كان النبيّ سليمان من المحظوظين جدّاً لأنّه برع في فكّ دلالة أصوات الحيوانات، ورصد حتّى وشوشاتهم الخفيضة، فعاش تجربة ممتعة وفريدة من نوعها دفعته إلى الابتسام من أقاويلهم ومحاوراتهم الشخصيّة. ولكن الناس العاديين لم ييأسوا من جهلهم بأحاديث الحيوانات، فاعتمدوا على فراستهم وخيالهم لتوليد قصص وحكايات لا تنفد عن طبائع الحيوانات وأمزجتهم. وكان جزء كثير من هذه الحكايات يملأ رؤوس الأطفال بالدهشة والمحبة لشركائنا في الأرض. وثمّة أسماء أدبية كان للحيوانات فضل كبير على إبقائها حيّة في الأفواه كابن المقفع والجاحظ وابن البيطار وفريد الدين العطّار صاحب الكتاب اللطيف "منطق الطير". كما لا ننسى أنّ الإنسان العربيّ لا يزال يختار، إلى اليوم، لأبنائه وبناته أسماء مأخوذة من الحقل الحيوانيّ كليث ونمر وأسامة وصقر وكليب وريم والسلسلة تطول.
ولم تخل مجموعة بشريّة من علاقة طيبة مع بعض الحيوانات، ومن تأليف حكايات أليفة وداجنة عنهم، كما لم يفت السينما والتلفزيون والقصص المصوّرة أحياناً إعطاء الحيوانات أدوار البطولة على حساب البشر.
وقرأت منذ فترة حكاية بطلها ديك. والحكاية محاولة تفسير طريف لسؤال عن عُرْف الديك. ومن فضائل الإنسان انه فضولي يريد أن يعرف مبتدأ الشيء وخبره. وتدور الحكاية حول الأسباب التي لوّنت عُرْف الديك باللون الأحمر. تقول الحكاية إنّ الديك كان يتنزّه، في أحد الأيام، مع إحدى البطّات على ضفة نهر، وكان بين وقت وآخر ينظر من طرف عينه إلى مشية البطة، ويتلفظ منقاره بكلام ينمّ عن تكبّر واستعلاء، فقال للبطّة متبجّحاً: أين مشيتي من مشيتك! فأنا أمشي منتصباً كالرمح وأنت تمشين وكأنّك تعرجين. انظري إلى ساقيّ الدقيقتين الممشوقتين وقارنيهما بساقيك القصيرتين وقدميك المفرطحتين كورقتي جوز! وكان طوال الطريق يعرض مفاتنه الجسدية وكأنّه نسي أنّه يحكي مع بطّة وليس مع دجاجة ممسوخة العُرْف. فقد تتحمّل الدجاجة تبجحه ولكن البطة غير مضطرّة لتبجّحه ولا لرفقته وهو نازل في مشيتها تهشيماً وتحقيراً. انظري إلى الجلد بين أصابع قدميك وكيف يجعلك تترنّحين يميناً ويساراً كمن يتعتعه السكر. وللصبر، عند البطّة، حدود. فرنت إليه وأرادت أن تغمز من قناة جناحيه، وقالت له: أنت تملك جناحين رائعين أيضاً فلماذا لا أراك تطير مثلي؟ ثارت نخوة الديك وانتفض ريش بدنه ولم تقبل كرامته أن يسقط في فخّ كلام البطة الخبيثة فيبدو وكأنّه مكسور الجناح، فخاطبها بنمردة وعنطزة: ومن قال لك أيّتها البطّة الحمقاء كإوزّة إنني لا أطير؟ ثم قام من فوره بنشر جناحيه الملوّنين قائلاً لها من طرف منقاره: سترين طيراني. وكأنّ الطيران بالألوان! ثمّ قفز في الفضاء وراح - بعد أن أعماه غروره- يطير صوب الضفّة الأخرى للنهر، وما إن حلّق قليلاً حتّى خانه جناحاه المترفان وسقط في الماء وراح يخبط بجناحيه وقدميه يميناً وشمالاً، محاولاً الخروج من النهر الذي لم يرأف بحاله.
كانت البطّة واقفة تتأمّل بهدوء من يثق بقدميه المفرطحتين منظر الديك المذعور، وهو يصارع التيّار، إلى أن أطلق صيحة متقطّعة تستجدي النجدة من البطّة. لم تكن البطّة تنتظر غير سماع هذه الكلمة، فقفزت ساعتئذ إلى الماء وغاصت كالسهم ثم رفعته من تحت الماء إلى الفضاء وهو يسعل كمدخّن عجوز، وأنزلته على ضفة البرّ وهو مقطوع الحيْل والأنفاس، وصارت تخرج من منقاره أصوات تشبه القأقأة أكثر مما تشبه صياحه المعهود. وقالت له: هل تعرف لمن الفضل في إنقاذك من براثن النهر؟ كلّ الفضل يا صديقي يعود لقدميّ المفرطحتين كورقتي جوز، ولهذه الوصلات الجلدية بين أصابعي! وفي هذه اللحظة احمرّ وجه الديك وعُرْفه من الخجل. ومن يومها والدّيك يحمل هذا العُرْف الأحمر فوق رأسه. ولكن يبدو أنّ أحفاد الديك نسوا أسباب احمرار أعرافهم، ونسوا أيضاً موقف البطّة، وعادوا إلى فطرتهم الأولى وراحوا ينسجون حول أعرافهم أقاصيص من نسج خيالهم تعزّز من موقفهم المستعلي ولا تمتّ بصلة إلى واقعة النهر.
وما يعتبره الديك، اليوم، زينة تكلّل قمّة رأسه ليس أكثر من إكليل عار ولحظة انكسار وتوبة مبلّلة بالخجل في شكل زائدة لحميّة حمراء. البطّة تعرف ذلك وقارىء هذه الحكاية أيضاً، ولا أعرف ما إذا كانت حكاية العُرْف واردة في كتاب الأديب الفلسطينيّ الراحل إسحاق موسى الحسيني "مذكّرات دجاجة"!
ولم تخل مجموعة بشريّة من علاقة طيبة مع بعض الحيوانات، ومن تأليف حكايات أليفة وداجنة عنهم، كما لم يفت السينما والتلفزيون والقصص المصوّرة أحياناً إعطاء الحيوانات أدوار البطولة على حساب البشر.
وقرأت منذ فترة حكاية بطلها ديك. والحكاية محاولة تفسير طريف لسؤال عن عُرْف الديك. ومن فضائل الإنسان انه فضولي يريد أن يعرف مبتدأ الشيء وخبره. وتدور الحكاية حول الأسباب التي لوّنت عُرْف الديك باللون الأحمر. تقول الحكاية إنّ الديك كان يتنزّه، في أحد الأيام، مع إحدى البطّات على ضفة نهر، وكان بين وقت وآخر ينظر من طرف عينه إلى مشية البطة، ويتلفظ منقاره بكلام ينمّ عن تكبّر واستعلاء، فقال للبطّة متبجّحاً: أين مشيتي من مشيتك! فأنا أمشي منتصباً كالرمح وأنت تمشين وكأنّك تعرجين. انظري إلى ساقيّ الدقيقتين الممشوقتين وقارنيهما بساقيك القصيرتين وقدميك المفرطحتين كورقتي جوز! وكان طوال الطريق يعرض مفاتنه الجسدية وكأنّه نسي أنّه يحكي مع بطّة وليس مع دجاجة ممسوخة العُرْف. فقد تتحمّل الدجاجة تبجحه ولكن البطة غير مضطرّة لتبجّحه ولا لرفقته وهو نازل في مشيتها تهشيماً وتحقيراً. انظري إلى الجلد بين أصابع قدميك وكيف يجعلك تترنّحين يميناً ويساراً كمن يتعتعه السكر. وللصبر، عند البطّة، حدود. فرنت إليه وأرادت أن تغمز من قناة جناحيه، وقالت له: أنت تملك جناحين رائعين أيضاً فلماذا لا أراك تطير مثلي؟ ثارت نخوة الديك وانتفض ريش بدنه ولم تقبل كرامته أن يسقط في فخّ كلام البطة الخبيثة فيبدو وكأنّه مكسور الجناح، فخاطبها بنمردة وعنطزة: ومن قال لك أيّتها البطّة الحمقاء كإوزّة إنني لا أطير؟ ثم قام من فوره بنشر جناحيه الملوّنين قائلاً لها من طرف منقاره: سترين طيراني. وكأنّ الطيران بالألوان! ثمّ قفز في الفضاء وراح - بعد أن أعماه غروره- يطير صوب الضفّة الأخرى للنهر، وما إن حلّق قليلاً حتّى خانه جناحاه المترفان وسقط في الماء وراح يخبط بجناحيه وقدميه يميناً وشمالاً، محاولاً الخروج من النهر الذي لم يرأف بحاله.
كانت البطّة واقفة تتأمّل بهدوء من يثق بقدميه المفرطحتين منظر الديك المذعور، وهو يصارع التيّار، إلى أن أطلق صيحة متقطّعة تستجدي النجدة من البطّة. لم تكن البطّة تنتظر غير سماع هذه الكلمة، فقفزت ساعتئذ إلى الماء وغاصت كالسهم ثم رفعته من تحت الماء إلى الفضاء وهو يسعل كمدخّن عجوز، وأنزلته على ضفة البرّ وهو مقطوع الحيْل والأنفاس، وصارت تخرج من منقاره أصوات تشبه القأقأة أكثر مما تشبه صياحه المعهود. وقالت له: هل تعرف لمن الفضل في إنقاذك من براثن النهر؟ كلّ الفضل يا صديقي يعود لقدميّ المفرطحتين كورقتي جوز، ولهذه الوصلات الجلدية بين أصابعي! وفي هذه اللحظة احمرّ وجه الديك وعُرْفه من الخجل. ومن يومها والدّيك يحمل هذا العُرْف الأحمر فوق رأسه. ولكن يبدو أنّ أحفاد الديك نسوا أسباب احمرار أعرافهم، ونسوا أيضاً موقف البطّة، وعادوا إلى فطرتهم الأولى وراحوا ينسجون حول أعرافهم أقاصيص من نسج خيالهم تعزّز من موقفهم المستعلي ولا تمتّ بصلة إلى واقعة النهر.
وما يعتبره الديك، اليوم، زينة تكلّل قمّة رأسه ليس أكثر من إكليل عار ولحظة انكسار وتوبة مبلّلة بالخجل في شكل زائدة لحميّة حمراء. البطّة تعرف ذلك وقارىء هذه الحكاية أيضاً، ولا أعرف ما إذا كانت حكاية العُرْف واردة في كتاب الأديب الفلسطينيّ الراحل إسحاق موسى الحسيني "مذكّرات دجاجة"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق