ثمّة عبارة تدرّس في كليّة الإعلام مفادها أنّ جملة " كلب عضّ رجلا" عاديّة، لا قيمة لها إعلاميّة أو اخبارية، بخلاف جملة "رجل عضّ كلباً" فهي إعلاميّة بامتياز لأنّها تحمل خبراً يغاير سنّة العضّ.
قرأت مرّة في إحدى الجرائد العربيّة خبراً، لم يغب عن ذاكرتي، يحكي قصّة رجل عضّ، دفاعاً عن النفس، كلباً من حلقه فأرداه قتيلاً. وثمّة قصّة أخرى لم تنته، داميةً، كسابقتها وقعت أحداثها في أحد شوارع العاصمة الفرنسيّة، وهي لا تخلو من طرافة.
كان أحد الأشخاص من الجالية العربيّة قد اطمأنّ إلى أخلاق الكلاب الباريسية الحميدة إلاّ انّه في إحدى المرّات وبينما كان يتمشّى هجم عليه كلب على حين غفلة. صار يركض والكلب يركض وراءه. الهروب عفويّ وطبيعيّ ولكن الرجل انتبه إلى أنّ الكلب يركض بيديه ورجليه في حين أنّه وهو "الكائن المنتصب" لا يستعمل إلاّ رجليه أي أنّ الركض لن يكون في الأخير إلا لصالح الكلب حتّى ولو استنجد بقدمَيْ شيبوب، شقيق عنترة العبسيّ. ومن يدري؟ فقد يثب الكلب، وجسده طيّع للوثب، ويستحكم بعضّه، غدراً، من خلف. لم يتحمّل أبداً أن يكون معضوضاً. شعر أنّ العضّة إهانة سوف تغرز أنيابها في روحه وذاكرته غرزاً لن يلتئم مدى الحياة. دارت آلاف الأفكار في رأسه وهو يركض. والمعروف أنّ الإنسان تتضاعف، في لحظة الخطر، قدراته الفكريّة أو تنهار.
فجأة وقف الرجل وأدار وجهه للكلب. جمد لاهثا في أرضه وجمد الكلب أيضا! وقف الرجل لأنّه تذكّر قولاً قاله له خاله القرويّ الخبير ببعض طباع الكلاب من باب النصيحة وهو أنّ الوقوف أمام الكلب خير وسيلة لشلّ فكّيه. عينا الرجل القلقتان محدقتان في عيني الكلب. الكلب يعوي وهو واقف كالسيخ لا يهتزّ. توقّع أن يأتي أحد لنجدته من عضّة محتملة, ولكن لا أحد. قال الرجل: قد يتعاطف الناس مع الكلب! فسحنتي شرقيّة، وقد يظنّ الناس أنّني أنا من هوّشت الكلب أو تحرّشت ببراءة أنيابه. أمّا سحنة الكلب فهي، أيا كانت، أليفة ولطيفة في عينيّ الفرنسيّ. التمييز العنصريّ لا يمارسه الغربيّ ضد الكلاب. فالكلب الأشقر والكلب الأسود سيّان. تسقط ألوان الأبدان من الحسبان في عيني الفرنسيّ حين يتعلّق الأمر بالكلاب. ولا غرابة في أن تميل شقراء من جماعة " لوبان"، مثلاً، إلى احتضان كلب فاقع السواد!
راودت الرجل فكرة أغضبته وأثارت حفيظته. ماذا؟ وآخرتها؟ أيمكن أن أسقط رهينة في يد كلب؟ لم يستطع تحمّل أو تقبّل الفكرة. ولكنّه لم يجرؤ على الركض مجدّداً لأنّه لمس بقدميه أنّ الركض ليس حلاً.
قال: فكرة خالي أنقذتني إلى الآن من العضّ. ولكنّها حجزت حرّيتي، وكبّلت قدميّ. قال بينه وبين نفسه: "خاطر بحياتك، وستبقى على الأرجح على قيد الحياة". ولعلّ الحياة، قال، أرادت تمريني على خوض غمارها عبر أشداق الكلاب!
لم لا أصير كلباً؟ طبعاً، لا يمكن أن أكون كلباً إلاّ إذا مُسِخْتُ. ولكنّه قرّر خوض لعبة العضّ، وليكن بعدها ما يكون. وما هي إلاّ ثوانٍ حتى انحنى وصار على هيئة الكلب. يداه ورجلاه في الأرض. وبدأ يعوي، من خوفه، بأعلى حنجرته. هجم على الكلب وهو يعوي. كاد أن يصدّق للحظة أنّه كلب فقام بتمثيل دوره على أتمّ ما يكون. لقد تقمّص شخصيّته الكلبيّة الجديدة تقمّصاً بارعاً. استشرس واستكلب وهجم وفي نيّة أسنانه أن تعضّ الكلب من كلّ عزمها.
استغرب الكلب ما يراه من تحولات تطرأ على الرجل، فارتبكت غرائزه وجحظت عيناه من الحيرة. وجد أمامه كلباً "غير شكل" فراح يجري من غير أن يكفّ عن العواء والالتفات وراءه إلى هذا الكلب الغريب الذي يطارده بأسنانه وعوائه وشكله الذي لا يشبه الكلاب المألوفة لعينيه في عاصمة النور والكلاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق