قد يحصل في الدنيا أنْ يُؤذي شخص ما شخصاً آخر عن غير قصد، فيقوم الشخص المتأذّي بالردّ على الأذيّة باعتبارها مقصودةً ضدّ الشخص الذي لم يكن يتقصّد الأذى، ويضاف إلى ذلك نقطة أخرى هي أنّ العلاقة بين الطرفين قد لا تكون متكافئة لا من حيث القوّة، ولا من حيث العمر. هذا ما تظهره الحكاية التالية التي سمعتها من شخص شارف عمره على النضوب وهو يسردها من باب ذكريات الطفولة الطريفة، ووجدت أنّ روايتها للقرّاء لا تخلو، بدورها، من بعض الفائدة.
نعرف أنّ الطفل - وليس الطفل وحده- يحبّ اللعب. غريزة اللعب فطريةٌ لدى الإنسان. واللعب أشكال وألوان منه ما لا يشكّل خطراً على اللاعب ومنه ما يكون ثمنه باهظاً هو حياة اللاعب نفسه كسباق الدرّاجات الناريّة مثلاً أو مصارعة الثيران، وثمّة لعب بريء وخصوصاً لدى الصغار حتى وإن كان من باب شقاوة الأطفال كما يقال. كان طفل في الثانية عشرة من العمر وزميله يلعبان بالكرة. وهي كرة صغيرة الحجم ككرة الطاولة ولكنها كرة ذاتية الصنع من مادة المعجون الذي يستعمله الطلاب في المدارس لتشكيل ما يحلو لهم ولإبراز مهاراتهم ومواهبهم في فنّ النحت. قرّر الولدان بمنتهى العفويّة أن يمارسا مهارتهما في لقط كرة المعجون بعد رميها في الهواء فتقاسما ضفّتي أحد الشوارع، وقف كلّ طفل على رصيف وراح يرمي الكرة لزميله على ضفّة الشارع الأخرى، وكانا يتجنّبان إيذاء أحد او التغالظ على أحد فليس في بالهما إلاّ التقاط كرة المعجون الطائرة. شاءت الصدف أن تعبر الشارع سيارة، والدنيا كانت في فصل الصيف، وفي زمن لم يكن المكيّف متوفراً في كلّ السيارات ممّا يدفع السائق الى فتح زجاج نافذته لاتقاء لسعات الحرارة. وصلت السيارة في الوقت الذي كانت تعبر فيه الكرة الشارع ولكن منخفضة قليلاً. وشاءت المصادفة أيضاً أن تدخل الكرة من شباك السيارة إلى وجه السائق الذي فار غضبه وقرّر تلقين الولدين درساً يعلّم على الجلد فأوقف السيارة ونزل منها لملاحقتهما ولا سيّما إنّ القيظ لا يرحم الأعصاب المبلّلة بالعرق والرطوبة.
طبعاً خاف الولدان ومجموع عمرهما لا يتعدّى عمر السائق فلم يكن أمامهما إلاّ الفرار للنجاة بجلدهما من السائق الذي يستعدّ للانقضاض عليهما. الولدان لم يستسلما للرعب ولم يذعنا لفارق العمر وقرّرا المواجهة والدفاع عن النفس وعدم السماح للسائق بالانتصار. لم يخطر ببال أحدهما أن ينهزم أو أن تنقلب لعبته التي لم يقصد بها إيذاء أحد إلى مجلبة لضرر يلحق بهما. ولكن لا تخلو الدنيا من أحزان غير منظورة، ولا من أفراح غير منظورة، ولا من أفكار غير منظورة. ومن فكّر في أثر غير المنظور على حياته الشخصيّة لرأى أحياناً أنّ حياته كلّها وليدة أمر غير منظور لم يكن في الحسبان، من صداقاته إلى زواجه إلى حياته المهنية. وهنا أستحضر عبارة شهيرة صارت مثلاً: "أردتُ عمراً وأراد اللهُ خارجةَ". طبعاً، لحظات كثيرة مرّت في خيال أحد الولدين. المسافة بين إصابة وجه السائق بكرة المعجون ونزوله من السيّارة ليست كبيرة. ولكن الانسان يكون، في لحظات الخوف، أمام احتمالين إمّا أن يشلّ الخوف قدرته على الحركة والتفكير وإمّا أن يصير التفكير يتحرّك بسرعة الضوء للخلاص من الخطر. لأنّ جنرال "الوقت" كما يقال هو من يحدّد مسرى الأمور. تفتّق ذهن أحد الولدين عن استراتيجيّة دفاعية يأْمنا بها انتقام السائق، فاندفاعه نحوهما لا يبشّر أجسادهما الغضّة بالخير. والهروب هو الحلّ الوحيد أمام الطفلين. ردّ الفعل العفويّ للضعيف هو أن يهرب لا أن يواجه. وهما قرّرا الهروب والمواجهة في آن واحد أي ممارسة لعبة الكرّ والفرّ. تقاسما الأدوار: طفل يكرّ وطفل يفرّ. وهكذا انقسما إلى قسمين ولاذا بالفرار ولكن في اتّجاهين متعاكسين ممّا أفقد الرجل القدرة على اللحاق بالاثنين معاً أي أنّهما ومنذ المرحلة الأولى حسما نصف المعركة إن جاز القول، إذ لم يعد بمقدور الرجل إلاّ لقط طفل واحد. ولكن الثاني لن ينجو بجلده أيّاً كان هذا الثاني، فالعمل بينهما كان يتمّ كعملية الشهيق والزفير. اتفقا بسرعة البرق أن لا يسمح غير المطارَد للسائق بمطاردة زميله عن طريق تبادل الأدوار، وهذا ما كان. لم يستطع الرجل متابعة اللحاق بالولد ليس بسبب اختلاف السرعة بين الصغير والكبير، فالكبير لم يكن عجوزاً لا يقدر على الركض وانما كان في عزّ الشباب. وسبب عجز السائق الشابّ عن مطاردة الفتى هو أنّ الشخض غير المطارَد كان يطارد السائق ويرشقه بالحجارة الصغيرة التي يلتقطها من ضفاف الشارع ويقول للسائق وهو يرشقه بالحجارة:"الحقني أنا إن كنت رجلاً". كانت رجولة الشابّ تنتفض من كلام الطفل الذي يطارده ويستفزّه من الخلف بلسانه وحجارته فيدع المطارَد ويطارد الثاني الذي أثار غيظه. وهنا يترك الطفل لعبة الحجارة ويفرّ بكلّ ما يسمح له خوفه من السائق ولكنّ الطفل الثاني لا يتنفّس الصعداء لأنّ السائق توقّف عن اللحاق به وإنّما يقوم بدور المطارِد الذي كان يقوم به زميله. تمنّى السائق لو يصير رجلين لينتقم من الطفلين ولكن أنّى له تحقيق هذه الأمنية السوريالية؟
انتهى الكرّ والفرّ بين الطفلين والشابّ الى استسلام واعتراف مضمر للشابّ بخسارته أمام الطفلين فعاد إلى سيارته وهو يشتم ويلعن الولَدين اللذين لم يقدر على تصفية حسابه معهما. في حين أنّ الطفلين عادا إلى السير في اتجاه واحد بعد تأكدّهما من أنّ السيارة توارت تماماً عن الانظار ثم غادرا أرصفة اللعب بسرعة إلى مكان آخر، فهما لا يثقان كثيراً بعجلات السيارة التي توارت عن الأنظار، فقد لا يستسلم السائق بسهولة وقد ينعطف إليهما خفيةً فوجدا أنّه من الأجدى تغيير الشارع.
لقد كان الطفلان يمارسان، عن غير وعي منهما، ما يمكن أن يسمّى باستراتيجيّة "الرأس والذَّيل" التي لا تسمح للطرف المقابل باستجماع كلّ قوته لصبّها في مكان واحد، كما أنّها على نقيض استراتيجية "فَرِّقْ تَسُدْ" وهو ما يمكن إيجازه بعبارة "تَفَرَّقْ تَسُدْ".
نعرف أنّ الطفل - وليس الطفل وحده- يحبّ اللعب. غريزة اللعب فطريةٌ لدى الإنسان. واللعب أشكال وألوان منه ما لا يشكّل خطراً على اللاعب ومنه ما يكون ثمنه باهظاً هو حياة اللاعب نفسه كسباق الدرّاجات الناريّة مثلاً أو مصارعة الثيران، وثمّة لعب بريء وخصوصاً لدى الصغار حتى وإن كان من باب شقاوة الأطفال كما يقال. كان طفل في الثانية عشرة من العمر وزميله يلعبان بالكرة. وهي كرة صغيرة الحجم ككرة الطاولة ولكنها كرة ذاتية الصنع من مادة المعجون الذي يستعمله الطلاب في المدارس لتشكيل ما يحلو لهم ولإبراز مهاراتهم ومواهبهم في فنّ النحت. قرّر الولدان بمنتهى العفويّة أن يمارسا مهارتهما في لقط كرة المعجون بعد رميها في الهواء فتقاسما ضفّتي أحد الشوارع، وقف كلّ طفل على رصيف وراح يرمي الكرة لزميله على ضفّة الشارع الأخرى، وكانا يتجنّبان إيذاء أحد او التغالظ على أحد فليس في بالهما إلاّ التقاط كرة المعجون الطائرة. شاءت الصدف أن تعبر الشارع سيارة، والدنيا كانت في فصل الصيف، وفي زمن لم يكن المكيّف متوفراً في كلّ السيارات ممّا يدفع السائق الى فتح زجاج نافذته لاتقاء لسعات الحرارة. وصلت السيارة في الوقت الذي كانت تعبر فيه الكرة الشارع ولكن منخفضة قليلاً. وشاءت المصادفة أيضاً أن تدخل الكرة من شباك السيارة إلى وجه السائق الذي فار غضبه وقرّر تلقين الولدين درساً يعلّم على الجلد فأوقف السيارة ونزل منها لملاحقتهما ولا سيّما إنّ القيظ لا يرحم الأعصاب المبلّلة بالعرق والرطوبة.
طبعاً خاف الولدان ومجموع عمرهما لا يتعدّى عمر السائق فلم يكن أمامهما إلاّ الفرار للنجاة بجلدهما من السائق الذي يستعدّ للانقضاض عليهما. الولدان لم يستسلما للرعب ولم يذعنا لفارق العمر وقرّرا المواجهة والدفاع عن النفس وعدم السماح للسائق بالانتصار. لم يخطر ببال أحدهما أن ينهزم أو أن تنقلب لعبته التي لم يقصد بها إيذاء أحد إلى مجلبة لضرر يلحق بهما. ولكن لا تخلو الدنيا من أحزان غير منظورة، ولا من أفراح غير منظورة، ولا من أفكار غير منظورة. ومن فكّر في أثر غير المنظور على حياته الشخصيّة لرأى أحياناً أنّ حياته كلّها وليدة أمر غير منظور لم يكن في الحسبان، من صداقاته إلى زواجه إلى حياته المهنية. وهنا أستحضر عبارة شهيرة صارت مثلاً: "أردتُ عمراً وأراد اللهُ خارجةَ". طبعاً، لحظات كثيرة مرّت في خيال أحد الولدين. المسافة بين إصابة وجه السائق بكرة المعجون ونزوله من السيّارة ليست كبيرة. ولكن الانسان يكون، في لحظات الخوف، أمام احتمالين إمّا أن يشلّ الخوف قدرته على الحركة والتفكير وإمّا أن يصير التفكير يتحرّك بسرعة الضوء للخلاص من الخطر. لأنّ جنرال "الوقت" كما يقال هو من يحدّد مسرى الأمور. تفتّق ذهن أحد الولدين عن استراتيجيّة دفاعية يأْمنا بها انتقام السائق، فاندفاعه نحوهما لا يبشّر أجسادهما الغضّة بالخير. والهروب هو الحلّ الوحيد أمام الطفلين. ردّ الفعل العفويّ للضعيف هو أن يهرب لا أن يواجه. وهما قرّرا الهروب والمواجهة في آن واحد أي ممارسة لعبة الكرّ والفرّ. تقاسما الأدوار: طفل يكرّ وطفل يفرّ. وهكذا انقسما إلى قسمين ولاذا بالفرار ولكن في اتّجاهين متعاكسين ممّا أفقد الرجل القدرة على اللحاق بالاثنين معاً أي أنّهما ومنذ المرحلة الأولى حسما نصف المعركة إن جاز القول، إذ لم يعد بمقدور الرجل إلاّ لقط طفل واحد. ولكن الثاني لن ينجو بجلده أيّاً كان هذا الثاني، فالعمل بينهما كان يتمّ كعملية الشهيق والزفير. اتفقا بسرعة البرق أن لا يسمح غير المطارَد للسائق بمطاردة زميله عن طريق تبادل الأدوار، وهذا ما كان. لم يستطع الرجل متابعة اللحاق بالولد ليس بسبب اختلاف السرعة بين الصغير والكبير، فالكبير لم يكن عجوزاً لا يقدر على الركض وانما كان في عزّ الشباب. وسبب عجز السائق الشابّ عن مطاردة الفتى هو أنّ الشخض غير المطارَد كان يطارد السائق ويرشقه بالحجارة الصغيرة التي يلتقطها من ضفاف الشارع ويقول للسائق وهو يرشقه بالحجارة:"الحقني أنا إن كنت رجلاً". كانت رجولة الشابّ تنتفض من كلام الطفل الذي يطارده ويستفزّه من الخلف بلسانه وحجارته فيدع المطارَد ويطارد الثاني الذي أثار غيظه. وهنا يترك الطفل لعبة الحجارة ويفرّ بكلّ ما يسمح له خوفه من السائق ولكنّ الطفل الثاني لا يتنفّس الصعداء لأنّ السائق توقّف عن اللحاق به وإنّما يقوم بدور المطارِد الذي كان يقوم به زميله. تمنّى السائق لو يصير رجلين لينتقم من الطفلين ولكن أنّى له تحقيق هذه الأمنية السوريالية؟
انتهى الكرّ والفرّ بين الطفلين والشابّ الى استسلام واعتراف مضمر للشابّ بخسارته أمام الطفلين فعاد إلى سيارته وهو يشتم ويلعن الولَدين اللذين لم يقدر على تصفية حسابه معهما. في حين أنّ الطفلين عادا إلى السير في اتجاه واحد بعد تأكدّهما من أنّ السيارة توارت تماماً عن الانظار ثم غادرا أرصفة اللعب بسرعة إلى مكان آخر، فهما لا يثقان كثيراً بعجلات السيارة التي توارت عن الأنظار، فقد لا يستسلم السائق بسهولة وقد ينعطف إليهما خفيةً فوجدا أنّه من الأجدى تغيير الشارع.
لقد كان الطفلان يمارسان، عن غير وعي منهما، ما يمكن أن يسمّى باستراتيجيّة "الرأس والذَّيل" التي لا تسمح للطرف المقابل باستجماع كلّ قوته لصبّها في مكان واحد، كما أنّها على نقيض استراتيجية "فَرِّقْ تَسُدْ" وهو ما يمكن إيجازه بعبارة "تَفَرَّقْ تَسُدْ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق