشروع زواج . 
ولكن كيف يتمّ الزواج ، ومشروعي الذهاب الى باريس للحصول على #الدكتوراه. القلب يبلبل المشاريع والأحلام والأفكار. هل أتركها تنتظرني وأذهب بمفردي، هل تذهب معي؟ 
فترة من الزمن تبلبلت مشاعري ومشاريعي. كنت طالباً، ليس في يدي عمل، وما كنت أفكّر أن ألتحق بسلك التعليم المدرسي. كانت الجامعة هي طموحي، كنت أحلم أن أكون أستاذا في الجامعة مثل طه حسين تماما. كان مثلي الأعلى، بكفاحه، ونضاله، وانتصاره على عماه. الكفاح يأسرني، تحدّي الصعاب يسحرني. كنت أشعر كما لو أنّ طه حسين هو والدي الروحيّ، وحين أعود إلى ما كنت أكتبه في ذلك الحين ألمس محاولاتي في محاكاة أسلوب طه حسين رحمه الله بجمله المميّزه ومفرداته الصائتة والمصاحبات اللغوية التي كانت ترافق كلماته بموسيقاها المرنانة. اشتريت في ذلك الوقت مجموعته الكاملة، بعد أن كانت كتبه عندي متفرّقة، ورحت أقرأها مرّة ومرّة، مؤلفاته الأدبية والإسلامية وترجماته للمسرحيات الكلاسيكية. كنت أحسّ كما لو أن صوته ينبع من تضاعيف الكلمات المكتوبة.
فاتحت والدتي بموضوع حبي لسوسن، ولم أجرؤ على مفاتحة والدي رحمه الله، فأحاديث القلب للأمّ، ثمّ فاتحت والدتي أبي بموضوع حبي لسوسن.
وهنا كانت المفاجأة غير المتوقّعة، لقد وافق والدي على أن يزوّجني ممّن اختارها قلبي، ويتعهّد بتسفيري إلى باريس لمتابعة دراستي، وأن ترافقني أيضا سوسن لتتابع معي الدكتوراه، على نفقته الخاصّة، وهكذا التزم بتعليمي وتعليم زوجتي من جيبه.
انهارت الليرة خلال وجودي في باريس، وجاء رفيق الحريري رحمه الله بقروضه، فقدّمت طلب قرض لي بنيّة أن أخفّف عن كاهل والدي العبء المادّي، ولكن اعترض والدي على ذلك، ورفض أن أتقدّم بطلب قرض من #رفيق_الحريريّ قائلاً لي: فليتقدّم بطلب قرض المحتاجون، فدع فكرة القرض جانباً، ولا تحمل همّ التكاليف.
لم أكن أعرف الدافع الذي جعل والدي يوافق على تزويجي مع تحمّل الإنفاق عليّ وعلى زوجتي؟
ولكن حين عدت أنا وسوسن إلى لبنان بعد حصولنا على الدكتوراه، أنا في علم اللغة الحديث، وهي في الفكر الإسلامي. واستقرّ بنا المقام في لبنان. عرفت سبب سلوكه الفيّاض. 
لقد قال في نفسه: إن ذهب #بلال بمفرده فهناك احتمال أن يتعرّف على فتاة فرنسيّة، وقد يتزوّجها، وإن تزوّج من فرنسيّة فقد لا يعود، الاحتمال وارد. ولكن إن تزوّج من طرابلسيّة فإن آخرته مهما طال الزمن هي #طرابلس.
وتحقّق ما راهن عليه والدي، فها أنا ، اليوم، في طرابلس، بعد أن أمضيت في فرنسا اثنتي عشرة سنة، اشتغلت خلالها أنا وسوسن في الصحافة فصرنا نكتب في مجموعة من المجلات الصادرة في باريس ولندن، واشتغلنا إلى جانب الدراسة في السفارة الأردنيّة.

قال: خسرت مالاً، والمال الذاهب في التعليم ليس خسارة في نهاية المطاف، بل هو استثمار، وقد ربحت ابني. وربحت عودة ابني، وكان أبي يفرح بحبّي للعلم، ويبارك محبتي هذه، وكان حبّي له يدفعني إلى مزيد من حبّ العلم. كنت أعتبر حبّي للمعرفة يشبه برّ الوالدين.

وكثيراً ما كان يسحرني والدي ببعد نظره الصاقب والصائب، وتقليب الأمور والنظر في المسائل من شتّى وجوهها.

وها أنا ، اليوم، يا حبيبي في مدينتي طرابلس كما أنت رسمت وخطّطت، ولا أنكر فضلك عليّ وعلى زوجتي، كما لا تنكر سوسن فضلك وفيض محبتك.
رحمة الله تتنزّل عليك، يا والدي الغالي في مقامك العالي، مع كل مشرق شمس ومغيب.
طيّب الله ثراك، كما طيّب الله مسراك.
وروحك الفاضلة ستبقى تسري في حبر كلماتي ونبض أوقاتي.
Sawsan Alabtah

مقاطع من سيرة ياسر عبد الهادي


كثيراً ما كنت أستوحي أشياء من سلوك أبي وشخصيته في مقالاتي والحكايات التي كنت أنشرها دون الإتيان على ذكر اسمه، أشياء من كهولته أو صباه أو طفولته ، ففي هذا المقطع من مقال نشرته في كتابي #لعنة_بابل بعنوان : في ملعب اللغة تحدّثت عن ( رجل مسنّ) خلال جزء من المقال، ولم يكن ما كتبته عن ذلك الرجل المسنّ إلاّ بعض ملامح أبي:

" كنت قد قرأت نصّاً لناسك بوذيّ يقول فيه: " من يملك ناصية فنّ الحياة لا يفرق كثيراً بين عمله ولعبه، بين كدحه وفراغه، بين عقله وبدنه، بين تعليمه واستجمامه، لا يكاد يعرف هذا من ذاك، انه ببساطة يتبع رؤيته للتفوّق في أيّ شيء يفعله، تاركاً للآخرين أن يقرّروا ما إذا كان يعمل أو يلعب، أمّا هو فانّه دائماً يفعل كليهما". ولقد استوقفتني في النصّ هذه المهارة الفائقة في محو الحدود بين اللعب والعمل، ولا شكّ في أن النظر إلى العمل على أنّه ضرب من اللعب محاولة بارعة للتعامل معه برحابة صدر. وليس ذلك البوذيّ وحده من كان لا يفرق بين اللعب والعمل، بل إني أعرف رجلاً مسنّاً طوى ثلاثة أرباع القرن من عمره وهو لا يزال يستخدم عبارة "تسلية" قاصداً بها لحظات العمل الجادّ والمثمر الذي يقوم به".
وكان أبي تغمّده الله برحمته الواسعة على هيئة ذلك الناسك البوذيّ وكانت تدهشني طريقته في استخدام كلمة " تسلية" ومشتقاتها في مواطن الأعمال التي تتطلّب شيئاً من المشقّة .

#أبي_والأرزّ_بالحليب// مقاطع من سيرة حياة أبي ياسر عبد الهادي



المآكل بنت الأوقات. ولكن ثمّة مآكل عابرة للأوقات والفصول والقارات. تتمرّد على الصيف والشتاء، وتدير ظهرها للخريف والربيع، ولا تبالي بالانقسامات الدينية او العرقية او الجنسية. 
والمآكل كالكلمات ترتفع أسهم بعضها في بورصة الاستعمال، في ظرف ما، ثمّ تنخفض في زمن آخر. الثبات وهم، وهم مريح للنفس والأعصاب، يظنّه الناس راسخا كالجبال الرواسي ولكن في لحظة انكشاف يبدو كثيباً مذرورا.
هكذا أمر الأكل لدى كلّ الشعوب فديك الحبش مثلا في عيد الشكر في أميركا هو بمثابة الخروف في عيد الأضحى( فلقد قرأت ان أميركا تستهلك خمسين مليون ديك حبش في يوم الشكر)..
هذه الخاطرة هي بنت صورة أبي وهو يبيع الرز بحليب، وبعض ذكرياتي عن أبي، الذكريات المطبخية، وكان أبي طبّاخاً ماهراً، وما الحمّص والفول إلاّ الظاهر من مهارات أبي طيّب الله ثراه.
ولم يأت ، بعد، وقت الكلام عن الحمّص والفول وأبي.
عادات الناس في الطعام تستحقّ أن تروى، فالطعام هو دين ودنيا وألوان وعلاقات ومفاهيم وايديولوجيات وميتولوجيات، انظر الى الطعام الأبيض ومناسبات الإكثار منه في الأيّام البيض، وطريقة الناس في التعامل معها. هناك مآكل تتصل اتصالا روحيا مع العالم الديني. ويكفي للمرء التجوال في عالم المآكل الرمضانية.

الصيام يغيّر مصير مهن كثيرة، ومنها مصير باعة الحمّص والفول في طرابلس القديمة، فكلامي هنا عن منطقة السويقة في طرابلس قبل منتصف القرن الماضي، أو خلال منتصف القرن الماضي. كان لوالدي مطعم صغير على مدخل الجسر الذي التهمته طوفة نهر أبو علي. وعرفت مكانه وشكل الجسر من صور قديمة عثرت عليها في بعض مواقع التواصل. كان خلال شهر الصيام يتوقّف بيع الحمّص والفول خلال النهار، وينشط قبل الإفطار ، ولكنه نشاط محدود، فتتغير أعمال أبي، يسهر الليل في تحضير كاسات الأرزّ بالحليب وجاطات الأرز بالحليب لبيعها خلال السحور. كان نفس أبي على الطعام طيّباً ، ويده خضراء، وهذا بشهادة من اعتاد الأكل من يديه، تبقى - كانت - طعمة الأرزّ بحليب تحت أسنان من يأكلها، وكثيراً ما التقي بكبار في السنّ فيذكرون لي المذاق المميّز الذي ذاقوا طعمته من يد أبي.
الأرزّ بالحليب فرصة لمن يحبّ الغشّ، فالحليب ساتر العورات، ( يستر على الماء المضاف إليه لتكثيره) ولكن والدي، كان يكره أن تتشوّه طعمة الحليب بهذا الغشّ الممجوج، فيحافظ على دسامته كما هي. وكان وجه أبي مرزوقا، ولكن كان يؤمن بقيمة ما يعمل أيا كان، ويحترم الأشياء التي يتعامل بها أو معها، ويدخل شغفه كمكوّن من مكوّنات أعماله، ويسخو على مكوّنات الأشياء من وقته وجهده وحبّه. 
انقطعت علاقة أبي مع بيع الأرزّ بالحليب بعد انتقاله في العام ١٩٥٩ إلى شارع #جبران_خليل_جبران القريب من شارع عزمي، والمعروف باسم شارع #المطران أو #ساحة_الكيّال والذي يناديه البعض بشارع #الدنّون بحكم وجود المحل في هذا الشارع. ولكن لم تنقطع علاقته مع تحضير الأرز بالحليب في البيت .
هوايته في صنع الحلو كان يمارسها في البيت، من حلاوة الأرزّ، إلى حلاوة الجبن، إلى المهلّبيّة أو الهيطليّة، إلى زنود الستّ، إلى هريسة اللوز، الى السمسميّة، والعبيدية، وأقراص المعمول بالجوز أو التمر ( السيوا)، أو الغريبة بفلقة الفستق التي تزيّن وجهها والتي كان عرك عجينتها يتطلب دقّة خاصّة ، لتنفخ وتقرمش كالكعك الهشّ، ويصنع جبنة الحلّوم.
أيّام صناعة أبي لبيع الأرزّ بالحليب كانت قبل مولدي ، ولكني عرفتها من مرويّات أبي، وتحضيره لها في البيت.
ما أعرفه أن عدوى حبّ تحضير الطعام ورثتها من والدي، فخلال إقامتي في باريس، كنت أصنع معمول الجوز والتمر والهريسة والعبيدية والسمسيّة وغيرها من الحلويات.
ولا أنسى كيف أنّ نفسي راودتني في التسجيل في معهد للطبخ في باريس بعد أن أنهيت رسالتي للدكتوراه. ولا أزال الى اليوم أقرأ أي كتاب يقع بين يديّ عن ثقافة الطعام وعلاقتها في تشكيل الحضارات، وفي كتابي #لعنة_بابل مجموعة من المقالات عن علاقة الأدب بالمآدب والطعام، وعن علاقة الكلام بالطعام.
فالطعام لغة كاملة الأوصاف لها نحوها وصرفها ومعجمها وتراكيبها ومستواياتها.
وهل يختلف تحضير طبق عن تحضير نصّ أو معنى الكلمة عن معنى اللقمة؟
وهل مكوّنات النصّ غير شكل من أشكال مكوّنات طبخة؟
وكثيراً ما استنجد بابن جنّي في نظريته عن الاشتقاق والتقليبات الصوتية لأصل إلى تلك العلاقة الحميمة القائمة بين " خ ط ب" و " ط ب خ". و " أ د ب " بفرعيه: الأدب والمأدبة.
علاقتي مع المطبخ هي تجلٍّ من تجلّيات علاقتي بوالدي، وحبّي لمؤلفات كلود ليفي استروس الفيلسوف البنيوي عن الطعام : أصل آداب المائدة، من العسل إلى الرماد، النيء والمطبوخ، إنّما هو شكل من أشكال حبّي لأبي، تغمّده الله برحمته الواسعة، وأمدّ ذكراه العطرة بالعمر المديد، إلى ما بعد فناء جسدي.

** يظهر في الصورة الى يسار أبي ابن أخته #سهيل_الحسن ( أبو علي الحسن) الله يعطيه الصحّة وطولة العمر المعروف أيضا بالدنون وهو صاحب مطعم الحمّص والفول في طلعة أبي سمرا، القلعة، وهو ابن عمتي ، وزوج بنت عمّي الحاج محمود الدنّون رحمه الل

مقطع من طفولة أبي ياسر عبد الهادي صاحب مطعم الدنون



كان في الرابعة من عمره حين غادرت أمه هذه الفانية. الشعور باليتم يرافق اليتيم حتّى آخر لحظة من شيخوخته( من أواخر الكلمات التي ردّدها في آخر أيّامه : يا أمّي) ، كانت عبارة تكسر قلبي.
روى لي هذه الحادثة حين كان في الثامنة من العمر تقريبا.
الحكاية تعود الى زمن كانت السيارات فيه قليلة، وكانت الأحصنة والبغال والحمير لا تزال من وسائل المواصلات.
كان يحمل " قرطلاً/ سلّة من قشّ" ، ويروح يلمّ زبل البغال والحمير والأحصنة المتناثر في الطرقات ثم يبيعها لأصحاب البساتين الليمون الذين يحتاجون للزبل كفيتامين وسماد قبل زمن السماد الكيماوي.
رآه ذات يوم أخوه البكر وكان مع صديق له، فغضب الأخ وهو يرى شقيقه الصغير منهكما في هذا العمل، وأراد أن يعاقب أخاه الصغير، ولكن رفيقه قال له: دعْه، هذا ولد سيكون غنيّا في كبره.
لم تخب نظرة صديق الأخ البكر.
استطاع هذا الفتى #اليتيم ان يتعلّم من الشارع وزبل الأحصنة والبغال والحمير كيف يغيّر مصيره، ويحقّق فيما بعد أحلامه ويعيش في رخاء ماديّ.
من مميّزات هذا الفتى انه كان " طُلَعَة"، وفي عينيه لمعة التساؤل، وانّه قال لنفسه وهو في طفولته: لن أشتغل عند أحد، سأعمل في الأشغال الحرّة.
روى لي انه حين كان في الثالثة عشرة من العمر وظّف في عمله من يساعده في عمله وكانوا أكبر منه سنّاً، وقال : أن أوظِّف خير من أن أتوظّف.

وجهة نظرك للأمور هي التي تحدّد مصيرك.

كلماتك خارطة طريق حياتك.

هذا الفتى كان أبي رحمه الله.
وكلمات أبي كانت خارطة طريقه الى حياة مفعمة بالعمل والتفاؤل رغم قساوة الدنيا على طفولته.

في الصورة أبي والقلم وحفيدة ابنته #ليانا_الصمد