نستعمل في
حياتنا اليوميّة تعبيراً رهيباً وشديد المكر، دون ان نفكّر بالخسائر الفادحة التي
يسبّبها لنا على مختلف الأصعدة الفكريّة، والإنسانيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة،
والفرديّة والجماعيّة، وهو تعبير: " ما بيأثّر" أي "لا يؤثر"
رغم أنّه يؤثّر، مع ما يتبعه من تعابير تعزّز مقامه، ومترادفات مخاتلة تصبّ جميعها
في خانة عدم الاهتمام وانعدام الحرفيّة والإتْقان من قبيل: "معليش"،
"ماشي الحال" و " شو صار؟"، "شو خربت الدني؟" وهي
تعابير نستعملها في الطالع والنازل، وأحياناً نستعملها في منعطفات هامة من حياتنا،
في أعمالنا وفي دراستنا، وفي تعاملنا مع أولادنا، ومع أنفسنا. وإذا ما توقّف المرء
طويلا أمام عبارة "ما بيأثّر" الرعناء والماكرة، وقام بإحصاء أضرارها
لأذهله ما تسببه من مشاكل وهدر صاخب وهدّار، فهي أضرار تعترضنا فجأة، كضربة قدر
وما هي في العمق وعند التأمّل إلاّ بنت شرعية لهذه العبارة الفتاكة والآثمة، ولا
علاقة للأقدار من قريب أو بعيد بهذه الأضرار، القدر مظلوم أحيانا! فليس هو الذي
يسخر منّا دائماً. عمل بسيط ناقص بدلاً من ان نعترف بتقصيرنا في إنجازه كما يجب، وبدلا
من أن نعيد النظر في هناته وسقطاته نقول: "ما بيأثر"، كتابة غير واضحة
بشكل جليّ نقول " ما بيأثر"، برغيّ لا يعيده الميكانيكيّ إلى مكانه
الطبيعيّ في السيارة، وحين نستفهم عن إغفاله تركيب هذا البرغيّ مثلا يبادر أسماعنا
المستغربة بالكليشيه المعهودة "ما بيأثر"، وكأنّ من وضع البرغيّ في
الأصل في السيارة من الولوعين بالهدر ومن هواة وضع الأمور في غير محلها ويحبّ أن
يعيش على سنّة أبي العلاء المعري في لزوم ما لا يلزم! حفرة صغيرة في الطريق ترى
البلديّة أن وجودها "لا يؤثر" على دواليب السيّارات وأرواح الركّاب رغم
ان الحفرة تحرق سلاف السيارة، كيس نيلون بدل لوح زجاج مكسور" ما بيأثر"،
خطأ مطبعيّ في كتاب "ما بيأثر" رغم انه يذبح المعنى احياناً من الوريد
الى الوريد، قارورة غاز تنفّس قليلاً "ما بيأثر"، و"منمشّي
الحال"، دهّان بعد أن ينتهي من عمله تلحظ انه " جلغم" نعلة الحائط مثلا
وحين تلفت نظره الى الأمر يقول لك: "نقطة بويا ما بتأثّر" إلاّ ان تراكم
هذا التعبير وامتداده الافعواني وتحركه الأخطبوطي يأكل حياتنا ويحولها إلى حياة
خالية من الروح والحيوية والجمال والإتقان، انها اشياء" لا تؤثّر" ،
فعلاً، في الظاهر على سير الأمور، ولكن "في الظاهر" فقط لا غير، والظاهر
سفّاح وان لبس مسوح النسّاك. أتساءل، على سبيل المثال، هل لهذا التعبير ما يقابله
في جزر اليابان أو في بلاد الألمان؟ قد يكون موجوداً، إلاّ انه من المستعبد ان
يكون استعماله يعادل شرهنا في استعماله.
ألا تتغيّر
دنيانا نحو الأحسن إذا ألغينا هذه العبارة العابثة بمقدّراتنا من حياتنا
وأدرجناها، لمحض الذكرى، في المتحف اللغويّ كجزء من تاريخ نتمنّى أن يندثر وينتهي؟
كلمات كثيرة في
حياتنا اليومية نستعملها دون ان نفهم أبعادها وأضرارها الخفيّة كالجراثيم، كلمات
تفتك بنا، تقتلنا، تشلّ حاضرنا وتشوّش تفكيرنا، تصوّر لنا الأمور على غير ما هي
عليه، ولا ريب في ان اللغة تفعل بنا
الأعاجيب دون ان نحسّ، فالانسان كائن لغوي بامتياز قبل أيّ شـيء آخر. يقول كاتب
أميركي شهير اسمه ادوارد سابير، وهو عالم لغوي وانتربولوجي، ان الإنسان يعيش تحت رحمة اللغة، هي قضاؤه
وفضاؤه، وهذا الرجل صاحب نظرية لا تخلو بعض عناصرها من حصافة فكرية، منها مثلا ان
الإنسان لا يمكن له ان يفكر إلا من خلال اللغة التي يستعملها، واللغة التي
نستعملها تقبض على حياتنا وتتحكّم بنا، وتأخذنا إلى حيث تريد ان لم نتعامل معها
بحذر وذكاء. وعليه فتعابيرنا قد تكون قيوداً أو أجنحة. والإنسان تعبر عنه كلماته
وتفصح عن أسراره وخباياه، وهذا باب من أبواب اللغة الحديث حيث يتناول اللغة على
ضوء علم النفس وهو ما يعرف بعلم اللغة النفسي، وهذا ما انتبه اليه العربيّ القديم
من خلال تعبيرين ثاقبين وهما:" إذا فتحت فاك عرفناك"، و" ما فيك
يظهر على فيك". وقد يعتبر البعض،
لأسباب تغيب عنّي!، أنّ هذين التعبيرين من تراثنا العربيّ الجميل مجرّد لعب أجوف
بالألفاظ. فالإنسان كلمة تأخذه وكلمة تأتي به أو بحسب الصياغة العامية "كلمة
بتاخدو وكلمة بتجيبو". وهذا الأمر لا ينطبق فقط على الناس البسطاء كما هو
المألوف، بل لا ينجو من مفعول الكلمة السحري إلاّ من أوتي حنكة عالية اليقظة،
وفطنة خارقة، لأنّ الكلام مراوغ المعنى
بقدر ما هو شفّاف.
لذا أرى من
الطريف والمفيد دراسة بعض التعابير أو الألفاظ، وتفكيكها، وتبيان جمالها أو قبحها،
سذاجتها أو خبثها أو كسلها. وأرشفتها وكتابة سيرها الذاتية وظروف حياتها والسياقات
التي قيلت فيها. فالتعابير كالناس، وككلّ شيء في الحياة، منها الساذج ومنها الغبيّ،
ومنها الفطن ومنها الألمعيّ، ومنها الباعث على الحياة ومنها ما يضع السمّ في دسم
العمر ويغتال الحياة، منها ما يحرّض على التغيير والتفكير ومنها ما يغري بإبقاء
الأمور على ما هي عليه ، أي منها ما لا يريد للحياة ان تمارس سنتها، وسنّة الحياة سنّة
غيمة في الجوّ، عملاً بمقولة "بقاء الحال من المحال"، ولكن ما أشرس أن
يتغيّر الحال إلى أسوأ. سنّة الحياة الطبيعية أن يكون الغد أجمل من الراهن، والراهن
أنضر من الغابر، وإذا ما كان العكس، ففي الأمْر خللٌ جللٌ، يثير علامة استفهام
عريضة، وعلامة تعجب أعرض.
ولكن ثمّة أزمنة خبيثة لا تحبّذ طرح الأسئلة أو
اصطياد الأجوبة رغم أنّ الانسان في جوهره صيّاد دلالات وغايات.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق