أراد كابي سرور في كتابه " من مين خايفين" ان يضرب أكثر من جهة، وأكثر من عصفور بحجر واحد. وكما يقول المثل :" المكتوب يقرأ من عنوانه"، ولا ريب ان ذلك الشخص المجهول الذي خرجت لأوّل مرة من فمه هذه العبارة، شخص حنكته الخبرة والكلمة . وقراءتي للكتاب ستكون على ضوء هذه المقولة التي استثمرها أيّما استثمار جيرار جينيت في كتابه الغني" عتبات ". وهذا الناقد يعتبر اليوم علما، ليس من أعلام فرنسا وحسب، وإنما من أعلام النقد والنقض والتفكيك في العالم، حيث انه ترك مفاعيل كلماته تسري في عروق أي قلم يريد ان يقرأ بعينيّ الجاحظ شديدتي الجحوظ. العنوان السؤال"من مين خايفين “سؤال مضيء، الإضاءة ليست صفة من عندي، وإنما هي جزء من السؤال نفسه في العنوان حيث نرى ان كلمة “من" في غلاف الكتاب تأخذ هيئة فانوس باللون الأزرق وتعلوها شعلة مائلة باللون الأحمر، واتجاه الشعلة يشير إلى كون السؤال حركة لا تخلو من بركة المعرفة. وكل سؤال، في أي حال، ضوء، بشكل من الأشكال، قادر على زعزعة الأشياء من مطارحها الآسنة، ولعل هذا ما يبرر مقولة للخليل بن احمد مفادها ان الإنسان" سؤول عقول". والصياغة في صيغة المبالغة ليست أمرا اعتباطيا حين تخرج من فم مبدع نظرية الاشتقاقات والتوليد اللفظي، والتقليب الصوتيّة في كتابه البديع "العين". لا اعرف لماذا يرتبط السؤال في ذهني دائما بالطفولة، كم مرة يقول الطفل "ليش" في اليوم الواحد ؟ نحن امة لا تسأل. رغم ان نلصق كلمة "مسؤول"برجل السياسة أي ان وظيفته بنت السؤال، وإلغاء السؤال إلغاء مبرم لوظيفته، أليس كذلك؟ ومع هذا لا نسأل، هذه حقيقة جارحة، وهذا هو الواقع الذي يفرزه عدم السؤال، الواقع الفاجع الذي نراه بأم العين على امتداد رقعة وجودنا العربية.سؤال يحتاجه العربي اليوم ربما أكثر مما يحتاج رغيف الخبز، هذا الرغيف الذي يرسمه كابي سرور على "حيطان البلد"(ص 13). أليست مأساة الإنسان العربي اليوم انه يخاف من السؤال كما يخاف من ظله على الأرض، و كما يخاف من ظل الطائرات الاميركية التي تعرض عضلاتها في البر والبحر والفضاء، ويخاف من ان يحكي، رغم ان المطلوب هو ان نحكي، ونسترسل في الحكي كما شهرذاد، بل وان نخرج ايضا، دود بطننا، إذا اردنا ان ننقذ أنفسنا من شبح شهريار.وكابي سرور لم يحك كل ما في بطنه، كابي طرح السؤال وترك على من يقرأ كتابه ان يخمّن، ان يستدرج الجواب إلى عقر داره، ويقبض عليه من قرنيه، وكأنه يدعو القارىء، مداورة، أن يحمل قلمه أيضا، والا ماذا تعني كل الأوراق البيضاء الموجودة كملحق في نهاية الكتاب (انظر البياض اللاذع). أنا لا انظر إلى كتاب "من مين خايفين" على انه كتاب "غير شكل" إلا لأنه غير شكل. انني أريد ان اكتفي بالوصف، وصف الكتاب شكلا وفحوى. والوصف يفصح عن طرافة الكتاب ولطافته. كاتب يحمل كلماته بالعرضأول ما لفت نظري في الكتاب ان المؤلف يريد أن يحمل السلّم بالعرض، ان يحمل كلمته بالعرض، ان يعيش أيضا بالعرض، والذي يحمل السلّم بالعرض يزعج، ويربك، ولكنه إزعاج ضروري وارباك مستحبّ، وأنا أشبّه من يحمل السلّم بالعرض برجل يزرع في نصه بعض الكلمات الغريبة، نادرة الاستعمال والتي لا يدرجها صاحبها في النص، أحيانا، حبا بالفذلكة على ما يقال، وإنما لمآرب أخرى، لمحاربة البدائه التي تتسلل على رؤوس أصابعها وتتغلغل بكل خبث ومهارة إلى العقل فتمنحه طمأنينة قاتلة. ومن يذعن للبداهة تبلوه الحياة بالبلاهة. وكابي سرور أحب وهو يكتب ان تكون كلماته فاصدة لا جارحة، أي انه أراد من الأسئلة ان تمتص الدم الأسود لتعيد للدم لونه القاني الضاجّ بالصحة. لهذا يعترضك شكل الكتاب، فاغلب الكتب تميل إلى الطول واقلها يميل إلى العرض، أي ان الاختيار هنا لا يخضع فقط لضرورات فنية أو إخراجية، وإنما أيضا وبالضرورة لوجهة نظر معينة، لدى الكاتب، تختزن دلالة حاضرة في قلب الكلمات، انه كسر للرتابة في القراءة، وحتى في طريقة تقليب صفحات الكتاب، وهذه تقنية يبرع فيها جدا أبناء اليابان، الذين على طقوسيّة حياتهم، ينفرون اشدّ النفور من الشكل المعتاد، المكرور.إن الكتاب حين يكون عريضا، فهو يشبه اليافطة من ناحية الشكل، ولا أظن ان شكل اليافطة يغيب عن عين احد في لبنان، حيث لها في كل عرس قرص دسم في الشوارع ومفارق الطرقات وأسوار الحدائق العامة والخاصة.أليست كلمته في آخر الكتاب حين يحكي عن الحدود"يا عرب افتحوها بالعرض والطول ومتخافو عالعرض"(ص 138) تشبه يافطة من يافطات الحلم العربي المكسور؟ هل أراد كابي سرور ان يعترض ويجيّر شكل اليافطة لينثر اعتراضه على صفحات الكتاب في شكل غمزات سياسية، ولمزات اجتماعية، وزكزكات ثقافية، ورثاء صاخب لأوجه كانت جزءا من ملامح الفيحاء، جزءا جميلا، نيّرا، كرثائه للشيخ المعمّم، الجميل، الجليل أنور بكري، رحمه الله، الذي يفكفك بالطرفة المحنكة، والنكتة الصارخة مأساة عروبتنا، وبلادة بلادنا، والتواكل الأرعن، ويختصر كابي في لمحة بل في جملة اثر الشيخ على محبيه وهي العبارة التالية "ليش جايي عا بالي بوس ايدك المشلولة" (ص 131)هذا السؤال الذي يطرحه كابي على غياب الشيخ أنور جوابه فيه، لان كابي كان يعرف ان يد الشيخ المشلولة لها فضل فكري على كثير من مثقفي طرابلس، وفقرائها. فما بالك بغير المشلول منه؟ المدينة وجوه وأطلالليس بالضرورة ان تكون وجوه المدينة عائدة لوجهاء المدينة أو لوجوه بشرية، وفي العربية رثاء كثير لمدن، وأشياء، وخرائب، وهل الوقوف على الأطلال غير رثاء لفعل الزمن في الأحياء والأشياء والأحباء؟ وكابي يقف على أطلال كثيرة في المدينة، أطلال ليست من فعل الزمان، وليست من تصاريفه أو مضاعفاته، وإنما من غباء بشري كاسح وكسيح، يغتال حجرا كان أكثر من حجر، وحفنة ذكريات، مثل مدرسة الفرير التي سقطت بمعاول أعداء الذاكرة، ظنا ان سحب بساط الثقافة من تحت أقدام الاقتصاد ينعش الحركة الاقتصادية البليدة، كما يرثي أيضا مكتبة طارق في بناية الغندور، قبالة المنشية، التي كانت تذوي صفحة صفحة، ويقضم كتبها الغبار إلى ان انطفأت مؤخرا انطفاءتها الاخيرة، دون ان يلتفت احد إلى كتابة رثاء عنها، وكأن موت مكتبة موت عادي، لا يستحق حتى نعوة على جدران مدينة، تعتبر نفسها مدينة العلم والعلماء، وتنتمي حضاريا إلى أمّة "اقرأ".ما أرعب الماضي حين يتحوّل أصفادا وأغلالا نظنها خلاخيل في قدميّ الحاضر! تعايش الفصحى والعاميةقد ينتقد البعض الكتاب لأنه كان يتنقل من العامية إلى الفصحى. وقد يعتبر بعض أنصار الفصحى ان هذا الكتاب مؤامرة على العربية، والمؤيدون لنظرية المؤامرة أكثر من الهم على القلب. لست، على المستوى الشخصي، من أنصار العامية، ولكنني لست ضد بيهم ولا ضد الرحابنة، ولا ضد أي كلمة جميلة إلى أي لغة انتمت، والى أي مستوى لغوي انتسبت، فالعبرة بالمفعول لا بشكل المقول، واللغة مستويات ووظائف، والماهر هو من يلعب بالوظائف والمستويات، لا يلغي أيا منها، هذا ما كان يقوم به الراحل عبد الناصر، والسيد نصر الله، والشيخ متولي الشعراوي، وغيرهم كثير. وكابي أراد استخدام هذه التقنية للغرض نفسه كما أظن، أراد كتابه ان يكون صورا بالأبيض والأسود طورا، و بالألوان طورا آخر، لمثقف من طرابلس يريد ان ينقل ما يراه، ما يحسه، ما يجرحه، ما يعاينه وما يعانيه، بلغة المثقفين البسطاء لا بلغة المثقفين الذين يرون ان الثقافة لا يمكن ان يعبر عنها إلا بالفصحى، (وهذه مسألة قابلة للأخذ والنبذ ) ولا بلغة من يموّه ضحالة فكره بفصاحة مستوردة من الكتب لا خارجة من لحمه ودمه والأعصاب. لهذا لم يرد كابي ان يستعمل الكلام الذي له شكل العسل وطعم الخل. ولقد احتاط الكاتب لهذا الأمر فأعلن منذ البدء، من خلال مفردة "نصوص" على الغلاف، عصيان كتابه على الانتماء المحدد أو التصنيف الصارم. والإبهام هنا أو تغليب العموم على الخصوص مقصود فيما أظن، ومشكور عليه المؤلف، فهو لم ينسب ما كتب إلى أي نوع أدبي، أو كتابيّ معيّن، فلا هو مقالات، ولا هو شعر، ولا هو قصة، ونحن نعرف ازمة بعض من يكتب، اليوم، مع كتاباته، أو بالأحرى مع العائلة التي تنتمي إليها كلماته.فكم من كتاب منتسب إلى الشعر وهو دون النثر الفنيّ جمالا، وعقدة الشعرية عند بعض الكتاب تستحق ان تدرس أسبابها النفسية قبل أسبابها الفنية في أي حال،(ولكن ليس هذا هو غرض المقالة). نصوص كابي سرور لا تخلو من الماعات غنية ومفاجئة لا يلقطها إلا من يعرف ان قلة الخيال مجلبة للخبال، مثل"وجّك متل دفتر الظبوطة"(ص91) أو " منذ الثامنة بردا" (ص93) وغيرها كثير متناثر هنا وهناك، بعضها حقيقة كالخيال، سورياليتها هي بنت الحياة اليومية العربية التي لم تخطر ببال يوجين يونسكو، لا بنت خيال قطع صلته بالواقع قطعا بائنا وشائنا، كهذه العبارة "طيبة قهوة البنكي مع المازوت"(ص 25). مازوت السيارات وعربات الشحن، مازوت الهواء الملوث، مازوت الصفقات التي تفوح منها رائحة السياسة. كل صورة فنية في كتاب كابي تحيل إما إلى أزمة اجتماعية، أو أزمة سياسية، أو أزمة في التعبير، أو أزمة على مستوى طرابلس أو لبنان أو العالم العربي، حيث يسرّب، في كتابه، هواجسه تسريبا لا يخلو من فنية واقتدار، وهواجسه في مطرحها، لأنه خائف من شيء يشبه الكارثة الماحقة الساحقة، التي لن ترحم حتى أولئك الذين يرتّلون "المجد لأميركا في العلى وعلى الأرض الاستسلام!"(ص 39) ونحن لا نحرّك ساكنا ولا آسنا لتغيير الحال "أولكن في حدا عم يسرق ماضينا بلا ما نحسّ" (ص 129) يتساءل كابي، ونحن نعرف ان الجواب الدامي يخرج من أنقاض متحف بغداد!! البياض اللاذع انهي هذه القراءة العاجلة بالأجوبة الممسوحة، والممسوخة، بالأجوبة التي لا تقال، لان للجدران آذانا صاغية أكثر من اللزوم، وأكثر من آذان الناس في بلادي، كما يبدو. هذا ما تنمّ عنه صفحات "من مين خايفين" الأخيرة. يترك الكاتب ثلاث ورقات بيض في نهاية الكتاب، بعض الكتب تترك بعض الصفحات، ولكن بفارق دلالي هو ان كابي وضع عنوانا لهذه الورقات الثلاث هو عنوان الكتاب نفسه، والبياض لا يحتل هذه المساحة وحدها، بل انه يشاطر الكلمات وجودها في كل صفحة من صفحات الكتاب، لا يفصل الكلام عن البياض إلا خط عموديّ، متعرج، ومتقطع، كأنه قضيب حديد يصدأ في سجن أو كأنه يرتجف من الخوف، أو من أشياء أخر، وأحيانا ترافق بعض الصور/الذكريات الكلمات ولكنها لا تأخذ حصتها من المكان المخصص للكلام، وإنما من المكان المخصص للبياض، والصورة تحكي، حكيها بلا صوت. هل أراد كابي ان يطلب منا، عبر هذه التقنية، ان نصغي إلى صوت البياض الصاخب والكثيف الذي يلفنا كالكفن؟ حيادية الألوان حيلة مخادعة تنطلي على كثير من الناس، وخصوصا بلونها الأبيض البضّ الذي يتخذ من لون ريش الملائكة قناعا لتمرير خباثته. أرجو ان يجنبنا الله عقبى الألوان وشرورها.لا اعتقد ان طرابلس سوف تزعل منك يا كابي أو تغضب عليك لأنك قسوت عليها بعض قسوة، هنا أو هناك، فطرابلس قلبها طيب كقلب شيخها الجليل أنور بكري، كما إنها تعرف ان المدح ذبح من الوريد إلى الوريد
الخميس، 1 يوليو 2010
من مين خايفين
أراد كابي سرور في كتابه " من مين خايفين" ان يضرب أكثر من جهة، وأكثر من عصفور بحجر واحد. وكما يقول المثل :" المكتوب يقرأ من عنوانه"، ولا ريب ان ذلك الشخص المجهول الذي خرجت لأوّل مرة من فمه هذه العبارة، شخص حنكته الخبرة والكلمة . وقراءتي للكتاب ستكون على ضوء هذه المقولة التي استثمرها أيّما استثمار جيرار جينيت في كتابه الغني" عتبات ". وهذا الناقد يعتبر اليوم علما، ليس من أعلام فرنسا وحسب، وإنما من أعلام النقد والنقض والتفكيك في العالم، حيث انه ترك مفاعيل كلماته تسري في عروق أي قلم يريد ان يقرأ بعينيّ الجاحظ شديدتي الجحوظ. العنوان السؤال"من مين خايفين “سؤال مضيء، الإضاءة ليست صفة من عندي، وإنما هي جزء من السؤال نفسه في العنوان حيث نرى ان كلمة “من" في غلاف الكتاب تأخذ هيئة فانوس باللون الأزرق وتعلوها شعلة مائلة باللون الأحمر، واتجاه الشعلة يشير إلى كون السؤال حركة لا تخلو من بركة المعرفة. وكل سؤال، في أي حال، ضوء، بشكل من الأشكال، قادر على زعزعة الأشياء من مطارحها الآسنة، ولعل هذا ما يبرر مقولة للخليل بن احمد مفادها ان الإنسان" سؤول عقول". والصياغة في صيغة المبالغة ليست أمرا اعتباطيا حين تخرج من فم مبدع نظرية الاشتقاقات والتوليد اللفظي، والتقليب الصوتيّة في كتابه البديع "العين". لا اعرف لماذا يرتبط السؤال في ذهني دائما بالطفولة، كم مرة يقول الطفل "ليش" في اليوم الواحد ؟ نحن امة لا تسأل. رغم ان نلصق كلمة "مسؤول"برجل السياسة أي ان وظيفته بنت السؤال، وإلغاء السؤال إلغاء مبرم لوظيفته، أليس كذلك؟ ومع هذا لا نسأل، هذه حقيقة جارحة، وهذا هو الواقع الذي يفرزه عدم السؤال، الواقع الفاجع الذي نراه بأم العين على امتداد رقعة وجودنا العربية.سؤال يحتاجه العربي اليوم ربما أكثر مما يحتاج رغيف الخبز، هذا الرغيف الذي يرسمه كابي سرور على "حيطان البلد"(ص 13). أليست مأساة الإنسان العربي اليوم انه يخاف من السؤال كما يخاف من ظله على الأرض، و كما يخاف من ظل الطائرات الاميركية التي تعرض عضلاتها في البر والبحر والفضاء، ويخاف من ان يحكي، رغم ان المطلوب هو ان نحكي، ونسترسل في الحكي كما شهرذاد، بل وان نخرج ايضا، دود بطننا، إذا اردنا ان ننقذ أنفسنا من شبح شهريار.وكابي سرور لم يحك كل ما في بطنه، كابي طرح السؤال وترك على من يقرأ كتابه ان يخمّن، ان يستدرج الجواب إلى عقر داره، ويقبض عليه من قرنيه، وكأنه يدعو القارىء، مداورة، أن يحمل قلمه أيضا، والا ماذا تعني كل الأوراق البيضاء الموجودة كملحق في نهاية الكتاب (انظر البياض اللاذع). أنا لا انظر إلى كتاب "من مين خايفين" على انه كتاب "غير شكل" إلا لأنه غير شكل. انني أريد ان اكتفي بالوصف، وصف الكتاب شكلا وفحوى. والوصف يفصح عن طرافة الكتاب ولطافته. كاتب يحمل كلماته بالعرضأول ما لفت نظري في الكتاب ان المؤلف يريد أن يحمل السلّم بالعرض، ان يحمل كلمته بالعرض، ان يعيش أيضا بالعرض، والذي يحمل السلّم بالعرض يزعج، ويربك، ولكنه إزعاج ضروري وارباك مستحبّ، وأنا أشبّه من يحمل السلّم بالعرض برجل يزرع في نصه بعض الكلمات الغريبة، نادرة الاستعمال والتي لا يدرجها صاحبها في النص، أحيانا، حبا بالفذلكة على ما يقال، وإنما لمآرب أخرى، لمحاربة البدائه التي تتسلل على رؤوس أصابعها وتتغلغل بكل خبث ومهارة إلى العقل فتمنحه طمأنينة قاتلة. ومن يذعن للبداهة تبلوه الحياة بالبلاهة. وكابي سرور أحب وهو يكتب ان تكون كلماته فاصدة لا جارحة، أي انه أراد من الأسئلة ان تمتص الدم الأسود لتعيد للدم لونه القاني الضاجّ بالصحة. لهذا يعترضك شكل الكتاب، فاغلب الكتب تميل إلى الطول واقلها يميل إلى العرض، أي ان الاختيار هنا لا يخضع فقط لضرورات فنية أو إخراجية، وإنما أيضا وبالضرورة لوجهة نظر معينة، لدى الكاتب، تختزن دلالة حاضرة في قلب الكلمات، انه كسر للرتابة في القراءة، وحتى في طريقة تقليب صفحات الكتاب، وهذه تقنية يبرع فيها جدا أبناء اليابان، الذين على طقوسيّة حياتهم، ينفرون اشدّ النفور من الشكل المعتاد، المكرور.إن الكتاب حين يكون عريضا، فهو يشبه اليافطة من ناحية الشكل، ولا أظن ان شكل اليافطة يغيب عن عين احد في لبنان، حيث لها في كل عرس قرص دسم في الشوارع ومفارق الطرقات وأسوار الحدائق العامة والخاصة.أليست كلمته في آخر الكتاب حين يحكي عن الحدود"يا عرب افتحوها بالعرض والطول ومتخافو عالعرض"(ص 138) تشبه يافطة من يافطات الحلم العربي المكسور؟ هل أراد كابي سرور ان يعترض ويجيّر شكل اليافطة لينثر اعتراضه على صفحات الكتاب في شكل غمزات سياسية، ولمزات اجتماعية، وزكزكات ثقافية، ورثاء صاخب لأوجه كانت جزءا من ملامح الفيحاء، جزءا جميلا، نيّرا، كرثائه للشيخ المعمّم، الجميل، الجليل أنور بكري، رحمه الله، الذي يفكفك بالطرفة المحنكة، والنكتة الصارخة مأساة عروبتنا، وبلادة بلادنا، والتواكل الأرعن، ويختصر كابي في لمحة بل في جملة اثر الشيخ على محبيه وهي العبارة التالية "ليش جايي عا بالي بوس ايدك المشلولة" (ص 131)هذا السؤال الذي يطرحه كابي على غياب الشيخ أنور جوابه فيه، لان كابي كان يعرف ان يد الشيخ المشلولة لها فضل فكري على كثير من مثقفي طرابلس، وفقرائها. فما بالك بغير المشلول منه؟ المدينة وجوه وأطلالليس بالضرورة ان تكون وجوه المدينة عائدة لوجهاء المدينة أو لوجوه بشرية، وفي العربية رثاء كثير لمدن، وأشياء، وخرائب، وهل الوقوف على الأطلال غير رثاء لفعل الزمن في الأحياء والأشياء والأحباء؟ وكابي يقف على أطلال كثيرة في المدينة، أطلال ليست من فعل الزمان، وليست من تصاريفه أو مضاعفاته، وإنما من غباء بشري كاسح وكسيح، يغتال حجرا كان أكثر من حجر، وحفنة ذكريات، مثل مدرسة الفرير التي سقطت بمعاول أعداء الذاكرة، ظنا ان سحب بساط الثقافة من تحت أقدام الاقتصاد ينعش الحركة الاقتصادية البليدة، كما يرثي أيضا مكتبة طارق في بناية الغندور، قبالة المنشية، التي كانت تذوي صفحة صفحة، ويقضم كتبها الغبار إلى ان انطفأت مؤخرا انطفاءتها الاخيرة، دون ان يلتفت احد إلى كتابة رثاء عنها، وكأن موت مكتبة موت عادي، لا يستحق حتى نعوة على جدران مدينة، تعتبر نفسها مدينة العلم والعلماء، وتنتمي حضاريا إلى أمّة "اقرأ".ما أرعب الماضي حين يتحوّل أصفادا وأغلالا نظنها خلاخيل في قدميّ الحاضر! تعايش الفصحى والعاميةقد ينتقد البعض الكتاب لأنه كان يتنقل من العامية إلى الفصحى. وقد يعتبر بعض أنصار الفصحى ان هذا الكتاب مؤامرة على العربية، والمؤيدون لنظرية المؤامرة أكثر من الهم على القلب. لست، على المستوى الشخصي، من أنصار العامية، ولكنني لست ضد بيهم ولا ضد الرحابنة، ولا ضد أي كلمة جميلة إلى أي لغة انتمت، والى أي مستوى لغوي انتسبت، فالعبرة بالمفعول لا بشكل المقول، واللغة مستويات ووظائف، والماهر هو من يلعب بالوظائف والمستويات، لا يلغي أيا منها، هذا ما كان يقوم به الراحل عبد الناصر، والسيد نصر الله، والشيخ متولي الشعراوي، وغيرهم كثير. وكابي أراد استخدام هذه التقنية للغرض نفسه كما أظن، أراد كتابه ان يكون صورا بالأبيض والأسود طورا، و بالألوان طورا آخر، لمثقف من طرابلس يريد ان ينقل ما يراه، ما يحسه، ما يجرحه، ما يعاينه وما يعانيه، بلغة المثقفين البسطاء لا بلغة المثقفين الذين يرون ان الثقافة لا يمكن ان يعبر عنها إلا بالفصحى، (وهذه مسألة قابلة للأخذ والنبذ ) ولا بلغة من يموّه ضحالة فكره بفصاحة مستوردة من الكتب لا خارجة من لحمه ودمه والأعصاب. لهذا لم يرد كابي ان يستعمل الكلام الذي له شكل العسل وطعم الخل. ولقد احتاط الكاتب لهذا الأمر فأعلن منذ البدء، من خلال مفردة "نصوص" على الغلاف، عصيان كتابه على الانتماء المحدد أو التصنيف الصارم. والإبهام هنا أو تغليب العموم على الخصوص مقصود فيما أظن، ومشكور عليه المؤلف، فهو لم ينسب ما كتب إلى أي نوع أدبي، أو كتابيّ معيّن، فلا هو مقالات، ولا هو شعر، ولا هو قصة، ونحن نعرف ازمة بعض من يكتب، اليوم، مع كتاباته، أو بالأحرى مع العائلة التي تنتمي إليها كلماته.فكم من كتاب منتسب إلى الشعر وهو دون النثر الفنيّ جمالا، وعقدة الشعرية عند بعض الكتاب تستحق ان تدرس أسبابها النفسية قبل أسبابها الفنية في أي حال،(ولكن ليس هذا هو غرض المقالة). نصوص كابي سرور لا تخلو من الماعات غنية ومفاجئة لا يلقطها إلا من يعرف ان قلة الخيال مجلبة للخبال، مثل"وجّك متل دفتر الظبوطة"(ص91) أو " منذ الثامنة بردا" (ص93) وغيرها كثير متناثر هنا وهناك، بعضها حقيقة كالخيال، سورياليتها هي بنت الحياة اليومية العربية التي لم تخطر ببال يوجين يونسكو، لا بنت خيال قطع صلته بالواقع قطعا بائنا وشائنا، كهذه العبارة "طيبة قهوة البنكي مع المازوت"(ص 25). مازوت السيارات وعربات الشحن، مازوت الهواء الملوث، مازوت الصفقات التي تفوح منها رائحة السياسة. كل صورة فنية في كتاب كابي تحيل إما إلى أزمة اجتماعية، أو أزمة سياسية، أو أزمة في التعبير، أو أزمة على مستوى طرابلس أو لبنان أو العالم العربي، حيث يسرّب، في كتابه، هواجسه تسريبا لا يخلو من فنية واقتدار، وهواجسه في مطرحها، لأنه خائف من شيء يشبه الكارثة الماحقة الساحقة، التي لن ترحم حتى أولئك الذين يرتّلون "المجد لأميركا في العلى وعلى الأرض الاستسلام!"(ص 39) ونحن لا نحرّك ساكنا ولا آسنا لتغيير الحال "أولكن في حدا عم يسرق ماضينا بلا ما نحسّ" (ص 129) يتساءل كابي، ونحن نعرف ان الجواب الدامي يخرج من أنقاض متحف بغداد!! البياض اللاذع انهي هذه القراءة العاجلة بالأجوبة الممسوحة، والممسوخة، بالأجوبة التي لا تقال، لان للجدران آذانا صاغية أكثر من اللزوم، وأكثر من آذان الناس في بلادي، كما يبدو. هذا ما تنمّ عنه صفحات "من مين خايفين" الأخيرة. يترك الكاتب ثلاث ورقات بيض في نهاية الكتاب، بعض الكتب تترك بعض الصفحات، ولكن بفارق دلالي هو ان كابي وضع عنوانا لهذه الورقات الثلاث هو عنوان الكتاب نفسه، والبياض لا يحتل هذه المساحة وحدها، بل انه يشاطر الكلمات وجودها في كل صفحة من صفحات الكتاب، لا يفصل الكلام عن البياض إلا خط عموديّ، متعرج، ومتقطع، كأنه قضيب حديد يصدأ في سجن أو كأنه يرتجف من الخوف، أو من أشياء أخر، وأحيانا ترافق بعض الصور/الذكريات الكلمات ولكنها لا تأخذ حصتها من المكان المخصص للكلام، وإنما من المكان المخصص للبياض، والصورة تحكي، حكيها بلا صوت. هل أراد كابي ان يطلب منا، عبر هذه التقنية، ان نصغي إلى صوت البياض الصاخب والكثيف الذي يلفنا كالكفن؟ حيادية الألوان حيلة مخادعة تنطلي على كثير من الناس، وخصوصا بلونها الأبيض البضّ الذي يتخذ من لون ريش الملائكة قناعا لتمرير خباثته. أرجو ان يجنبنا الله عقبى الألوان وشرورها.لا اعتقد ان طرابلس سوف تزعل منك يا كابي أو تغضب عليك لأنك قسوت عليها بعض قسوة، هنا أو هناك، فطرابلس قلبها طيب كقلب شيخها الجليل أنور بكري، كما إنها تعرف ان المدح ذبح من الوريد إلى الوريد
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق