الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

أسئلة

ليس هناك انسان لا تجول في رأسه، يوميا، اسئلة كثيرة. ليقل انه سيختار سؤالا واحدا من هذه الأسئلة وليبحث له عن اجابة بمساعدة غوغل. سيجد ان سؤاله الواحد يحمل آلاف الأجوبة يعرضها عليه غوغل برحابة صدر. وقد يخطر بباله وهو يتجوّل في الأجوبة جواب لم يخطر ببال غوغل على غنى احتمالاته. الإبحار في غوغل تجعلك تشعر احيانا انك بحّار ككريستوف كولومبوس تجوس ديارا وجزرا ما كان يخطر لك انها موجودة على خارطة الافكار. ( البحر ليس بعيدا عن الانترنت ألا نقول: الابحار في فضاء النت؟) تتراكم مع الوقت في ذاكرتك أجوبة جديدة، غير مستعملة، أجوبة تحمل بصمتك، وتحمل رائحتك أنت. جواب غير مستورد. كان الخليل بن أحمد الفراهيدي رضوان الله عليه يعطي تعريفا جميلا وعميقا للإنسان، كان يقول: الإنسان سؤول عقول.

هذا ما يقوله فقيه الاندلس ابن حزم عن اللغة العربيّة في كتابه الاحكام في اصول الاحكام


في كيفية ظهور اللغات أعن التوقيف ؟ أم عن إصطلاح ؟

  • قال أبو محمد: أكثر الناس في هذا، والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف من الله عز وجل بحجة سمع وبرهان ضروري. فأما السمع فقول الله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .

وأما الضروري بالبرهان : فهو أن الكلام لو كان اصطلاحاً لما جاز أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم ، وتدربت عقولهم ، وتمت علومهم ، ووقفوا على الأشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها ، واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جداً يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره .

إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته. ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لا بد لهم منه، فيما يقوم معايشهم من حرث أو ماشية أو غراس، ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع ، ويعاني به الأمراض ، ولا بد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك.

وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرنا من امتناع الفهم والاحتياج إلى كافل، والاصطلاح يقتضي وقتاً لم يكن موجوداً قبله، لأنه عمل المصطلحين، وكل عمل لا بد من أن يكون له أو فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليه، فهذا من الممتنع المحال ضرورة.

  • قال أبو محمد: وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة حدوث النوع الإنساني، ومن أدلة وجود الواحد الخالق الأول تبارك وتعالى، ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام ، والكلام حروف مؤلفة، والتأليف فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك ، وكل فعل فعله فله زمان ابتدىء فيه ، لأن الفعل حركة تعدها المدد ، فصح أن لهذا التأليف أولاً ، والإنسان لا يوجد دونه. وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة، فصح أن للمحدث محدثاً بخلافة، وصح أن ما علم من ذلك مما هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه.

ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى.

  • قال أبو محمد: وأيضاً فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها.

أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها. وذلك الاتفاق على فهم تلك الإشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الأشياء وطبائعها التي عبّر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم.

لا بد من ذلك. فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام.

ولم يبق إلا أن يقول قائل: إن الكلام فعل الطبيعة.

  • قال أبو محمد: وهذا يبطل ببرهان ضروري. وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلاً واحداً لا أفعالاً مختلفة، وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى. وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط، وهو أن قال: إن الأماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها.
  • قال أبو محمد: وهذا محال ممتنع ، لأنه لو كانت اللغات على ما توجبه طبائع الأمكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها طبعه. وهذا يرى بالعيان بطلانه لأن كل مكان في الأغلب قد دخلت فيه لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم.

فبطل ما قالوا: وأيضاً فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء.

ومن كابر في هذا، فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل، لا بد له من أحد هذين الوجهين. فصح أنه توقيف من أمر الله عز وجل وتعليم منه تعالى.

إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها، بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها ، ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولاً ، إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها، وأبينها عبارة ، وأقلها إشكالاً، وأشدها اختصاراً وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فهذا التأكيد يرفع الإشكال ويقطع الشغب فيما قلنا.

وقد قال قوم : هي السريانية وقال قوم: هي اليونانية: وقال قوم: هي العبرانية. وقال قوم : هي العربية. والله أعلم .

إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقيناً أن السريانية والعبرانية والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حِمْيَر ، لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي ، وإذا رام نغمة أهل القيروان ، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي، ومن الخراساني إذا رام نغمتها. ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة.

وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلاً لا يخفى على من تأمله.

ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلاً وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق.

فنجدهم يقولون في العنب : العينب وفي السوط أسطوط . وفي ثلاثة دنانير ثلثدا .

وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة .

وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمداً إذا أراد أن يقول محمداً .

ومثل هذا كثير .

فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم .

وأنها لغة واحدة في الأصل . وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معاً ، والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده ، والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده .

والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم.

فالسريانية أصل لهما وقد قال قوم : إن اليونانية أبسط اللغات .

ولعل هذا إنما هو الآن فإن اللغة يسقط أكثرها. ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم ، فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم .

وأما من تلفت دولتهم ، وغلب عليهم عدوهم ، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر ، وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم ، ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم ، هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل ضرورة .

ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام في أقل منها ينسى جميع اللغة .

فكيف تفلت أكثرها ، والله تعالى اعلم .

ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولاً ، ولا ندري لعل قائلاً يقول : لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت بالجملة أو لعلها إحدى اللغات الباقية لا نعلمها بعينها ، وهذا هو الذي توجبه الضرورة ولا بد مما لا يمكن سواه أصلاً ، وقد يمكن أن يكون الله تعالى وقف آدم عليه السلام على جميع اللغات التي ينطق بها الناس كلهم الآن .

ولعلها كانت حينئذ لغة واحدة مترادفة الأسماء على المسميات ثم صارت لغات كثيرة ، إذ توزعها بنوه بعد ذلك ، وهذا هو الأظهر عندنا والأقرب ، إلا أننا لا نقطع على هذا كما نقطع على أنه لا بد من لغة واحدة وقف الله تعالى عليها ، ولكن هذا هو الأغلب عندنا ، نعني أن الله تعالى وقف على جميع هذه اللغات المنطوق بها ، وإنما ظننا هذا لأننا لا ندري أي سبب دعا الناس ولهم لغة يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لغة أخرى ، وعظيم التعب في ذلك لغير معنى ، ومثل هذا من الفضول لا يتفرع له عاقل بوجه من الوجوه ، فإن وجد ذلك فمن فارع فضولي سيىء الاختيار، مشتغل بما لا فائدة فيه عما يعينه ، وعما هو آكد عليه من أمور معاده ، ومصالح دنياه ولذاته وسائر العلوم النافعة .

ثم من له بطاعة أهل بلده له في ترك لغتهم والكلام باللغة التي عمل لهم ، ولكنا لسنا نجعل ذلك محالا ممتنعاً بل نقول : إنه ممكن بعيد جدًّا ، فإن قالوا : لعل ملكاً كانت في مملكته لغات شتى فجمع لهم لغة يتفاهمون بها كلهم ، قلنا لهم : هذا ضد وضع اللغات الكثيرة ، بل هو جمع اللغات على لغة واحدة ، ثم نقول : وما الذي كان يدعو هذا الملك إلى هذه الكلفة الباردة الصعبة الثقيلة التي لا تفيد شيئاً ؟ وكان أسهل له أن يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه فكان أخفّ وأمكن من إحداث لغة مستأنفة، وعلم ذلك عند الله عز وجل. وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات.

وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة ، وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة؛ ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة ، وقد قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وقال تعالى : {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .

فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه لا لغير ذلك ، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال : إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع .

  • قال أبو محمد: وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق.

وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى.

  • قال أبو محمد: وهذا لا معنى له ، لأن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه.

وقال تعالى : {إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقال تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ } فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه .

وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور، وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية ، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية ، فتساوت اللغات في هذا تساوياً واحداً .

وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والاجماع ، ولا نص ولا إجماع في ذلك ، إلا أنه لا بد لهم من لغة يتكلمون بها ولا يخلو ذلك من أحد ثلاثة أوجه ولا رابع لها : إما أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات ، القائمة بيننا الآن ، وإما أن تكون لهم لغة غير جميع هذا اللغات ، وإما أن تكون لهم لغات شتى : لكن هذه المحاورة التي وصفها الله تعالى توجب القطع بأنهم يتفاهمون بلغة إما بالعربية المختلفة في القرآن عنهم، أو بغيرها مما الله تعالى أعلم به.

وقد ادعى بعضهم أن اللغة العربية هي لغتهم ، واحتج بقول الله عز وجل: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }

فقلت له: فقل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } ولأنهم قالوا: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } ولأنهم قالوا : {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فقال لي: نعم ، فقلت له : فاقض أن موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام كانت لغتهم العربية ، لأن كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربية ، فإن قلت هذا كذبت ربك ، وكذبك ربك في قوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .

فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم ، ليبين لنا عز وجل فقط ، وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح ، ولا حسن في بعضها دون بعض ، وهي تلك بأعيانها في كل لغة ، فبطلت هذه الدعاوى الزائغة الهجينة ، وبالله تعالى التوفيق .

وقد أدى هذا الوسواس العامي ، اليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية ، وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية فلا يكتبون عليهم غيرها ، وفي هذا من السخف ما ترى وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل .

الأحد، 28 أكتوبر 2018

في مطعم الدنون



 ‎‎‎Jean Touma, ‎Nassab Fakhreddine, ‎د.روعة ناجي‎‎‎, Hoda Helo, Jacqueline Ayoub, Maha Surany‎ et Ziad Assaad Mansour‎, à ‎
مطعم الدنون لصاحبه ياسر عبد الهادي وأولاده‎.

طرابلس قوس قزح



لا أحبّ أبداً عبارة " طرابلس مدينة العلم والعلماء"، ليس لأنّي لا أحبّ مدينتي لا سمح الله، وأنا أعرف ان لحم كتفيّ من خيرها العميم، ولكن لا أحبّ هذه العبارة لأنّ الرسول عليه السلام أوصانا بعدم الكذب. وهذه العبارة تنتمي الى ماضٍ سحيق كان زاهراً ولا تنتمي الى حاضر جريح، طريح الفراش المذهبية والخرافيّة الدامية!

ولا احبّ الصفة التي تتصّف بها مدينتي طرابلس وهي صفة " الفيحاء " لأنّ الصفة بنت موصوف قضى نحبه في المدينة بسبب غباء مستعر. والصفة في غياب الموصوف شبح موصوف! الصفة بنت شجرة الليمون، ومنطقة الضمّ والفرز وغيرها من المناطق التهمت بِشره أحمقَ كلّ الشجرات التي كانت تمنح المدينة عطراً وأريجاً بهيجاً.

ولكني اعرف ان طرابلس لن تستعيد مستقبلها الاّ باستعادة هاتين العبارتين.

أعشق الرموز، فالانسان كائن رمزيّ حتّى قبل أن يكون كائناً ناطقاً. وعليه ان يتشبّث بالرموز ليس بالتشدّق اللفظيّ وانما بالفعل الخلاّق والمبتكر.

أحبّ مدينتي طرابلس وما قلته أعلاه هو ابن حبّي لمدينتي النازفة.

هناك من يعمل لتحويل طرابلس من عاصمة الشمال الى مدينة عادية على المتوسّط. المطلوب من عقلاء المدينة وحكمائها ان يعززوا حضورها المتنوّع، المتعدّد، طائفياً ومذهبيّاً وفكريّاً وروحيّاً.

 مدينة من لون مذهبيّ واحد مدينة كابية الألوان، وأحبّ أن تكون مدينتي على مثال قوس قزح الملوّن، فالألوان من آيات الرحمن.

بلال عبد الهادي

لآلىء الامتحانات



تسمّى الأخطاء الطريفة التي يرتكبها الطلاّب في امتحانات البكالوريا في فرنسا باللآلىء، وعادة ما تقوم بعض الصحف الفرنسية بنشر مختارات من هذه الطرائف، كما هناك مواقع على الانترنت مخصّصة بنشر وأرشفة هذه اللآلىء. وقبل البدء باللآلىء العربيّة سأذكر بعض اللآلىء الفرنسيّة، ومنها:
Deng Xiaoping a construit la grande muraille de Chine pour protéger l'économie chinoise des exportations étrangères.
"بنى دنغ شياو بينغ سورالصين لحماية الاقتصاد الصيني من الصادرات الأجنبية". وقارىء الجملة يمكن له أن يستنتج أنّ سور الصين سور حديث البناء نسبيا فدنغ شياو بينغ مهندس الإصلاح الصيني هو من مواليد القرن العشرين. وعليه فإنّ سور الصين، بناءً لكلام الطالب، تمّ بناؤه في القرن العشرين . ولؤلؤة أخرى تقول:
Un monde multipolaire est un monde où il fait très froid.
"عالم متعدّد الأقطاب هو عالم باردٌ جدّاً".( ذهب ذهن الطالب إلى القطب الجنوبيّ! ). الخطأ في الجملتين لا علاقة له بالنحو، فالنحو، هنا، لا غبار عليه، وإنّما الخطأ تسرّب من عالم المعنى. ولعلّ الأخطاء الدلالية أشدّ خطورة وفداحة من الأخطاء النحوية.
بالنسبة للآلىء العربيّة التي كنت أنشر مقتطفات منها على صفحتي في الفايسبوك فقد  أثارت استحسان البعض ولكن أثارت، في الوقت نفسه، امتعاض بعض طلاّب أو اعتراض بعض الزملاء أو بعض متابعي صفحتي إذ اعتبروا أنّي أنشر الغسيل اللغويّ الوسخ على الحبال وأسيء إلى سمعة الطلاّب، وإلى سمعة التعليم، وربّما إلى سمعة الزملاء أنفسهم.  ولقد ظهر الامتعاض عبر تعليقات مباشرة على مكنون اللآلىء أو من وراء الكواليس حتّى لا أقول من وراء ظهري. وكانت تصلني أصداء بعض ما يقال من نقد لطريقتي في نشر اللآلىء. ولعلّي كنت من المحبّذين في أن يحذو حذوي زملائي في الجامعة لمعالجة مسائل علميّة تتعدّى اللآلىء، فالأخطاء لم تكن لغوية فقط بل فكرية وزمنيّة ودينية، والتوقّف عند هذه الأخطاء .
 كنت من المرحّبين باعتراض المعترضين وتأييد المؤيدين على السواء. فمن طبعي احترام وجهات نظر المعارضين والممتضعين، كما أنّي أعرف بحسب قول مأثور ومشهور بأنّه "لا يرضي العباد إلاّ ربّ العباد".
ولكن هذه اللآلىء التي نشرتها تستحقّ التدبّر، فلست من المؤمنين بنظرية النعامة، هل ستر العيوب وسيلة ناجعة في معالجة العيوب؟ أليس ستر العيوب بيئة صالحة لرعرعة العيوب؟ كما أنّني لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة " الخنفشاريّة" لأنّ عددا كبيراً من المؤمنين بنظرية المؤامرة إنّما يستعملونها كقميص عثمان أو حصان طروادة لتبرير أو تمرير كلّ أشكال التخلّف الذي يغلّف واقعنا العربيّ الراهن على مختلف الأصعدة الروحية والفكرية والدينية والأخلاقية واللغوية والسياسية والاجتماعية والعلمية. نفسنا الأمّارة بالسوء هي التي تحرس المؤامرة برموش عينيها، وتعزّز حضورها وتؤمّن لها المناخ  الملائم .
لا أطالب طالب قسم العربيّ أن يضع لغة المعلّقات في جعبته، أو كتب الجاحظ في جيبته، ولكني أطالبه بالحدّ اللغويّ الأدنى وهو أن يحسن قراءة الجريدة ( على بساطة أسلوبها) بشكل سليم، وقراءة المجلّة ( على سهولة تراكيبها) قراءة صحيحة من دون أن يحرق سلاّف النحو وسلاّف اللغة وسلاّف المعاني.
ثمّ إنّ خرّيج قسم اللغة العربيّة سيكون راعي أبنائنا، والمرشد الروحيّ لألسنتهم. هل نسلم لحّاناً فلذات أكبادنا ليجزّر بلغتهم، والتجزير اللغويّ هو، في الوقت نفسه، تجزير فكريّ؟. اللغة ليست مجرّد وسيلة تواصل، إنّها طريقة تفكير، وطريقة نظر. ولست مع الذين يردّدون عبارة فيها إهانة للغة، ونحن نظنّ أننا نمدحها ونعلي من مقامها، وهي : اللغة وعاء الفكر. اللغة ليست مجرّد وعاء، اللغة لُحمة الفكر وسَداه. وحين يكون لسان الإنسان مكسّراً، ومنخوراً، وأعوج، لا يمكننا إلاّ أن ننتج وطناً مكسّراً ومنخوراً وأعوج، ومفاهيم مكسّرة، ومنخورة، وذات عوج. وها اعوجاج حالنا أمامنا وعلى مرأى من أنظارنا إلاّ إذا كنّا مصابين بالصمم والعمى معاً أو من عشّاق سياسة النعامة.
لديّ قناعة راسخة بأنّ اصلاح الإنسان يبدأ من إصلاح اللسان، فهو أي اللسان بوّابة العبور إلى المفاهيم والأفكار والقيم. هل يعيش مفهوم ليس له معادل لغويّ، أو فكرة لا تترجمها لفظة أو قيمة لا تكون رافعتها كلمة؟
سأستعين بنصّ قصير من كتاب سيبويه، وأعرف أن اسم سيبويه يجلب الذعر في نفوس كثيرين، كما لا يعني اسمه شيئاً نسبة لكثيرين. ورغم ذلك فالنصّ المختار من كتاب سيبويه نصّ بسيط، سهل، يحاول فيه تصنيف أشكال الكلام، ويضع للنصّ عنواناً للتفريق بين المستقيم من الكلام والمحال، ويمكن على ضوء هذا التعريف لأنواع  الكلام قراءة اللآلىء التي قطفتها من مسابقات بعض الطلاب من مقرّرات مختلفة  تتناول مسائل لغوية أو حضارية . يقول سيبويه:
"هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة
- فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
- فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمس، وسآتيك غداً، وسآتيك أمس.
- وأما المستقيم الكذب فقولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر، ونحوه.
- وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه نحو قولك: قد زيداً رأيت، وكي زيداً يأتيك ، وأشباه هذا.
- وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس."
سأكتفي ببعض اللآلىء، وأترك للقارىء قراءتها على ضوء ما قاله سيبويه:
" أما مصطلح السيمياء بالنسبة للجرجاني فقد عمل الجرجاني كثيرا لبلورة هذا المصطلح حتّى توصّل إلى عدّة مصطلحات كلها تدلّ على كلمة sémiautique هي sématics - sémantismes- sémiologie- sémasiologie- séméielogie كانت هذه من أهمّ المصطلحات التي توصّل إليها الجرجاني عن طريق السيمياء". ( نقلت الجملة كما وردت في مسابقة تتناول علم السيمياء).
"لا بدّ من إعطاء مثلاً عند الخنساء عندما رست أخاها"!
" من مؤشرات عجمة الكلمة اجتماع الجيم مع الصاض". ( يقصد حرف الصاد).
"سمع أحد من الانبياء وهو عمر بن الخطاّب صلى الله عليه وسلم أحدٌ ابن هشام يقرأ القرآن الكريم ولكنه وجد فيه خطأ كبير".
" ولقد تمّ التوصّل إلى رإيان..."
هناك كتاب فرنسي بعنوان (S/Z) للناقد رولان بارت، ولكن أحد الطلاب أحبّ أن ينسبه الى الجاحظ. وهكذا علمنا من مسابقة الطالب أنّ الجاحظ كان يتقن الفرنسيّة وله فيها مؤلّفات!
أكتفي بهذا القدر من اللآلىء تاركاً للقارىء العزيز مهمّة تصنيف " المحال" بحسب التعريف السيبويهيّ.
بلال عبد الهادي