الأحد، 28 أكتوبر 2018

لآلىء الامتحانات



تسمّى الأخطاء الطريفة التي يرتكبها الطلاّب في امتحانات البكالوريا في فرنسا باللآلىء، وعادة ما تقوم بعض الصحف الفرنسية بنشر مختارات من هذه الطرائف، كما هناك مواقع على الانترنت مخصّصة بنشر وأرشفة هذه اللآلىء. وقبل البدء باللآلىء العربيّة سأذكر بعض اللآلىء الفرنسيّة، ومنها:
Deng Xiaoping a construit la grande muraille de Chine pour protéger l'économie chinoise des exportations étrangères.
"بنى دنغ شياو بينغ سورالصين لحماية الاقتصاد الصيني من الصادرات الأجنبية". وقارىء الجملة يمكن له أن يستنتج أنّ سور الصين سور حديث البناء نسبيا فدنغ شياو بينغ مهندس الإصلاح الصيني هو من مواليد القرن العشرين. وعليه فإنّ سور الصين، بناءً لكلام الطالب، تمّ بناؤه في القرن العشرين . ولؤلؤة أخرى تقول:
Un monde multipolaire est un monde où il fait très froid.
"عالم متعدّد الأقطاب هو عالم باردٌ جدّاً".( ذهب ذهن الطالب إلى القطب الجنوبيّ! ). الخطأ في الجملتين لا علاقة له بالنحو، فالنحو، هنا، لا غبار عليه، وإنّما الخطأ تسرّب من عالم المعنى. ولعلّ الأخطاء الدلالية أشدّ خطورة وفداحة من الأخطاء النحوية.
بالنسبة للآلىء العربيّة التي كنت أنشر مقتطفات منها على صفحتي في الفايسبوك فقد  أثارت استحسان البعض ولكن أثارت، في الوقت نفسه، امتعاض بعض طلاّب أو اعتراض بعض الزملاء أو بعض متابعي صفحتي إذ اعتبروا أنّي أنشر الغسيل اللغويّ الوسخ على الحبال وأسيء إلى سمعة الطلاّب، وإلى سمعة التعليم، وربّما إلى سمعة الزملاء أنفسهم.  ولقد ظهر الامتعاض عبر تعليقات مباشرة على مكنون اللآلىء أو من وراء الكواليس حتّى لا أقول من وراء ظهري. وكانت تصلني أصداء بعض ما يقال من نقد لطريقتي في نشر اللآلىء. ولعلّي كنت من المحبّذين في أن يحذو حذوي زملائي في الجامعة لمعالجة مسائل علميّة تتعدّى اللآلىء، فالأخطاء لم تكن لغوية فقط بل فكرية وزمنيّة ودينية، والتوقّف عند هذه الأخطاء .
 كنت من المرحّبين باعتراض المعترضين وتأييد المؤيدين على السواء. فمن طبعي احترام وجهات نظر المعارضين والممتضعين، كما أنّي أعرف بحسب قول مأثور ومشهور بأنّه "لا يرضي العباد إلاّ ربّ العباد".
ولكن هذه اللآلىء التي نشرتها تستحقّ التدبّر، فلست من المؤمنين بنظرية النعامة، هل ستر العيوب وسيلة ناجعة في معالجة العيوب؟ أليس ستر العيوب بيئة صالحة لرعرعة العيوب؟ كما أنّني لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة " الخنفشاريّة" لأنّ عددا كبيراً من المؤمنين بنظرية المؤامرة إنّما يستعملونها كقميص عثمان أو حصان طروادة لتبرير أو تمرير كلّ أشكال التخلّف الذي يغلّف واقعنا العربيّ الراهن على مختلف الأصعدة الروحية والفكرية والدينية والأخلاقية واللغوية والسياسية والاجتماعية والعلمية. نفسنا الأمّارة بالسوء هي التي تحرس المؤامرة برموش عينيها، وتعزّز حضورها وتؤمّن لها المناخ  الملائم .
لا أطالب طالب قسم العربيّ أن يضع لغة المعلّقات في جعبته، أو كتب الجاحظ في جيبته، ولكني أطالبه بالحدّ اللغويّ الأدنى وهو أن يحسن قراءة الجريدة ( على بساطة أسلوبها) بشكل سليم، وقراءة المجلّة ( على سهولة تراكيبها) قراءة صحيحة من دون أن يحرق سلاّف النحو وسلاّف اللغة وسلاّف المعاني.
ثمّ إنّ خرّيج قسم اللغة العربيّة سيكون راعي أبنائنا، والمرشد الروحيّ لألسنتهم. هل نسلم لحّاناً فلذات أكبادنا ليجزّر بلغتهم، والتجزير اللغويّ هو، في الوقت نفسه، تجزير فكريّ؟. اللغة ليست مجرّد وسيلة تواصل، إنّها طريقة تفكير، وطريقة نظر. ولست مع الذين يردّدون عبارة فيها إهانة للغة، ونحن نظنّ أننا نمدحها ونعلي من مقامها، وهي : اللغة وعاء الفكر. اللغة ليست مجرّد وعاء، اللغة لُحمة الفكر وسَداه. وحين يكون لسان الإنسان مكسّراً، ومنخوراً، وأعوج، لا يمكننا إلاّ أن ننتج وطناً مكسّراً ومنخوراً وأعوج، ومفاهيم مكسّرة، ومنخورة، وذات عوج. وها اعوجاج حالنا أمامنا وعلى مرأى من أنظارنا إلاّ إذا كنّا مصابين بالصمم والعمى معاً أو من عشّاق سياسة النعامة.
لديّ قناعة راسخة بأنّ اصلاح الإنسان يبدأ من إصلاح اللسان، فهو أي اللسان بوّابة العبور إلى المفاهيم والأفكار والقيم. هل يعيش مفهوم ليس له معادل لغويّ، أو فكرة لا تترجمها لفظة أو قيمة لا تكون رافعتها كلمة؟
سأستعين بنصّ قصير من كتاب سيبويه، وأعرف أن اسم سيبويه يجلب الذعر في نفوس كثيرين، كما لا يعني اسمه شيئاً نسبة لكثيرين. ورغم ذلك فالنصّ المختار من كتاب سيبويه نصّ بسيط، سهل، يحاول فيه تصنيف أشكال الكلام، ويضع للنصّ عنواناً للتفريق بين المستقيم من الكلام والمحال، ويمكن على ضوء هذا التعريف لأنواع  الكلام قراءة اللآلىء التي قطفتها من مسابقات بعض الطلاب من مقرّرات مختلفة  تتناول مسائل لغوية أو حضارية . يقول سيبويه:
"هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة
- فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
- فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتك أمس، وسآتيك غداً، وسآتيك أمس.
- وأما المستقيم الكذب فقولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر، ونحوه.
- وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ في غير موضعه نحو قولك: قد زيداً رأيت، وكي زيداً يأتيك ، وأشباه هذا.
- وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس."
سأكتفي ببعض اللآلىء، وأترك للقارىء قراءتها على ضوء ما قاله سيبويه:
" أما مصطلح السيمياء بالنسبة للجرجاني فقد عمل الجرجاني كثيرا لبلورة هذا المصطلح حتّى توصّل إلى عدّة مصطلحات كلها تدلّ على كلمة sémiautique هي sématics - sémantismes- sémiologie- sémasiologie- séméielogie كانت هذه من أهمّ المصطلحات التي توصّل إليها الجرجاني عن طريق السيمياء". ( نقلت الجملة كما وردت في مسابقة تتناول علم السيمياء).
"لا بدّ من إعطاء مثلاً عند الخنساء عندما رست أخاها"!
" من مؤشرات عجمة الكلمة اجتماع الجيم مع الصاض". ( يقصد حرف الصاد).
"سمع أحد من الانبياء وهو عمر بن الخطاّب صلى الله عليه وسلم أحدٌ ابن هشام يقرأ القرآن الكريم ولكنه وجد فيه خطأ كبير".
" ولقد تمّ التوصّل إلى رإيان..."
هناك كتاب فرنسي بعنوان (S/Z) للناقد رولان بارت، ولكن أحد الطلاب أحبّ أن ينسبه الى الجاحظ. وهكذا علمنا من مسابقة الطالب أنّ الجاحظ كان يتقن الفرنسيّة وله فيها مؤلّفات!
أكتفي بهذا القدر من اللآلىء تاركاً للقارىء العزيز مهمّة تصنيف " المحال" بحسب التعريف السيبويهيّ.
بلال عبد الهادي





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق