الثلاثاء، 27 فبراير 2024

مداخلة الدكتور محمود درنيقة عن كتاب من الصفر تأليف بلال عبد الهادي

 حين أسندَ إليَّ رئيس رابطة الجامعيين في الشمال الأستاذ Ghassan Houssami مهمّةَ تقديم كلمة تحليليّة نقديّة حول كتاب أستاذي الدكتور بلال عبد الهادي (من الصفر) شعرْتُ بلذّة العودةِ إلى البدايات.. واسترجعتُ مشاهد امتزج فيها الوعي بالوجدان..



أدركتُ نشوة قطرة المطر التي تعود إلى غيمةٍ فارقتها منذ ما يربو على عقدين من الزمن.. قطرة جازَت أشواطًا مِن دَورة الحياة، ثمّ عادَت لتوظّف حصيلةَ ما عرفَتْهُ في استحضارِ لحظات تشكُّلِها.. فكانت بوّابةَ عبورٍ إلى ما كنتُ أراه صفرًا.. وبِتُّ أراه اليوم أصلًا لكلّ تحصيل، ومنطلَقًا لأيّ نماء..

شكرًا حضرة الرئيس على ثقتك ومودّتك التي لم أشكّ بها يومًا.

شكرّا دكتور بلال على ما نقَشتَه في الذاكرة مِن لمَسات جمالٍ، ومساحات إدراك، واسمح لي أن أنشر هنا ما جاء في الكلمة:

منذ اثنين وعشرين عامًا أو يزيد.. دخل عليّ في قاعة الجامعة معلّمي الشابّ متأبّطًا محفظته الجلدية البنية الأنيقة، وحدّثنا يومها عن سيّدة صادفها في الحافلة في فرنسا، كانت بارعة في التنقيب في منجم الصفر، تستخرج الإنجازات وفرص تطوير الذات، وكانت في طريقها إلى العمل، وهو وقت صفريّ ضائع، تمارس ثلاث هوايات؛ تقرأ كتابًا، وتصغي بالسماعات إلى الموسيقى، وتشغّل يديها بصنارتين تخيط بهما أوتوماتيكيًّا.

قلت في نفسي يومها: يا لخسران من لا يجيد استثمار أصفاره!!

وكان معلّمي لمّاحًا، واسع الأفق، بارعًا في الإحاطة بالأسطح، وموهوبَا في الغوص إلى الأعماق، طلب إلينا ذات يوم في نهاية إحدى المحاضرات أن نعدّ بحثًا نصف فيه واقعًا افتراضيًّا لصفر لغويّ ما، فكلّفنا تصوُّر عالم لا حروف فيه.. وكم كانت رحلة فكرية ممتعة ومذهلة تجرَّدنا فيها من كلّ ما نعرف،  وانغمسنا في عالم كان علينا أن ننطلق فيه من صفر كتابيّ لنمثّل واقعًا حياتيًّا في ظلاله.

وكان معلّمي أيضًا متعدّد الملكات، متنوع المهارات، كلّما عاد إلى صفر نفسه وجدها صالحة للاستصلاح  في ميدان جديد، وكان يؤكّد لنا في كلّ مرّة أنّ الذات ( الصفر) هي التي تعطي قيمةً لأعداد الإنجازات والاختصاصات.

ولا أنسى يوم أخرج من جعبته الخفيّة صورة تحتمل التأويل ، وطلب إلينا العودة إلى صفر التأمّل، وتوقُّع ما فيها،  تواترت الإجابات التي رأت فيها ظهر امرأة ممشوقة، ليوّكّد لنا أخيرًا أنّها صورة التقطها بنفسه (وهنا الشاهد) لقطعة (فليفلة خضراء) توحي للناظرين بخلاف ما هي عليه.

وها هو اليوم  معلّمي نفسه يعود بكلّ مَن هم داخل هذه القاعة إلى صفر الوعي، وصفر الإدراك، نعم أيّها الأفاضل .. إنّه معلّمي بلال عبد الهادي الذي آثر حتّى على غلاف كتابه أن يعود إلى صفر  الهوية متحرّرًا من رتبته التي أصرّت عليه والدته - أطال الله عمرها - إثباتها لكونه تعِب بها، فأكّد لها في حوار لطيف أنّه هو من صنع الرتبة، وليست هي من صنعته.

نعم،  إنّه معلّمي الذي عاد إلى صفر مهنةٍ أحسن بعثها على غير مثال سابق، فأعاد طبق الحمّص إلى صفره أي إلى حبّة الحمّص التي يصرّ على وصفها  بالمباركة، لينطلق منها إلى ابتكار كوكيز الحمّص التي لا تعدّ تغييرًا للمسار.. وانّما هي مؤشّر ابتكار لمسارات أخرى.

وكيف لي بعد كلّ ما أخبرتكم به عن معلّمي أن أعيا في فهم أبعاد عنوانه  وهو  البارع عموما في قنص ما يتردّد على ألسنة الناس، ويشيع بينهم ليعود به إلى صفر الدلالة، ويهبه معاني أبعد وأعمق وأغنى وأمتع.. فكيف به وقد وافقَت هذه (العبارة - العنوان) ما يتردد في أصداء  نفسه من توق شديد الى تذوّق لذّة الاكتشاف البكر، وهو المُفتَتن بشهود لحظات الاقتران الأولى بين اللفظ والدلالة، بل بين المعنى  ومعنى المعنى.

بين دفتي هذا الكتاب الأنيق تسعٌ وخمسون لوحةً، قبل أن تصبح إحدى وستّين في النسخة المعدّلة التي تكرّم المؤلّف بتزويدي بها، بعد حذف قصّة مكرّرة، وزيادة ثلاث جديدة.

لوحات تتقصّى أبعاد النجاح، وتتتبّع القواسم المشتركة بين الناجحين، عكفت على قراءتها بنهم في ركن أثيرٍ لديّ في مقهى يونس (مكان ماكدونالد القديم) وكنت كأنّني أجالس شخصيّاتها على المقعد المقابل. سررت كثيرًا بمجالسة ابن الأثير،  وابن سينا ، وابن الجوزي، وأبي حنيفة من أعلام الشرق، وأيزنهاور وبيزوس وجان بول سارتر وهنري فورد.. وصعقت حين حضرت روحا ريتشارد وموريس ماكدونالد صاحبَي فكرة المطعم الشهير.. ظننت أنّهما عادا لاسترجاع المقهى، فذريعة الأحقيّة التاريخيّة انتقائية عند جماعتهم.

ثمّ طالعتني لوحات لا تمس الشخصيات بعينها وإنّما تمسّ مناهج اعتمدوها، وسبلاً سلكوها، وإشارات رصدوها.

بين تفكير مقلوب، وتفكير دامج، ورحلة من  الحاشية إلى المتن.

ذكرّني التفكير بالمقلوب بقصّة شاعر أقسم الخليفة أن تفرش له الأرض ذهباً إلى بيته وأوحت بأنّها قد تكون علّة ابتكار فكرة النعل أو الحذاء.

ذكّرتني دلالة الأسماء لدى الصينيين ب (ال) التي لِلَمْح الأصل.. ودخولها على الأعلام، لا لتعريفها، فهي معرّفة بالعلَميّة، وإنما للَحظِ دلالاتها.

ذكّرَتني (واو العطف) ب (من) الجرّ التي استهل بها الكاتب عنوانه، فالصفر هو الطاقة الكامنة، و(من) هي خطّ الإنتاج..

وفتحت لنا أفق التساؤل عن رحلة معاكسة، تكلِّفنا عناء  تبديل "من" ب "إلى" لنكتشف أصفار ذواتنا سعيًا إلى تفجير مكامن الإنتاج فيها.

فحبّذا لو يستجيب لي معلّمي مرّة أُخرى، ويُهدي إلى قرّائه كتاباً بعنوان  « إلى الصفر ».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق