الحياة "وجهة" نظر.
إنّ وجهة النظر أو بالأحرى كيفيّة استخدام النظر تغيّر من معنى المنظور إليه، وتفصح في الوقت نفسه عن أعماق الناظر، " قل لي ماذا ترى أقل لك من أنت"، فالنظر يلعب دور هويّة المرء إذ يكشف لنا الاحتمالات المنتظرة ( والفعل، بدوره، مأخوذ من النظر)، والعرب القدامى كانوا، لدقّة ملاحظة عيونهم، يطلقون عبارة " أهل النظر" على العلماء وأهل الفكر و"الرأي".
من الناس من يجمّد الأشياء عن طريق حبسها في وجهة نظر واحدة، أي أنّه يمسخها ويقزّمها بسبب تقليص الوظائف المحتملة لهذا الشيء أو ذاك إلى الحدود الدنيا، ومنهم من يمنحها حيوية الأحياء، ويتركها تمارس احتمالاتها المفتوحة ليختار الاحتمال الأنقى والأبقى.
ولا ريب في أنّ تطلعات الإنسان تساهم في تشكيل نظرته إلى الأشياء وتحديد ملامح مصيره. فهويّة الإنسان العميقة تكتبها تطلّعاته التي تضطرب في تلافيف فكره وتضاعيف روحه.
تطلّعات اليوم هي، أغلب الأحيان، يوميّات الغد، والمقصود بالتطلعات أحلام المرء الذاتية، تلك التي لا تنكسر أو تيأس، ولا تقول إنّ الظروف لم تسمح لي بتحقيق أحلامي. إذ من خصائص التطلّعات الذكيّة أنها تمتلك حكمة النهر في تعامله مع مجراه. لا يقدر ظرف من الظروف على منع النهر من تحقيق وصاله مع البحر، لأنه يملك في مجراه ليونة الأفعى والتعرّج الدالّ والبراغماتيّ، ولأنّه يمارس سياسة اللين مع ظروفه ذات المزاج المتعدّد والمتقلّب، والمتغيّر كجلد الحرباء. كنت قد قرأت منذ فترة حكمة صينية عن الماء تقول: " الماء يستسلم للسكين ولكنّه يظلّ معصوماً عن الجروح" بسبب ما تمتلكه طبيعته من لين سيّال. ولكن حكمة النهر وليونته لا تعني أنّه لا يغضب ولا تعني أنّه لا يجنّ جنونه، ويفقد السيطرة على أعصابه المائية في لحظة طيش أو نزق، ويتحوّل إلى طوفان كذلك الذي حصل، منذ أكثر من خمسين عاما، لنهر" أبو علي" الذي يبدو اليوم وديعاً كساقية مبحوحة الخرير.
ولنهر "أبو علي" قصة واقعيّة طريفة مع شجرة ليمون أيام الطوفة، تكشف عن أثر وجهة النظر في رسم واقع الأشخاص والمتوقّع منهم. وكبار السن أبناء السويقة وباب الحديد يعرفون غضبة "ابو علي"، ولا تزال، الى اليوم، ذكراه، في أي حال، على حيطان منطقة "المنكوبين" الرطبة التي أنجبها جنونه.
تعود القصة التي أودّ سردها إلى حوار جرى بين صديقين، وحّد بينهما الفقر، والجوع، والأميّة، وشيء من اليتم وما قد يستتبعه ذلك من تشرّد . تداعب كلاّ منهما أحلام لا تتعدى سنّ المراهقة، إلاّ أنّ مرمى أحلامهما لم يكن واحداً، واختلاف مرامي الأحلام يؤدّي إلى تمايز المصائر وتباينها، فالأوّل عثر على شجرة ليمون كان غضب النهر قد اقتلعها من تربتها وقذف بها إلى وسط المدينة، فاعتبرها من جملة النفع الذي يأتي به الضرر، غير أنّ ذلك الشخص لم ير في الشجرة إلاّ حطباً، علماً أنّ الشجرة ليست، بالضرورة، حطباً. فهي قابلة، كقلب شيخ الصوفيين ابن عربيّ، كلّ صورة. سأله صديقه وهو يراه يكابد بقامته الصغيرة في جرّها: إلى أين تذهب بها؟ أجاب: إلى الفرن. حاول صديقه إقناعه بتغيير وجهته فقط عن طريق تغيير وجهة النظر في شجرة الليمون، ولفت نظره إلى إمكانية الذهاب إلى المنشرة بدلاً من الفرن، لأنّ في تغيير الوجهة تحسيناً لقيمتها ولسعرها، فالفرن لا يحسن التعامل مع الخشب كما تحسنه المنشرة التي تقدّر إمكانيات الشجر، ولا تحبّ أن ترى الغنى رماداً، بالإمكان في المنشرة - قال الفتى- تحويلها إلى أجران متعدّدة الأحجام ومدقّات وأحجار "داما" لللاعبين، وراح ذلك الفتى يعدّد لصديقه الطاقات والاحتمالات العفيّة الكامنة في الخشب، لأنّ الشجرة في عين الفرن رماد، وفي عين المنشرة عجينة. فما كان من صاحب الشجرة إلاّ أنّ هزّ رأسه هازئاً من صديقه ومن " بالو الفاضي"، وتابع طريقه إلى الفرن. ومن الطريف اتهام من يفكّر، في بلادنا، بـ"فضاوة البال"! الحياة لا تتوقّف، والفَتَيانِ كبرا، نظرتهما للشجرة كانت نظرتهما للحياة نفسها. عرف الـ" بالو فاضي" كيف ينسلّ مع تطلّعاته من الفقر انسلال الشعرة من العجين، وأصبح عمله علامة تجاريّة، بينما صاحبه لا يزال يكتوي في شيخوخته بنار الفقر. واستطاع فتى المنشرة بـ"بالو الفاضي" بل بفضل "بالو الفاضي" أنْ يتعلّم فكّ الحرف وتركيبه بمجهوده الفرديّ رغم أنّه لم يعرف باب المدرسة في حين أنّ صاحبه بقي يشعر بغربة حارقة مع الحرف، ولا يحسن استخدام الحبر إلاّ لطبع بصماته.
وجهة النظر، لا غير، هي التي فرقت بين الطرفين، وجعلت الشجرة الواحدة شجرتين: شجرة قابلة للتصنيع، وأخرى مصيرها بيت النار.
تذكّرني شجرة الليمون بشجرة أرز فقدت روحها وكادت تفقد جثمانها العريق إلاّ أنّ الفنّان رودي رحمة لم يطاوعه قلبه في رؤية خشب الأرز حطباً أو خشباً بلا روح فعمد إلى تحويلها منحوتة شامخة وارفة الجمال والجلال تلفت نظر الصاعدين إلى قمم الأرز بروحها الفنية والفتية المتوثّبة.
للكاتب البريطانيّ الشهير برنارد شو عبارة ليست غريبة عن سياق المقال، يقول فيها:" اذكروا دائماً أنّ تصرفاتنا ومسالكنا في الحياة لا تتأثّر بالتجارب التي مررنا بها، وإنّما بالتطلّعات التي نصبو إليها".ويفترض بالتطلعات، فيما أظن، أنّ تكون نظراً إلى الأعلى احتراماً، في الأقلّ، لدلالة جذرها السامي "ط. ل.ع." الذي خرجت من رحمه مفردة " التطلّعات"، ومفردة أخرى، لا نقيم لها، على ما يبدو، وزناً كبيراً، هي الـ"مطالعة".
إنّ وجهة النظر أو بالأحرى كيفيّة استخدام النظر تغيّر من معنى المنظور إليه، وتفصح في الوقت نفسه عن أعماق الناظر، " قل لي ماذا ترى أقل لك من أنت"، فالنظر يلعب دور هويّة المرء إذ يكشف لنا الاحتمالات المنتظرة ( والفعل، بدوره، مأخوذ من النظر)، والعرب القدامى كانوا، لدقّة ملاحظة عيونهم، يطلقون عبارة " أهل النظر" على العلماء وأهل الفكر و"الرأي".
من الناس من يجمّد الأشياء عن طريق حبسها في وجهة نظر واحدة، أي أنّه يمسخها ويقزّمها بسبب تقليص الوظائف المحتملة لهذا الشيء أو ذاك إلى الحدود الدنيا، ومنهم من يمنحها حيوية الأحياء، ويتركها تمارس احتمالاتها المفتوحة ليختار الاحتمال الأنقى والأبقى.
ولا ريب في أنّ تطلعات الإنسان تساهم في تشكيل نظرته إلى الأشياء وتحديد ملامح مصيره. فهويّة الإنسان العميقة تكتبها تطلّعاته التي تضطرب في تلافيف فكره وتضاعيف روحه.
تطلّعات اليوم هي، أغلب الأحيان، يوميّات الغد، والمقصود بالتطلعات أحلام المرء الذاتية، تلك التي لا تنكسر أو تيأس، ولا تقول إنّ الظروف لم تسمح لي بتحقيق أحلامي. إذ من خصائص التطلّعات الذكيّة أنها تمتلك حكمة النهر في تعامله مع مجراه. لا يقدر ظرف من الظروف على منع النهر من تحقيق وصاله مع البحر، لأنه يملك في مجراه ليونة الأفعى والتعرّج الدالّ والبراغماتيّ، ولأنّه يمارس سياسة اللين مع ظروفه ذات المزاج المتعدّد والمتقلّب، والمتغيّر كجلد الحرباء. كنت قد قرأت منذ فترة حكمة صينية عن الماء تقول: " الماء يستسلم للسكين ولكنّه يظلّ معصوماً عن الجروح" بسبب ما تمتلكه طبيعته من لين سيّال. ولكن حكمة النهر وليونته لا تعني أنّه لا يغضب ولا تعني أنّه لا يجنّ جنونه، ويفقد السيطرة على أعصابه المائية في لحظة طيش أو نزق، ويتحوّل إلى طوفان كذلك الذي حصل، منذ أكثر من خمسين عاما، لنهر" أبو علي" الذي يبدو اليوم وديعاً كساقية مبحوحة الخرير.
ولنهر "أبو علي" قصة واقعيّة طريفة مع شجرة ليمون أيام الطوفة، تكشف عن أثر وجهة النظر في رسم واقع الأشخاص والمتوقّع منهم. وكبار السن أبناء السويقة وباب الحديد يعرفون غضبة "ابو علي"، ولا تزال، الى اليوم، ذكراه، في أي حال، على حيطان منطقة "المنكوبين" الرطبة التي أنجبها جنونه.
تعود القصة التي أودّ سردها إلى حوار جرى بين صديقين، وحّد بينهما الفقر، والجوع، والأميّة، وشيء من اليتم وما قد يستتبعه ذلك من تشرّد . تداعب كلاّ منهما أحلام لا تتعدى سنّ المراهقة، إلاّ أنّ مرمى أحلامهما لم يكن واحداً، واختلاف مرامي الأحلام يؤدّي إلى تمايز المصائر وتباينها، فالأوّل عثر على شجرة ليمون كان غضب النهر قد اقتلعها من تربتها وقذف بها إلى وسط المدينة، فاعتبرها من جملة النفع الذي يأتي به الضرر، غير أنّ ذلك الشخص لم ير في الشجرة إلاّ حطباً، علماً أنّ الشجرة ليست، بالضرورة، حطباً. فهي قابلة، كقلب شيخ الصوفيين ابن عربيّ، كلّ صورة. سأله صديقه وهو يراه يكابد بقامته الصغيرة في جرّها: إلى أين تذهب بها؟ أجاب: إلى الفرن. حاول صديقه إقناعه بتغيير وجهته فقط عن طريق تغيير وجهة النظر في شجرة الليمون، ولفت نظره إلى إمكانية الذهاب إلى المنشرة بدلاً من الفرن، لأنّ في تغيير الوجهة تحسيناً لقيمتها ولسعرها، فالفرن لا يحسن التعامل مع الخشب كما تحسنه المنشرة التي تقدّر إمكانيات الشجر، ولا تحبّ أن ترى الغنى رماداً، بالإمكان في المنشرة - قال الفتى- تحويلها إلى أجران متعدّدة الأحجام ومدقّات وأحجار "داما" لللاعبين، وراح ذلك الفتى يعدّد لصديقه الطاقات والاحتمالات العفيّة الكامنة في الخشب، لأنّ الشجرة في عين الفرن رماد، وفي عين المنشرة عجينة. فما كان من صاحب الشجرة إلاّ أنّ هزّ رأسه هازئاً من صديقه ومن " بالو الفاضي"، وتابع طريقه إلى الفرن. ومن الطريف اتهام من يفكّر، في بلادنا، بـ"فضاوة البال"! الحياة لا تتوقّف، والفَتَيانِ كبرا، نظرتهما للشجرة كانت نظرتهما للحياة نفسها. عرف الـ" بالو فاضي" كيف ينسلّ مع تطلّعاته من الفقر انسلال الشعرة من العجين، وأصبح عمله علامة تجاريّة، بينما صاحبه لا يزال يكتوي في شيخوخته بنار الفقر. واستطاع فتى المنشرة بـ"بالو الفاضي" بل بفضل "بالو الفاضي" أنْ يتعلّم فكّ الحرف وتركيبه بمجهوده الفرديّ رغم أنّه لم يعرف باب المدرسة في حين أنّ صاحبه بقي يشعر بغربة حارقة مع الحرف، ولا يحسن استخدام الحبر إلاّ لطبع بصماته.
وجهة النظر، لا غير، هي التي فرقت بين الطرفين، وجعلت الشجرة الواحدة شجرتين: شجرة قابلة للتصنيع، وأخرى مصيرها بيت النار.
تذكّرني شجرة الليمون بشجرة أرز فقدت روحها وكادت تفقد جثمانها العريق إلاّ أنّ الفنّان رودي رحمة لم يطاوعه قلبه في رؤية خشب الأرز حطباً أو خشباً بلا روح فعمد إلى تحويلها منحوتة شامخة وارفة الجمال والجلال تلفت نظر الصاعدين إلى قمم الأرز بروحها الفنية والفتية المتوثّبة.
للكاتب البريطانيّ الشهير برنارد شو عبارة ليست غريبة عن سياق المقال، يقول فيها:" اذكروا دائماً أنّ تصرفاتنا ومسالكنا في الحياة لا تتأثّر بالتجارب التي مررنا بها، وإنّما بالتطلّعات التي نصبو إليها".ويفترض بالتطلعات، فيما أظن، أنّ تكون نظراً إلى الأعلى احتراماً، في الأقلّ، لدلالة جذرها السامي "ط. ل.ع." الذي خرجت من رحمه مفردة " التطلّعات"، ومفردة أخرى، لا نقيم لها، على ما يبدو، وزناً كبيراً، هي الـ"مطالعة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق