" إيران تقول عكس ما تفكّر فيه، وتفعل عكس ما تقوله، ولكن هذا لا يعني، بالضرورة، أنّها تفعل عكس ما تفكّر فيه " هذه العبارة لأحد السفراء الغربيين في إيران هي التي تستفتح بها "تيريز ديلبيش Thérèse Delpech" ذات الباع الطويل في الأمور النووية، كتابها "إيران، القنبلة، واستقالة الأمم"، الصادر حديثاً عن دار "اوتريمان" في باريس.
لا ريب في أن عبارة السفير الغربي تظهر الارتباك الكبير الذي تتخبط فيه الدول الكبرى والمعنية في معالجة الملفّ النووي الإيراني، والذي تحاول الكاتبة تفكيكه ودراسته من مختلف زواياه وتشعباته الإقليميّة والدوليّة، بل إن عبارة "استقالة الأمم" في العنوان توحي أيضاً بأنّ الكاتبة غير راضية عن مجرى المعالجة الدولية، بل إنها تدين في طيات كتابها الموقف الغربي برمته من حيث رخاوته ومهادنته في منعطفات كثيرة للمشروع النووي الإيراني. وهي ترى أن الوقت لا يرحم الأنظمة الديمقراطية بخلاف الأنظمة الديكتاتورية ذات السلطان الأكبر على الوقت، وإيران تلعب على كسب الوقت، وتمهر في فنّ المماطلة، لتفرض على غفلة من العالم واقعاً نووياً جديداً سوف يقلب، لا محالة، ليس خارطة الشرق الأوسط الراهن أو الجديد أو الكبير فقط رأساً على عقب وإنما العالم بأسره. من هنا فإن الكاتبة تؤكد على ضرورة السرعة في المعالجة قبل فوات الوقت، وترى ضرورة التهديد الفعليّ والصارم بنقل الملف إلى مجلس الأمن. وترى المؤلفة أن روسيا والصين على رغم المساعدة النووية لإيران، لا يطيقان، في نهاية الأمر، قنبلة نووية، تكون كالنار على حدودهم، وعلى طموحاتهم الذاتية والاستراتيجية أيضاً.
تشير إيران باستمرار إلى أن برنامجها النووي سلميّ الطابع ، ولكن الكاتبة تتساءل، إن كان فعلا سلميّاً، فلماذا هذه السرية؟ ولماذا هذه المماطلة والمراوغة في تعاملها مع الوكالة الدولية للطاقة النووية؟ ثم ان الكاتبة، على يقين من أن الهدف النووي الإيراني السلميّ ليس له أي ضرورة أو جدوى اقتصادية، لكون إيران قوة نفطية وغازيّة لا تحتاج إلى برنامج نووي لأغراض سلمية، لتخفيف العبء الاقتصادي، لأن غناها في الطاقة لا يستدعي البديل النووي، ثم إن تكاليف سعيها للحصول على الطاقة النووية بالليزر، مثلا، تفوق الطاقة الإنتاجية، بمعنى أن ما يعطي تبريرا للطاقة النووية هو الأسباب العسكرية وليس المدنية، وخصوصا أن كثيرا من الخبراء العسكريين الإيرانيين وغير الإيرانيين من صينيين وكوريين شماليين يعملون في المفاعلات النووية الإيرانية. وتشير المؤلفة أن إعلان إيران بأنها تسعى لأغراض سلمية، بحسب معاهدة منع الانتشار النووي، هو لعب على المعاهدة لأنها تخرق البند الأول والثاني اللذين يعلنان عدم تحويل النشاط النووي إلى أغراض عسكرية، وهما بندان اثبت تفتيش الوكالة النووية للطاقة عدم الالتزام بهما.
والكاتبة تبين أن الملف النووي شائك جدّا، لأنّ السياسي فيه يتداخل بالاقتصادي والاستراتيجي بل وبالإيديولوجي والديني أيضا. وهو ملفّ أخطبوطيّ التكوين وشديد التشعب والتمدد، من خلال الدول التي ساهمت سلبا أو إيجابا في كتابته باليورانيوم المخصب.
ولكلّ دولة حساباتها مع الملف النووي الإيراني، ولها قراءة خاصة له على ضوء مصالحها وأهدافها. والملف الإيراني مكتظ بأسماء الدول التي تساعد مباشرة أو مداورة الطموح النووي الإيراني: باكستان، الهند، الصين، كوريا الشمالية، جنوب إفريقيا، وكلّ تبعاً لأسبابه الخاصة.
وحين تعالج الكاتبة الموقف الأميركي ترى انه موقف تتحكم فيه عناصر كثيرة، من جملتها الورطة التي انزلقت إليها في العراق وفي أفغانستان. إن أميركا لدى دخولها إلى العراق أزاحت من درب إيران عدوا كلفها مئات الآلاف من الضحايا، والخسائر الاقتصادية، كما إنها بإزاحتها طالبان من الحكم في أفغانستان أزاحت أيضا من درب إيران عدوا إيديولوجيا شرساً، وتخشى أميركا أيضا من أن تفسح أزمة مفتوحة مع إيران المجال لكوريا الشمالية بان تقوم بتجربة نووية تغير المعطيات الاستراتيجية في الشرق الأقصى. وترى الكاتبة أن أمريكا رغم ميزانيتها الدفاعية التي تفوق ألـ 400 مليار دولار، ورغم قوتها العسكرية الأعظم في العالم، تبدو إنها مشلولة القدرة وذلك بسبب أن الدول الأوروبية الكبرى الثلاث (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) لا تحبّذ قيام أميركا بمغامرة عسكرية جديدة في الشرق الأوسط. ولكن الكاتبة لا تستبعد أن تقوم أميركا حين تتيقن تماماً من أن التهديد النووي الإيراني بات بحكم المؤكد من شنّ عمل عسكري لوضع حدّ لطموح إيران النووي، لأن السلاح النووي الإيراني، في حال وجوده، له كلفة لا تتحملها أميركا وهي كلفة تفوق، في نظر المؤلفة، الكلفة العسكرية. لان النووي الإيراني سوف يهدد بمحو كل الخرائط التي رسمتها وترسمها أميركا للشرق الأوسط تحت كلّ مسمياته. وتعتبر الكاتبة إن أميركا تحتاج إلى سياسة إيرانية حقيقية إذا لم تكن إدارة بوش راغبة في أن يكون مآلها مشابهاً لمآل إدارة كارتر مع إضافة فصل جديد هو "الملف النووي " تحديداً.
حين تتناول الكاتبة الموقف الهندي من الملف النووي تشير إلى عدة نقاط منها أن الهند تغضّ الطرف عن طموح إيران النووي بسبب وجود ما لا يقل عن 25 مليون هندي ينتمون إلى المذهب الشيعيّ، مع ما يعنيه ذلك القرب الإيديولوجيّ من مخاطرة واحتمال إثارة قلاقل في حال لجوء الهند إلى موقف صارم من "النووي الإيراني"، فضلا عن أن الهند لا يمكنها أن تدافع بحماس عن معاهدة حظر الانتشار النووي لأنها ليست من الدول الموقعة عليها.
ترى الكاتبة إن حل مشكلة هذا الملف ضرورة أكثر من دولية لأن الشرق الأوسط ببنيته السياسية الهشة لا يحتمل القنبلة النووية، وحصول إيران عليها ، سوف يغير من شروط اللعبة الشرق أوسطية كثيرا، والموقع الاستراتيجي الحيوي لهذه المنطقة سوف يفسد اللعبة على الكبار، كما إنّ السعي إلى امتلاك القنبلة بحسب المؤلفة لا يعني أنها تريد أن تكون لاعبا إقليمياً وحسب ، حيث نرى أذرعتها في لبنان، وفلسطين، والعراق، بل لاعب يتعدى حجم ملعبه مساحة الشرق الأوسط. والصواريخ التي يتعدى مداها الـ2000 كلم تفصح عن الدور الذي تريد إيران أن تلعبه في العالم.
تعتبر الكاتبة لدى مقاربتها الموقف الإسرائيلي من الملف النووي الإيراني، إن الرغبة النووية الإيرانية بدأت حين كانت إيران على علاقة طيبة واستراتيجية مع إسرائيل أيام الشاه في السبعينات، ممّا يعني أنّ السبب الاستراتيجيّ يتعدى الموقف الإيديولوجي الراهن، كما انه لا يمكن إغفال إن المشروع النووي بوشر العمل فيه مجدّداً عام 1985 أي في الفترة التي كانت فيها إيران داخلة في حرب مع العراق، وكان الخيار النووي الإيراني وليد الرغبة في تحصين الذات من السلاح الكيميائيّ العراقي الذي استخدمه صدام حسين ضد الجيش الإيراني منذ عام 1983. وتقول المؤلفة رغم أن إسرائيل ليست هي الدافع إلى الخيار النووي إلاّ أنّ إيران تستخدم الورقة الإسرائيلية بامتياز في المنطقة، خصوصا أن النووي الإسرائيلي الذي لا يحرّك ساكناً أو شعرةً في المجتمعات الدولية يثير حفيظة سكّان منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما يوفّر على إيران ردود فعلية ظاهرة السلبية، وجهيرة الصوت، على طموحها النووي من الدول العربية. وموقف الرئيس الإيراني أحمد نجاد وكلامه الناري عن إسرائيل باعتبارها ورما خبيثا في جسد المنطقة، والدعوة إلى محوها يثير مخاوف إسرائيلية كثيرة، لأنّ حصول إيران على النووي، من منظور إسرائيل، سوف يعزز من مواقف الجهات المتطرفة في المنطقة، وإنّ حصول إيران على السلاح النووي سوف يفتح المجال أمام دول أخرى في المنطقة للانسحاب من" معاهدة حظر الانتشار النووي"، والاندفاع المحموم للحصول على الردع النووي مما يجعل وضع إسرائيل في المنطقة مسألة حياة أو موت، كما تقول المؤلفة، ويسقط من يدها العسكرية الاستئثار بالقدرة النووية الرادعة. إن الخيار الإسرائيلي في مواجهة النووي الإيراني حاليّاً، بحسب الكاتبة، هو اللجوء إلى الدبلوماسية ومساندة مسعى الدول الغربية، ولكن في حال فشل المسعى الدبلوماسي فإنّ أمام إسرائيل، كما ترى الكاتبة، عدة احتمالات منها: ضرب المواقع النووية الحسّاسة لأنه من غير الممكن تدمير مشروع إيران النوويّ بالكامل بسبب توزيعه على أكثر من منطقة في إيران الشاسعة جغرافيا ، بل وتذهب الكاتبة إلى أن إسرائيل لا تستبعد ضرب مراكز السلطة في إيران ، ولكن إسرائيل تفضل أن تقوم أميركا بهذه المبادرة العسكرية التي ستكون كلفتها السياسية ربما أكثر مما يمكن لإسرائيل أن تحتمله، لأنّ لا أحد يعرف عواقب مغامرة من هذا النوع على إسرائيل.
تعتبر الكاتبة، في أيّ حال، انه لا بدّ من العمل العسكري في نهاية المطاف، بعد أن تُسدّ كلّ السبل الدبلوماسية والاقتصاديّة. فالوقت غدّار لا يؤمن له، وقد يغدر أول ما يغدر بالدول الغربية التي تسعى ببطء إلى إيقاف لعبة "البوكر النووي الإيراني".
وتتكلّم الكاتبة عن خصوم القنبلة النووية في العالم العربي أيضاً، فليس من مصلحة أي دولة عربية أن تمتلك إيران القنبلة النووية، لأن ذلك كفيل في ظلّ التشجنات الطائفية والتوتّرات السياسيّة أنْ يخلط الأوراق خلطاً متفجراً شبيهاً بـ"كوكتيل مولوتوف".
يخرج قارىء الكتاب بخلاصة سوداء مفادها إن غيوما ملبدة كثيرة تسدّ أفق هذا الشرق الذي يعيش فيما يبدو على كفّ عفريت نوويّ، وإنّ إيران تسعى بكلّ إمكانياتها الدبلوماسية والاستراتيجية ودبلوماسية النفط والغاز ودبلوماسية المراوغة على إنجاز طموحها من دون بوادر انفراج تملأ السلّة الغربية بالرضا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق