يضطرّ الإنسان، في بعض الأحيان، للحفاظ على رَمَقِ العمر، إلى التخلّي عن صوته أوْ بالأَحْرى عن لغته الإنسانيّة، وإلى أنْ يَنْسى أيضاً، للحظاتٍ أو ساعاتٍ مريرةٍ، أنّه إنسان ناطق. الحاجةُ- وهي أمُّ الأصوات- قد تدفع الإنسان إلى أنْ يتحوّلَ كائناً نابحاً أيْ، بتعبيرٍ آخَرَ، كَلْباً. وهذا الأمرُ كان من الممارسات التي يلجأ إليها العربيّ حين تغدِرُ به رمالُ الصحراءِ المُتَلَوِّنة.وقد تكونُ هذه الممارسةُ موجودةً لدى أممٍ أخرى كانت تعيش حياةً مشابهةً. ليس غريباً، في أيِّ حالٍ، أنْ يقعَ إنسانٌ تحت تأْثيرِ كلب، كما ليس غريباً أنْ يغيّرَ الكلبُ من سلوكه الصوتيّ أيْ الحياتيّ بتأثير عِشْرَتِه للإنسان. هذا ما يقوله العالم الفرنسيّ بوريس سيرولنيك(Boris Cyrulnik) في كتابه: "الأغذية العاطفيّة"، حيث يبدأ مقدّمته، قبل الخوض في دهاليز العواطف الإنسانيّة، بالكلام على الفارق بين الكلب الأليف والكلب البرّيّ فيلحظ أنّ الكلب الأليف يَعْوِي أكثرَ من الكلب الذي يعيش حرّاً، طليقاً. المدنيّةُ وعِشْرةُ الناس علّمتاه "الثرثرة النُباحيّة"، أمّا الطبيعةُ حيثُ مستقرُّ عيشِه الفطريّ فقد أَعْطَتْهُ دَرْساً طريفاً في الأمثال مفادُه "إذا كان النُّباح من فضّة فالسكوت من ذهب". وحين يشرح سيرولنيك سببَ الفارقِ في النُّباح بين الكلب الأليف والآخر البرّيّ تجد أنّ تفسيرَه مُسْتَساغٌ بل ومنطقيٌّ جِدّاً. فليس للكلب، في البرِّيِّة، من يعيله غير نفسه ومهارته في الصَّيْد بخلاف الكلب المتمدّن، المدلّل، المرفّه الذي يشتري له صاحبُه البشريُّ ما لذّ وطاب من السوبرماركت. وصار من الدارج، في بلادنا كما في بلاد الغرب، أنْ تجدَ جناحاً في السوبرماركت مخصّصاً لمآكل الحيوانات الأليفة. وهذا الدَّلالُ جعل الكلبَ يأخذُ حريّتَه في الثرثرةِ لأنّ رزقه موفور، لمْ يَعُدْ يستدرُّه من الصَّمْت بخلافِ البرّيّ الذي يعتمد في تأمين غذائه على مجهودِه الشخصيِّ في الصَّيْد، ومهنةُ الصَّيْدِ لا تحبّ الثرثرةَ, والصيّادُ يعرفَ أَنّ عاقبةَ صوتِه وخيمةٌ قد تجعلَ اللقمةَ تطيرَ من الفم.
وللجاحظِ وغيرِه أيضاً أخبارٌ طريفةٌ عن الكلاب، ففي العربيّة كتابٌ تراثيٌّ غريبٌ يحمل عنواناً يثير القلقَ ويستأثر بالانتباهِ وهو: " تفضيلُ الكلابِ على كثيرٍ ممّن لَبِسَ الثِّياب " لابْنِ المَرْزُبَان. وفي كتاب "الحيوان" يتوقّف الجاحظ عند ظاهرةِ الإنسانِ الذي يرى أنّه لا مفرّ له، في بعض الظروف، من استبدال صوته الإنسانيّ بصوتٍ آخرَ مستلٍّ من أَلسنةِ الحيوانات. ويُعَدُّ الجاحظُ من أهمِّ وأعمقِ من سَبَرَ في كتابه العَفِيِّ "البيان والتبيين" عالمَ الأصواتِ وعيوبَ النُّطْقِ من لُثْغةٍ وتَأْتَأَةٍ ولَجْلَجَةٍ وغيرِها من أسقام الكلام. فالجاحظ كان "ابن شارع" بالمعنى النبيل والراقي لهذه الكلمة أيْ لَمْ يكنْ رجلاً مُنَظِّراً بلْ مَيْدانيّاً ينتمي إلى الناس العاديّين فلم يكنْ "بُرْجُوازِيّاً"، أو من سكّان الأبراج العاجيّة "الصَّفْراء"، وهي أبراجٌ لا تُمَكِّن الإنسان دائماً من أنْ يعرفَ ماذا يجري تحت قدمَيْه.
إنّ العربيّ فِلْذَةٌ من فِلْذات الصحراء. وللصحراء، فيما يبدو، شُروطٌ تَفْرُضُها على الإنسان كأنْ تَفْرُضَ عليه أنْ يتصرّفَ، أحياناً، تصرُّفاتٍ غَيْرَ إنسانيّة منها أنْ يَعْوِيَ ويَنْبَحَ. هذا ما كان يَحْدُثُ بحسب ما يرويه لنا الجاحظ. فالعربيّ كان مُعرَّضاً لأنْ يتيهَ أحياناً في الصحراء حيثُ يَتَهَدَّدُهُ العطشُ والجوعُ. ولا بدّ منْ أنْ يتدبّرَ أمرَ روحِه لينجوَ بجلده، فكان يستنجد بصوته ويروح يُحاكي نُباح الكلاب- واللسان صديقٌ وقتَ الضيق أو التيه - ويُسمّى ذلك العربيُّ الذي ينبَح بالمُسْتَنْبِح( طالب النُّباح) أيْ أنّه يَنْبَح ليس لأنّه هاوي نُباحٍ أوْ لأنّه مُغْرَمٌ بمحاكاةِ الأصوات الحيوانيّة وإنّما لأَنَّهُ مَحْكومٌ بسُلْطانِ الضَّرورة، وحين ينبَحُ، يحرّك ألسنة الكلاب الصامتة، يغريها بالردّ عليه، فتردّ تحيّتَه الملغومةَ بأحسنَ منها وأصدقَ، وهنا يعمد المُسْتَنْبِحُ إلى استخدام كلِّ طاقته السَّمْعيّة ليستدِلّ إلى مصدر النُّباح باعتباره طَوْقَ النجاة لأنَّ من حسناتِ الكلابِ أنّها لا تضيع، فحاسّةُ الشمِّ لديها تُطيح بأَحابيلِ الصحراء. والكلبُ لا بدَّ منْ أنْ يكونَ حارِساً لإِحْدى القبائل، وعليه فإنّ صوتَه يبشّر بدنوّ الفرج والخلاصِ من هلاكٍ مُرْتَقَب.
ولكنْ قد يُشْرِقُ الأملُ على يَأْسٍ مُباغِتٍ، فالصحراءُ مراوغةٌ، معروفةٌ بخداعها و"سرابها"، وقد تمكُر بالمستنبح فيقع فريسةَ خُدْعةٍ كأنْ يَتَبَيّنَ له أنّ النُّباحَ الذي سمعه ليس نُباحاً أصيلاً، خارجاً من شِدْقَيْ كلب وإنّما نُباحٌ مماثلٌ لنُباحِه، أَيْ مُزَيَّفٌ، مُفَخَّخٌ، مَصْدَرُهُ شَخْصٌ آخَرُ ضائِعٌ مِثْلُهُ في الصَّحْراء، يَسْعى إلى اصْطِيادِ نُباحٍ حَقيقيٍّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق